العاصفة النسوية تهبّ وتهزّ شوارع بيروت!

حياة مرشاد

 يصعب عليّ التعبير عادةً عن أي محاولة أو فعل إنتفاضة نسوية بتجرّد ودون إنحياز، فكيف إذا تعلّق الأمر بإنتفاضة مئات النساء الموجودات في لبنان؟ كيف لا أغرق بالعواطف غير المتّزنة في لحظة قيام نساء بتوجيه صفعة محقّقة للسلطة وللمؤسسات القمعية وللمجتمع الأبوي القاتل، بإسمهن وإسم جميع النساء اللواتي إمّا أسكنهن العنف الذكوري القبور أو كبّلهن بأغلال الشرف والعادات والوصاية أو دجّنهن حدّ القبول بالنظام التمييزي القائم والتماهي معه باعتباره الطبيعي والحامي؟ كيف لي أن أتحكّم بدموعي عند رؤية مئات الشابات الغاضبات والثائرات على واقع أقصاهن وهمّشهنّ لسنوات، وكأن بهن يقلن له بعزم “نحن هنا بالمرصاد، جاهزات للمعركة، لن تسكتنا، وسننتصر”؟ كيف أنام وقد أرّقني على مدى الأيام الماضية حلم مسيرة النساء والذي بتحقّقه إجتاحني بسيل ثورة وحب جارفين يعجز قلبي الصغير عن تحملهما؟!

وبعيداً عن المشاعر، أرى أنه في الواقع قبل 11 آذار ليس كبعده بالنسبة للحراك النسوي في لبنان، ففي هذا اليوم ولأول مرّة منذ سنوات إستطاعت مجموعات نسوية وطلابية شابة خلق حراك يبشّر بأمل قادم عنوانه التضامن والثورة النسوية. أكثر من 2000 إمرأة ورجل (بحسب تقديرات القوى الأمنية) مشوا\ين معاً في مسيرة النساء لمناسبة اليوم العالمي للمرأة، في ظلّ طقس عاصف مفاجئ ساهم لا شكّ بتقليص حجم المنضمين\ات، وتحت شعار “قضايانا متعددة، نضالنا واحد”. هذه المسيرة التي جابت شوارع بيروت وأحياءها بدءاً من ساحة ساسين في الأشرفية وصولاً إلى حديقة قصقص، تميّزت بحجم ونوعية المشاركة التي ضمّت نساءً ورجال من مختلف الأعمار والخلفيات وبشكل خاص من الفئة الشابة، ساروا\ن معاً بحماسة الثوّار وإيمان المؤمنين\ات بالتغيير، غير آبهين\ات لغزارة الأمطار المتساقطة فوق رؤوسهم\ن ولا لإستحكام البرد بأجسادهم\ن، ودون أن تتعب حناجرهم\ن من المطالبة والمناداة على مدى أكثر من ساعتين.

ولعلّ أبرز ما تميّزت به هذه المسيرة، الخطاب النسوي والتضامني والسياسي الجذري، الذي لم يسبق أن شهدناه في حراكات نسائية مشابهة في لبنان، مع حفظ حقّ ونضال جميع النساء اللواتي جاهدن على مدى السنوات الماضية ولا زلن من أجل حقوق النساء وحريّتهن. فلقد حدّدت منظّمات المسيرة أجندة وخطاب نسوي واضح لها، إنعكس في مختلف الإطلالات الإعلامية ورسائل الحشد على وسائل التواصل الإجتماعي، وثبّت في يوم المسيرة بحضور وحناجر جميع المشاركين\ات. إنطلقت المسيرة بمشاركة نساء ليس فقط لبنانيات، بل أيضاً سوريات وفلسطينيات وعاملات منازل أجنبيات، مع الإشارة إلى أنّ المطر الكثيف حال دون مشاركة نساء من ذوات الحاجات الخاصة رغم دعمهن للمسيرة. إنطلقت المسيرة رافعةً سقف الخطاب بإتجاه إسقاط النظام الأبوي والطائفي القائم، ورفض المساومة على حقوق جميع النساء دون الوقوع في فخّ الأولويات التي تهمّش حقوق على حساب أخرى وتحول دون خلق تضامن نسوي حقيقي. فقد علت الأصوات مطالبةً بكافة القضايا التي تمعن السلطة الذكورية- التمييزية القائمة بتهميشها، ولعلّ أبرز الهتافات التي تردّدت هي: “صوت المرأة ثورة، والذكورية عورة”، “كل قضية أولوية والتضامن هوي الحل”، “نحنا صوت الحرية وثورتنا نسوية”، “عالذكورية، عالأبوية، عالطبقية، عالرأسمالية، عالطائفية، عالعنصرية، على الكفالة، على التمييز… ثورة”، إضافةً إلى هتافات أخرى رافضة لقوانين الأحوال الشخصية التمييزية، تزويج القاصرات، حرمان الأم من حضانة أطفالها ومن حقها بمنح الجنسية، العنف الأسري، التحرش، الإغتصاب، إقصاء النساء عن مواقع صنع القرار والتحكّم بأجسادهن وحريتهنّ الشخصية…

وإلى جانب الخطاب النسوي السياسي التقاطعي، فقد كان ملفتاً حرص منظمات المسيرة على عدم التهافت والتزاحم لتصدّر المشهد وجذب الإعلام، بل شكّلت هذه المسيرة فرصة ومنبراً للنساء اللواتي يتم تغييب أصواتهن عادةً عن الإعلام والرأي العام، فكانت كلمة بإسم اللاجئات السوريات وأخرى بإسم طالبات الجامعات، مع العلم أنه كان من المفترض أن يتم أيضاً

إلقاء كلمة بإسم النساء ذوات الإحتياجات الخاصة، اللواتي تعذّرت مشاركتهن (السبب أعلاه) وأخرى بإسم العاملات الأجنبيات، تقرّر إلغاءها في اللّحظة الأخيرة حرصاً على سلامة وأمن هؤلاء النساء المطاردات والمهدّدات بالترحيل بشكل دائم وتعسّفي من قبل الأمن العام اللبناني.

في الخلاصة، أثبتت المسيرة هذه أن صوت النساء يعلو فوق صوت المعركة، أن التضامن هو أصدق وأفعل آداة للمواجهة، أن النساء قادرات على الإنتصار الدائم على صراعاتهن ومعاناتهن اليومية وقهرها بالنضال، وأخيراً أن الأمل بالتأسيس لحركة نسوية شابة قادرة على تحطيم الأبوية، وأخواتها من أنظمة القمع، بات أقرب اليوم أكثر من أي وقت مضى.

كل يوم للمرأة، كل النساء أولوية، كل القضايا نسوية، عاش نضال النساء في كل مكان!

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد