متلازمة ما قبل الحيض : بينَ الأسطورةِ والفزّاعة

“المرأة ما بتفهم ع حالها إنت كيف بدك تفهم عليها”، عبارةٌ ختمَ بها أستاذُ البيولوجيا درسَ الدورة الشهرية في الصف الثالث ثانوي مستنداً إلى حجج هورمونيةّ، دونتُها يومذاكَ مليّاً في وعيي، رفاقي دوّنوها ربّما على دفاتر ملاحظاتهم كواحدةٍ من هوامشِ المُقرّر الدراسي. تخرجتُ من الثّانويّة، التصقتِ العبارةُ ليسَ في وعيي فقطْ ولكن في سمْعي أيضاً، إذْ تردَّدت إليهِ كثيراً، كيف لا وهي الجملةُ النمطيّة لتأطيرِعلاقة المرأة بكيانها وعلاقة هذا الكيان بمحيطه.
في كتابه “التاريخ الطبيعي” كتب بلينيوس الأكبر ( 23- 79 م.) أشهر علماءْ ومؤرّخي الرّومان :”المرأةُ الحائضْ إذا نظرت إلى المرايا تخففُ من سطوعها، وإذا نظرت إلى العاج تسلبُ منه لمعته، وسربُ النحل إذا نظرَ إليها يموتُ على الفورْ”، قدْ يقولُ البعضُ إنّ هذا التوصيفَ دُفِنَ بمحاذاةِ مختلفِ الأساطيرِ والممارسات القديمة التي تعاملت مع الدورة الشهرية بوصفها دنساً للمرأة يمسُّ العقلَ والروح، لكنَّ أبسطَ الأمثلةَ تنسفُ هذا الحكمْ، الحضارةُ كنسَتْ مُسمّى الرّجس الروحي عند بعضِ الشّعوبْ، فيما لازمَ خيطُ التمييز الفيزيولوجيّ بحقّ المرأة النسقَ الحضاريّ.
فالدورة الشهريَة، تلك الوظيفة الحيويّة في جسد المرأة، والمحرّك الحيويَ لقطارِ البشريّة، تمثّلُ المدماكَ الأساسْ في النّظرةِ الدّونيّة للكيان الأنثويّ، إذْ تُصوّرُ المرأة باستمرار على أنها كائنٌ هورمونيّ يفقدُ اتزانهُ النّفسيّ والذّهني لأسبوعٍ كلّ شهرْ وهو ما اصطلحَ العلمُ الحديثُ على تسميته بالـ PMS (متلازمة ما قبلَ الحيْض)، وهي “مجموعةُ عوارضْ جسديّة ونفسيّة وسلوكيّة يصلُ عددها إلى المئتين يصيبُ بعضها ثلاثة من أصل أربعة نساءْ قبلَ الحيضْ وخلال أيامه الأولى” بحسبِ موقع “مايو كلينيك” الطبّي.

الدورة الشهريَة، تلك الوظيفة الحيويّة في جسد المرأة، والمحرّك الحيويَ لقطارِ البشريّة، تمثّلُ المدماكَ الأساسْ في النّظرةِ الدّونيّة للكيان الأنثويّ

متلازمة ما قبل الحيض تسكنُ عقولَ النساء وليس أجسادهنّ؟
على النقيضِ منَ السّائدِ طبّياً وبحثيّاً ، فتحتْ روبين شتاين الأستاذة المساعدة في كلية الطب النفسي بجامعة ستوني بروك – نيويورك، كوّةً في جدارٍ عمرهُ آلاف السّنين، عبرَ كتابٍ نشرتهُ عام 2017 بعنوان “أسطورة الهورمونات: كيف أنَّ النظريات غير المثبتة والسياسات الجندرية المتحيزة والأكاذيب التي نسجت عن فترة ما قبل الحيض ساهمت في عدمِ أخذِ المرأة دورها المستحقّ”، في هذا الكتابْ نقّبتْ شتاينْ في طبقاتِ وعيِ المرأة – المتشّكلة في رحلتها من الطفولةِ إلى البلوغِ ثمَّ الرّشد- عنْ رواسِبَ اجتماعيّة، ثقافيّة، إعلاميّة وطبّيّة خاصَمتْها مع هورموناتها، وتقول في السّياق:” قيلَ لنا في الكتب، الانترنت والمجلات أن متلازمة ما قبلَ الحيض تترصّدنا كلّ شهر، ابتلعنا فكرة أن أجسادنا يجب أنْ تكونَ مريضة وأنّنا أسيرات هورموناتنا”. سرديّةٌ نفسيّة – إجتماعيّة طوّقت متلازمة ما قبلَ الحيضْ ورمتْ بها في صندوقِ الوهمْ، ما عدا حالاتٍ اعترفت شتاين بوجودها ولكنّها لا تتعدّى نسبة الـ8 % من النساء، عتب شتاين لم يطالِ الطبّ والمنظومة الاجتماعية فقطْ بل أيضاً بعض النساء:” ستفقدي تاجك الجيد إذا قلتِ أنا لا أريد أن أفعل هذا الآن، ولكن إذا قلت أنها متلازمة ما قبل الحيض ، فهي بطاقةُ خروجك من السجن ، هي عذرُ المرأة عندما تحتاج إلى استراحة”.
نظريّةُ شتاين زخّمتْ الجدلَ الطّبّي القائمَ بخصوص متلازمة ما قبل الحيض، ففي عام 2012 أجرت جامعات تورونتو، أوتاغو، ويلنغتون، وديلهاوسي في كندا واحداً وأربعين دراسة حولَ تقلبات مزاج المرأة تماشياً مع دورات الطمث، وخلُصتْ إلى أنَّ دراسةً واحدة فقطْ من أصل ستةَ أثبت وجود روابط بين المزاج وفترة ما قبل الحيض، دراسةٌ تلقّفها المجتمعُ الطّبي حينها بكثيرٍ من الرّيبة، لأنّها فصلتْ بين العوارضِ الجسديّة لدورة الهورمونات والتأثيراتِ النّفسيّة، كما أنّ المنهجيّة المتبعة لم تكن دقيقة إذْ غطّت الدراسات دورةً شهريّة واحدة لكلّ إمرأة كما أنَّ النساءَ كنَّ على علمٍ بموضوعِ البحث بحسب موقع NHS الطّبيّ.

دراسةً واحدة فقطْ من أصل ستةَ أثبت وجود روابط بين المزاج وفترة ما قبل الحيض

العلمُ لمْ يقلْ كلمتهُ الأخيرة بعد؟
“نسبة الهورمونات في الجسدِ البشريّ بشكلٍ عامْ ليستْ ثابتة وتحكمها علاقة تأثير متبادلة بالاتجاهين مع العوامل النفسيّة والفيزيولوجيّة” يقولُ الدّكتور رضا خلفْ المختصّ بالطّبَ النسائيّ، ويضيفُ الدكتور خلفْ “أنّ أسباب متلازمة ما قبل الحيض غير معروفة حتّى الآن، والمتّهمان الرئيسيان هما هورمونيّ الاستروجين والبروجسترون اللذان ترتبطُ حركتهما الدوريّة الشهريّة بمجموعة عوارض جسديّة ونفسيّة تصيبُ النساءَ لفترة تتراوح بين أربعة وستة أيام”، وحولَ نسبةِ النّساء اللّواتي تعشْن الـPMS ونسبةِ الحدّة في العوارض يشيرُ الدكتور خلف إلى ” أنّنا كأطباء نسائيين خبرْنا مئات الحالات اكلينيكيّا نستطيع القولَ إنّ هناكَ نساءْ قدْ لا يعشّن أي عارضْ من عوارض ما قبل الحيض، وهناكَ نساءٌ تتفاوتُ العوارضُ وحدّتها لديهنّ بين دورةٍ وأخرى وبين مرحلةٍ حياتيّة وأخرى، والـPMS ليستْ استثنائيّة في حياةِ المرأة إلاّ في حالاتٍ نادرة تعرف طبيا بالـ(PMDD: Premenstrual Diaphonic disorders)، وهي تتطلّبُ معاينةً وعلاجاً طبيّين”.

هناكَ نساءْ قدْ لا يعشّن أي عارضْ من عوارض ما قبل الحيض، وهناكَ نساءٌ تتفاوتُ العوارضُ وحدّتها لديهنّ بين دورةٍ وأخرى وبين مرحلةٍ حياتيّة وأخرى

متلازمة ما قبلَ الحيضْ إذاً، حقلٌ دسمْ تتشابكُ فيهِ علوم الطبّ النسائيّ، الهورمونات، النّفس وعلم النّفس – الإجتماعي، فالنّواةُ المؤسِّسة للأبحاث الطّبية بشأنِ هذه الفترة الشّهريّة كانت سيكولوجيّة، إذْ عمدَ الأطباءُ في أواسط القرنِ التّاسع عشرْ إلى ربطِ “الهستيريا” والاضطرابات النفسيّة بالطّمثْ لكنّ مصطلح متلازمة ما قبل الحيضْ لم يُعمّم إلّا في خمسيناتِ القرنْ الماضي.
وعنِ الترابطْ الجدليّ بينَ شقّيّ الفيزيولوجيا والسيكولوجيا تقولُ الأخصّائيّة النفسيّة بنين يونس :” هناك بعضُ العوامل النفسية والجسدية التي تمر بها المرأة تجعلها أكثر عرضةً للإصابة بالإكتئاب وتقلّبات المزاجِ من الرّجل، وعندما نقول اضطرابات نفسيّة يجبْ أن نرجعَ إلى الطّفولة والبلوغ عندما كوّنت الفتاةُ صورةً عن نفسها بأنها ناقصة لأنها لا تمتلك العضو الذكري بل ينزل من عضوها المبتور الدّمَ، وهذه الصدمة تظهرُ على شكلِ اضطرابات نفسية مثل القلق أو الاكتئاب أو نوبات البكاء المفاجأة.” وعنِ الجانبِ السيكو- سوسيولوجي في هذا الموضوع تشيرُ يونس إلى أنّ ” المرأة أكثر قدرة وجرأة على التعبيرِ عن معاناتها وزيارة العيادات النفسيّة من الرّجل الذي يتجه إلى تفريغِ مكبوتاته بأمورٍ أخرى مثل إدمان الكحول أوالمخدرات وممارسة الرياضة فيما يعيبُ عليهِ المجتمعِ الضعفَ والبكاء”.
أسطورة vs. فزّاعة
بينَ حدّيّ الأسطورة والفزّاعة تقفُ متلازمة ما قبلَ الحيْض، أمّا النّساءُ فتبعاّ لمؤشرات التقدم الاجتماعي في مجتماتهنّ يتفاوتُ إحساسهنَّ بالتمييز، وتبقى عبارة “أكيد إنت هلق بدورتك الشهرية” عابرةً لكلّ المجتمعات والثقافات، لا تنفكُّ النساءُ تسمعها عند أبسطِ المواقفْ.
الكلمةُ الأخيرةَ للفصْلِ في هذا الموضوعِ الجدليّ، ربّما لنْ تخرجَ من مؤسّسةٍ بحثيّة ولا منْ كتابْ، بلْ من إرادةِ المرأةِ نفسِها، عبر التصالحِ معَ جسدِها، واتباعِ أسلوبِ حياةٍ صحّيّ، والتزوّدِ بأسبابِ القوّة الاجتماعية، وأيضاً انتشالِ الحيضِ من صندوقِ التّابو المركونِ في زاويةٍ قصيّة، لأنهَ مؤشرٌ حيويّ على أنّ الجهاز التناسليّ يعملُ بشكلٍ جيد، تماماً كدقّات القلب وتنفّس الرئتين، وليسَ خصوصيّة حميمةً تستوجبُ أطناناً من الستائر.

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد