عن سوريّات تعرّضن للظلم والاستغلال

تحلم سميّة يوميّا بالعودة إلى مدينتها الصّغيرة “مسكنة” في ريف حلب الشرقيّ، فهي تشعر بأنّها غريبة في هذه المدينة، لكنّ الحرب أخذت كلّ شيء، لم يتبقّ لها شيء هناك فبيتها تعرّض للنّهب وأصيب بأضرار كبيرة تجعل الرجوع إليه أمراً صعباً جدا في الوقت الحاليّ. فقدان سميّة لوالديها وأخيها خلال القصف، جعلها تفقد كلّ رغبة بالحياة “أعيش فقط لأتنفس، لا أشعر بالفرح تجاه أيّ شيء مستمرّة بالحياة رغما عنّي ومن أجل أطفالي فقط”.
لكنّ أكثر ما يؤلم سميّة هو المعاملة السّيئة التي تتعرّض لها من سكاّن المنطقة التي تقطن فيها، بعد أن نزحت منذ قرابة الأربعة أعوام إلى مدينة جرمانا على أطراف العاصمة دمشق “النّاس هنا يعاملوننا بفوقيّة ويعتبروننا غرباء عنهم أو بمستوى أقلّ منهم، حتى أنّ بعضهم لا يعتبرنا بشراً “.
تعمل سميّة في تنظيف البيوت، تخرج من الصّباح حتّى المساء لتتمكّن من مساعدة زوجها في تأمين قوت عيشهم، لكنّها تصطدم غالبا بنظرة أصحاب البيوت الدونيّة لها، إضافة إلى محاولة بعضهم عدم إيفائها حقّها بالكامل وإعطائها مبلغا أقلّ من الذي اتفقت معهم بشأنه وأقلّ مما تستحقّ.
“كلّ هذا لأنّني نازحة إلى مدينتهم، لو أنّ امرأة أخرى من نفس المدينة تعمل بنفس المهنة فأنا متأكّدة بأنّهم لن يعاملوها بالطريقة ذاتها”.
“النّظرة الدونيّة” ليست وحدها سبب معاناة سمية، فالعديد من النّساء النّازحات من مناطق مختلفة من سورية إلى أحياء دمشق وريفها ممن قابلناهنّ أثناء إعداد التحقيق، أكّدن أنّهن يتعرّضن لمعاملة سّيئة فقط لأنهن نازحات، وذلك على الرغم من التّنوع الموجود في أحياء دمشق إلا أنّ نظرة البعض تجاه النّازحين لا تخلو من قسوة أو تهكّم.
حتّى أنّ البعض ذهب بالأمر إلى حدّ تحميلهم أوزارا ليست بأوزارهم “نزحوا إلى هنا ليعيشوا بسلام تاركين أقربائهم يقاتلون مع الفصائل المسلحة” هكذا قالت امرأة من مدينة دمشق، رغم انتهاء المعارك الدائرة في العاصمة وريفها قبل عدّة أشهر.
قبل الحرب السوريّة، كان للتمييز الطبقيّ وجوداً خفيّ الملامح، وربما كانت أكثر من تعاني منه العاملات المنزليّات اللواتي كنّ يأتين من الأرياف ليعملن في بيوت الطبقة الغنية، حيث كان التمييز قائما على أساس سلطة المال ومقدار امتلاكه.

كشعب “متعايش” لم يكن الحديث عن هذا التمييز أمراً وارداً،لكنّ الحرب جعلت كلّ المشكلات الاجتماعيّة تطفو إلى السطح بل ظهرت خلالها مشكلات جديدة بشكل أكثر وضوحا وأخذ التمييز الطبقي أبعاداً وأشكالاً مختلفة كالتمييز على أساس مناطقيّ والتمييز على أساس الرأي السياسي، ووضعت الحواجز بين أبناء المناطق الموالية للحكومة السورية وبين أبناء المناطق المعارضة للحكومة، وهذا مايفسر ربما المعاملة الفوقية الت يتحدثت عنها سميّة وبقيّة النسوة اللواتي التقينا بهن.
من جانب آخر، شهد الصراع السوري فرار أكثر من 5.6 ملايين لاجئ إلى البلدان المجاورة في المنطقة،في حين أن أرقام مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية تشير إلى أن 6.6 ملايين آخرين لا يزالون نازحين داخل البلاد نصفهم تقريبا من النساء.
أم أيمن واحدة من هؤلاء الملايين، فقد نزحت مع عائلتها بعد وفاة زوجها قبل خمس سنوات من دير الزور إلى جديدة عرطوز، تمكّنت من استئجار منزل متواضع لتعيش فيه مع أولادها السّتة، في البداية كان الوضع مقبولا، إلى أن بدأ صاحب المنزل بالتودد إليها لإقامة علاقة معها لكنّها رفضت ذلك فهمّها الوحيد الاعتناء بأولادها، وبعد عدّة محاولات باءت بالرّفض طلب منها مغادرة المنزل حالا بل وقام برمي أغراضها في الشّارع، تصمت أم أيمن وهي تتذكّر ما حدث بأسى “قال لي من تحسبين نفسك أنت مجرّد نازحة، هناك ألف امرأة غيرك ستقبل بعلاقة معي، لكنك ستندمين لاحقاً عندما تبقين في الشّارع دون مأوى”.
استغلال المرأة يبدو في كلّ مكان، وخاصّة تجاه الأرامل اللّواتي ليس لديهنّ أيّ مصدر للدّخل، وإذ تعيش بعض النّساء وحيدات مع أطفالهن، يجعلهنّ هذا الأمر فريسة سهلة في نظر المعتدي، بسبب غياب الرجل “الحامي”، وفق اعتقاد شائع يفترض أنّ وجود الرجل كفيل بتأمين الحماية للمرأة،
وخاصّة إن كان المعتدي ممن لديهم المال والذين يسعون لإرضاء رغباتهم، في ظلّ عدم وجود سلطة يمكن أن تعاقب أو تردع هؤلاء، فإذا كان لديك المال يمكنك فعل أيّ شيء تريده.

لن يتورّع المعتدون عن ممارسة شتّى الضغوط وحتى باستخدام العنف في حال رفضت النّساء الخضوع لرغباتهم الجرمية

لم تستسلم أم أيمن، ذهبت وأولادها إلى بيت إحدى الصّديقات وبدأت البحث عن منزل آخر، لكنّها اصطدمت بالأرقام الخياليّة التي يطلبها أصحاب المنازل وخاصّة عند علمهم بأنّ المستأجرين نازحين ومن منطقة دير الزور تحديدا، المدينة التي يتمتّع سكّانها بصورة نمطيّة لا تلازمهم بأنّهم “أصحاب المال الكثير”، فقد طلب أحدهم ما يقارب 150 ألف ليرة سورية أي ما يعادل 350 دولار أمريكي لقاء إيجار شقّة مؤلّفة من غرفة وصالة، استمرّت أم أيمن في البحث مطوّلا حتّى وجدت غرفة صغيرة في بيت مشترك بإيجار مقبول يمكنها تسديده.
تقول الباحثة الاجتماعيّة “علياء” أحمد أنّه وفي ظلّ غياب قانون يحمي النساء، وبالنّظر إلى صعوبة الإبلاغ ضدّ مرتكبي الانتهاكات وتعقيد الإجراءات ثم عدم جدواها وانعكاسها سلباً على الضحيّة في أغلب الحالات، لن يتورّع المعتدون عن ممارسة شتّى الضغوط وحتى باستخدام العنف في حال رفضت النّساء الخضوع لرغباتهم الجرمية. وتضيف “علياء”: “من الملاحظ أنّ الشريحة الأكثر تعرّضاً لهذا الانتهاك تتمثّل في النّساء الفقيرات النّازحات، خاصة القادمات من مناطق سيطرة مقاتلي المعارضة، ممّا يجعلهنّ عرضة لمزيد من الابتزاز لدواعٍ أمنية أو سياسية، فتهمة “الإرهاب” حاضرة دوماً، وهنّ لا حول ولا قوة لهن”.
اعتقل زوج أم محمود قبل ثلاثة أعوام تقريباًعلى أحد نقاط التفتيش بالقرب من دمشق، بعد نزوح العائلة من منطقة داريا إلى منطقة قطنا لتبدأ رحلة أم محمود في البحث عن زوجها في الفروع الأمنيّة.
كانت تتعرّض للابتزاز في كلّ مرّة تطرق باباً لمعرفة مصير زوجها، أحد المحامين طلب منها مبلغا كبيراً من المال ليساعدها وعند استجابتها لطلبه تبيّن أنّه محتال، إذ توقف عن الردّ على اتصالاتها بعد استلامه للمبلغ ورفض كل محاولاتها للقائه او استرجاع مالها.
لم تترك بابا إلا وطرقته، من الشرطة العسكرية، وزارة المصالحة الوطنيّة القضاء العسكري وحتى محاكم الإرهاب لكنّها لم تجد أثرا لزوجها.
وخلال هذه الرّحلة الطّويلة من العذابات التي لم تنته، تعرّضت أم محمود للتحرّش من قبل عنصر في الأمن، تخبرنا بذلك دون أن تستطيع الكلام طويلا، فالخوف يلازمها من التفكير بالموضوع حتّى، لكنّها استجمعت قواها لتقول بأنّه طلب منها قضاء ليلة معه ليساعدها في معرفة مكان زوجها.
هذا ما جعل أم محمود تتوقّف عن البحث الذي بدا أنّه من غير جدوى.
في تموز يوليو الماضي استلمت أم محمود من دائرة السّجل المدنيّ وثيقة تقول بأنّ زوجها توفي نتيجة توقف في القلب بعد عام تقريبا من اعتقاله، الوثيقة التي قتلت أملها بانتظاره.

لا أستطيع شراء ما يطلبه أولادي” تتنهد فاطمة التي تقول بأنّها استجابت لطلب أحد أقرباء زوجها الذي أصبح يتردّد إلى منزلهم لإقامة علاقة معها.

خيار التبليغ عما تعرضت له من عنف جنسي ونفسي،لم يكن مطروحا لدى أم محمود في ظل حالة انعدام الأمن المرافقة للحرب ولصعوبات عديدة ترتبط بمخاوف من سلطة الفاعل،ويتردد الناجون عادة في الإبلاغ عن العنف القائم على النوع الاجتماعي لأسباب عديدة كالخوف من الوصم بالعار،الإقصاء الاجتماعي،الخوف مما يسمى “جرائم الشرف”، إضافة إلى الأعمال الانتقامية وهذا هو ما يمنع العديد من الناجين من الحصول على المساعدة لإنقاذ حياتهم.
أم محمود ليست الوحيدة التي لم تتمكن من التبليغ فعالميا وبحسب تقرير للـUNFPA عام 2014 فإن واحدة فقط من كل عشر نساء يقمن بالإبلاغ عن العنف المرتكب ضدهن.
بدوره أكّد المحامي حسان إبراهيم أنّ العديد من النساء القريبات لمعتقلين تعرضنّ لابتزاز من أجل معرفة مصير أقربائهم، كثيرات منهنّ قمن بدفع مبالغ ماليّة لمحامين أو عناصر في المخابرات دون نتيجة، مضيفا أنّ المحامي ممنوع من مراجعة الفروع الأمنيّة ولا يمكنه فعل شيء إلا عندما تتمّ إحالة المعتقل إلى القضاء، حتى في محكمة الإرهاب لا يتعدى دوره تقديم المذكرات وطلبات إخلاء السبيل وحضور الاستجواب.
ويضيف الأستاذ إبراهيم: “قصّة أم محمود ليست الوحيدة، الكثيرات ممن فقدن أزواجهنّ أو أحدا من عائلتهن ذهبن للبحث ومعرفة مصيرهن، الكثيرات اخترن الذهاب بدلا من رجال العائلة ظنّا منهنّ أنهنّ يقمن بحمياتهم وخوفا من اعتقالهم، فقد سمعنا الكثير من قصص عن رجال اعتقلوا أثناء البحث عن فرد من العائلة”.
بعد دخولها العام الثامن تصاعد تأثير الحرب السورية على هشاشة وضع النساء والفتيات السوريات،كما مزقت الكثير من الأسر ودمرت المدارس والمستشفيات.
في أوقات النزاع يتأثر الجميع بالعنف، إلا أن النساء والفتيات على وجه الخصوص يكن أكثر عرضة لخطر العنف، وخاصة العنف القائم على النوع الاجتماعي بما
في ذلك العنف المنزلي والعنف الجنسي والاستغلال الجنسي، وذلك بسبب غياب الحماية الاجتماعية، والافتقار إلى الوصول الآمن إلى الخدمات.
إن أثر العنف القائم على النوع الاجتماعي ضد النساء والفتيات بالإضافة إلى المعاناة والآثار غير الملموسة على نوعية الحياة والرفاه يمتد ليشمل تبعات على الناجية وعائلتها من حيث الصحة (النفسية والجسدية) والعمل و المال، وآثاره على الأطفال “أكثر من مجرد أرقام UNFPA”.
لفاطمة المرأة العشرينية قصّة أخرى، فقد اختفى زوجها منذ عامين ونصف تقريبا بعد نزوحهم من ريف الرقّة إلى دمشق دون أن تعرف أيّ شيء عن مصيره، تعيش مع أولادها الأربعة في منزل صغير ضمن بناء غير مكتمل، وتعمل في إحدى ورشات الخياطة بأجر لا يتجاوز سبعة آلاف ليرة سورية أسبوعيّ اما يعادل 16 دولار أمريكي تقريبا، لا يكفي لتسديد إيجار المنزل الذي تقطن فيه العائلة أو تأمين حاجات أطفالها.
“ضقت ذرعاً بهذا الحال، لا أستطيع شراء ما يطلبه أولادي” تتنهد فاطمة التي تقول بأنّها استجابت لطلب أحد أقرباء زوجها الذي أصبح يتردّد إلى منزلهم لإقامة علاقة معها.

كلّ ما يهمني أن ينام أطفالي وهم شبعى، أن يجدوا أمامهم كلّ ما يطلبون، العار الوحيد أن ينام أطفالي جوعى هذا هو العار

تتردّد فاطمة قبل أن تحكي قصتها خشية تعرضّها للملامة لكنّها تتابع “لا يهمّني ماذا سيقولون عني رغم خوفي في داخل نفسي من أن يصل الأمر إلى مسامع أقربائي الذين لن يترددون ثانية بذبحي غسلا للفضيحة والعار، كلّ ما يهمني أن ينام أطفالي وهم شبعى، أن يجدوا أمامهم كلّ ما يطلبون، العار الوحيد أن ينام أطفالي جوعى هذا هو العار”.
مؤخّرا تمّ الحديث عن حالات كثيرة كحالة فاطمة أو ما يمكن تسميته الجنس مقابل المال، ويلعب الوضع الاقتصادي المتدهور دورا هاما في تلك الحالات إضافة إلى غياب الرّجال لأسباب كثيرة من الاعتقال إلى الاختفاء والموت، لكنّ العامل الأهمّ في القصّة كلّها هو استغلال بعض الرّجال لحاجات أولئك النّسوة.
في قصص هؤلاء النّساء اللواتي تحلّين بالشّجاعة للحديث عنها عوامل تتقاطع فالنّزوح والفقر والفقد، ثلاثة أسباب تجعلهنّ عرضة للظلم والاستغلال من وجهة نظر مجتمع لم يرحم ما أبقت عليه الحرب.
ملاحظة: تم إخفاء الهويات الحقيقية للسيدات اللواتي شاركن قصصهن، واستبدال أسمائهن بأسماء وهمية، حرصا منا على حمايتهن أولا وللحفاظ على خصوصيتهن ثانيا.
كما تم الحصول على موافقة جميع السيدات اللواتي وردت قصصهن على نشرها في التحقيق بعد الاتفاق على إخفاء هويتهن الحقيقية.

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد