بين جبل محسن وباب التبانة: نروي حكايا نساء ناجيات من الحرب والعنف الأسري

بين قصّة جبل محسن وباب التبانة، وقصّة أبنائهما الذين خاضوا حربًا داميةً ضدّ بعضهما، هناك قصّة ثالثةٌ منسيّة، عن نساء ناجيات في المنطقتين. أولئك الناجيات، اللواتي عشن جولات القتال، إمّا بصمتٍ وإمّا بأصواتٍ خافتة خلف جدران منازلهن، تركت مآثر الحرب على حياتهن ندوبًا، لم تندمل بعد 5 سنوات من استسلام آلتها القتالية للـ “هُدنة”. نقول “هُدنة”، لأنّ كلّ ما في هاتين المنطقتين، لا يوحي أنّ أبناءهما دخلوا عمليًا خارطة “السِلم” الكليّ، لا في ذاكرتهم وجروحهم، ولا بأثمانٍ باهظةٍ يحملون وزرها.
وبين سُنّة باب التبانة وعلويي جبل محسن، صراعٌ تتأصّل جذوره تاريخيًا في ثمانينات القرن العشرين. جغرافيًا، تعيش هذه النساء الناجيات في أحياء المنطقتين المتفرقة. وجبل محسن، الذي يقع عند مرتفعٍ جبلي صغير يطلُّ على مدينة طرابلس، يمتدُّ من منطقة الملولة والمنكوبين شمالًا، وصولًا إلى مشروع الحريري جنوبًا وشارع الأرز شرقًا، يفصله عن منطقة باب التبانة شارع سوريا الذي تحوّل لخطِّ تماسٍ بين الجبهتين. ومنطقة باب التبانة، التي تقع في الطرف الشمالي من مدينة طرابلس، تحاذيها شمالًا بساتين الليمون، وجنوبًا مقبرة التبانة والأسواق، وشرقًا تحدّها منطقتي البداوي وجبل محسن، ومن الجهة الغربية نهر أبو علي ومنطقة الزاهرية. أمّا ضمن هذا النطاق الممتدّ والمتفرّق مذهبًا وتوجهًا سياسيًا، يتقاسم أبناؤه، البؤس والفقر والحاجة، وابتسامةً صغيرةً يقهرون بها حُزن وجهوههم الطيّبة.

كان يضربني ضربًا مبرحًا أمام أولادي، إلى أن انعكس سلوكه على ابني الكبير الذي أصبح يعاملني مثله، لدرجة يطردني من المنزل بالقوة أثناء نوبات غضبه

لكلّ امرأةٍ في جبل محسن وباب التبانة حكاية. وكلّ امرأةٍ هناك، قد تغفل عن امتلاكها لحكايتها الخاصة، بعد أن أصبحت في عداد الناجيات من الحرب. هناك، تعتقد النسّوة أنّ الحكاية الأصلية لهن، تتمحور حول أبنائهن وعائلاتهن وأزواجهن فقط، من دون أيّ مساحةٍ خاصةٍ يتفرّدن بتفاصيلها. وحين سـألتُ عددًا من النسوة في المنطقتين عن حكاياهن، بوصفهن ناجيات من الحرب، يضحكن ضحكة المتعجِّب: “كيف يعني ناجيات؟”. أستفيض بشرحٍ مقتضب، قبل أن يأخذني النقاش مع بعضهن ليتبيّن أنهن ناجيات من العنف المنزلي أيضًا، من دون أن يدركن معنى “النجاة”.
وهنا، نتشارك قصّة سمر وعليا، اسمان مستعاران لسيدتين، واحدة تعيش في باب التبانة وأخرى في جبل محسن، أختبرتا “امحتان” النجاة من العنف، في الحرب والمنزل.
معركة سمر مع العنف
تطلق سمر على حياتها، لقب “المعركة مع العنف”. وفي حين أحبّت وصفها بـ “الناجية من الحرب”، استطردت الكلام قائلةً: “وناجيةٌ من العنف الزوجي أيضًا”. سمر البالغة 48 عامًا، ولديها 4 أولاد، تزوجت “حبّ حياتها” كما تصفه، حين كانت تبلغ 18 عامًا. تغصُّ قليلًا حين تتذكر “حُبّها” الذي أصبح “طليقها” منذ 7 سنوات، بعد أن عاشت معه 27 عامًا، عانت فيهم من شتّى أشكال العنف والتعذيب والظلم.
لا تفصل السيدة الأربعينية ما اختبرته في الحرب، عن العنف الذي اختبرته مع زوجها السابق. “تتداخل الأحداث وتتقاطع، لا سيما أنّ تعنيفه كان مضاعفًا في الحرب”. تجلس سمر خلف ماكنية الخياطة، في محلها الصغير الذي استأجرته في باب التبانة. ضحكتها ونبضها العالي لافتيّن. “لقد أصبحتُ امرأة قوية بما يكفي بعد كلّ تلك الهزائم”. أثناء زواجها من الرجل الذي كان يملك بوسطة كبيرة لنقل الركاب على خطّ الشمال – بيروت، كان العنف المعنوي والجسدي والاقتصادي الذي يمارسه عليها وعلى أطفالها، محور يومياتهم. “كان مزاجيًا، وأحيانًا يرفض أن يشتري ربطة خبزٍ طوال شهرٍ كامل، رغم المال الوفير في جيبه”. تصف سمر طليقها بـ “الخّوان”، الذي كان يتركها وحيدًة مع أطفالها تحت القصف أثناء معارك الجبل والتبانة، شهورًا طويلة من دون أن يسأل عنهم. “لا أنسى صوته على الهاتف حين كنت اتصل به أطلب نجدته ليأخذنا إلى مكانٍ آمنٍ، فيردّ قائلًا: “حتى لو ماتت بنتي الصغيرة بتقبريها وما تتصلي تخبريني”.
قضت سمر جولات القتال، وهي تركض من مكانٍ لآخر، لتدبّر شؤون أطفالها الجائعين والمحرومين من كلّ شيء، فيما والدهم يركض منساقًا خلف نزواته. أمّا حين يزور منزله في الحرب لساعاتٍ قليلة من شهرٍ لآخر، “كان يضربني ضربًا مبرحًا أمام أولادي، إلى أن انعكس سلوكه على ابني الكبير الذي أصبح يعاملني مثله، لدرجة يطردني من المنزل بالقوة أثناء نوبات غضبه”.
قساوة الظلم الذي اختبرته سمر مع طليقها، انسحب على المحكمة الشرعية التي لجأت إليها، لكنها وقعت تحت رحمة “قاضٍ مرتشٍ” كما تصفه، إذا أرسل لها ورقة طلاقها غيابيًا، من دون أن تحصّل أدنى حقوقها وحقوق أطفالها”.
حاليًا، لا تكترث سمر التي تكدح ليلًا نهارًا من أجل تحصيل مالٍ يضمن لها العيش بكرامة، سوى لأمر ابنتها الصغيرة التي تبلغ 19 عامًا، بعد أن تخلى عنها الجميع حتّى أهلها، على إثر طلاقها. والأمل الساطع من وجهها، مردّه وفقها إلى “الإصرار على العيش”. فـ “لن أعيش مرًّا أصعب من الذي عشته، وكلّ همي أن تعود ابنتي إلى المدرسة وتدخل الجامعة، وأن لا تعيش ما عشته”.

الحرب بالنسبة لها “كانت هروبًا على الدرج”. تارةً للاختباء من القناصين والمدافع، وطورًا من يد زوجها السابق

عليا الحزينة تُقاوم
لا يختلف حال عليا عن حال سمر. كلاهما ناجيتان من عنف الحرب والزوج. الفارق الوحيد بينهما، في سياق النجاة وروايته. وعليا البالغة 45 عامًا، من سكان جبل محسن، هي أمٌّ مطلقةٌ لثلاثة أولاد تعيش في إحدى بيوت الجبل القديمة. هذا البيت، تدفع إيجاره القديم من مساعدات شهرية تصلها من عائلتها، إلى جانب 100 ألف ليرة لبنانية فقط، يدفعها طليقها شهريًا نفقة ابنها الصغيرة البالغ 10 سنوات، فيما شقيقيه البالغين 15 و20 عامًا، لا يأخذا منه شيئًا.
طليق عليا سوري الجنسية من حلب، كذلك أولادها لا يحملون الجنسية اللبنانية مما يحرم أطفالها من مختلف حقوقهم. الحرب بالنسبة لها “كانت هروبًا على الدرج”. تارةً للاختباء من القناصين والمدافع، وطورًا من يد زوجها السابق. لا جد وصفًا لقسوته معها سوى بـ “الجبّار”.
خلال المعارك، كان طليق عليا يتوارى عن الأنظار لأيام طويلة. هذا الاختفاء، سبب حالةً من الهلع لها ولأطفلها، نتيجة التهديدات التي تلقتها بعد أن أصبح زوجها “مشبوهًا” لدى أبناء الجبل والقوى الأمنية. “لا أدري تحديدًا ما كانت نوعية عمله أثناء المعارك، ولكن ربما كان يتاجر بالسلاح الحربي”. خلال 3 سنوات من المعارك، قضت عليا حياتها مع طليقها بالعنف الجسدي واللفظي. “كان شكاكًا لدرجة مرضية ولا يثق بكل من حوله، وهو ما يدفعه لإهانتي بكلامٍ جارحٍ لا يحتمله أحد”.
تبدو عليا امرأةً مكسورةً، كأنها لم تنجُ بعد. ثمّة علامات في جسدها طُبعت أثناء الحرب، تذكرها بوجع سنينها. تنظر لإصبعها المكسور وتقول: “كسر إصبعي ذات مرة،لأنه وجدني عند جارتي أثناء عودته المفاجئة إلى المنزل خلال الحرب”. عملت عليا في تنظيف المنزال وفي مطابخ صالات الأعراس وفي عددٍ من المحال التجارية. لكنّ الآن “الوضع الاقتصادي في الجبل متدهور جدًا ولا أجد من يشغلني عنده”. لكنّها لا تكلًّ أبدّا في بحثها الدائم والدؤوب عن فرصة عمل، تعيلها في الانفاق على أطفالها. أمّا مرارة عيشها، فهي أهون عليها من عيشٍ مع الرجل الذي خلعته في المحكمة الشرعية قبل 3 سنوات. وكلّ ما تحلم به هو “أن يشعر أطفالي بتعبي، وأن يدركوا يومًا، أنّ كلّ ما أفعله هو لأجلهم”.

هنا، السيدات يختلفن سياسيًا ودينيًا فيما توحّدهن معركتهن ضدّ العنف القائم على النوع الإجتماعي
تحكي شيماء، وهي المسؤولة عن جلسات الدعم النفسي في إحدى مؤسسات المنطقة الاجتماعية، على خطوط التماس الفاصلة سابقًا، عن تجربتها في جلسات الدعم النفسي، التي كانت تهدف لدمج السيدات بين منطقتي جبل محسن وباب التبانة والقبة ومختلف أحياء النزاع. شيماء التي جاءت من حماه، وعاشت الحرب هناك على مدار عامين تتنقل بين سوريا ولبنان لإكمال دراستها الجامعية في علم النفس قبل أن تستقر نهائيًا في طرابلس، لا تزال صور أشلاء الجثث المرميمة على الأرض تلمع في ذاكرتها. عندما استقرت شيماء في لبنان، أول منطقة عملت فيها هي جبل محسن وباب التبانة، وكانت الأوضاع هادئة نوعًا ما. فـ “في أول جلسة دعمٍ نفسي بادرنا بها لسيدات من المنطقتين، كانت أصعب جلسة وأكثرها عنفًا، نتيجة مشاحنةٍ كلامية بينهن، لأنهن لم يدخلن بعد في مرحلة السلم بعد معارك الدم، لغياب الثقة كليًا. ولأنني كنت آتية من بيئة حرب، أدركت أكثر نوعية المشاعر التي يمروون بها، والسجال الطائفي والمناطقي الذي دار بينهن، قبل أن يدركن أن حالهن واحد، ويتصافحن بعد نزاعٍ كلامي طويل”.

بعد العمل على مراحل مع مجموعة كبيرة من السيدات، “فهمن أن ظروفهن متشابهة، وصار هناك نوع من التعاطف بعد أن تعرفن على بعضهن

عندما فُرضت الخطّة الأمنيّة في العام 2014، كانت المرحلة الأهم من عملية “الدمج”، وفق شيماء، لأنها كانت المرة الأولى التي يجلسن النساء سويًا من دون أن تكون آلة القتال دائرة. في ذلك الوقت، وبعد العمل على مراحل مع مجموعة كبيرة من السيدات، “فهمن أن ظروفهن متشابهة، وصار هناك نوع من التعاطف بعد أن تعرفن على بعضهن، وأدركن ضرورة أن يسمعن بعضهن البعض، للتصالح مع مشاكلهن التي انعكست على سلوك أولادهن الخطر”.
تشير شيماء أن هؤلاء السيدات، هن ناجيات من شتى أشكال العنف الأسري والاجتماعي ومن الحرب، وأن كلّ سيدة كانت تظن أنّها تعاني وحدها، لا سيما أنّ الضغط عليهن تضاعف أثناء الحرب، بعد أن خرج أزواجهن إما للقتال أو للعمل.
إذن، في جبل محسن وباب التبانة، سيدات كثيرات فقدن أزواجهن وأطفالهن وشبابهن، وبقين من دون معيل. بعضهن متعلمات يعملن، وبعضهن الآخر سيدات منازل، والبعض منهن لا يعرفن القراءة والكتابة. أمّا الخوف المتسلل في أحياء مناطقهن، فكان مردّه لـ “الرعب” من الآخر المختلف، دينًا وانتماءًا وتوجهًا، وهو ما زال الحاكم الخفيُّ هنا.

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد