حياة قيد الإنتظار: قصص نساء في المحاكم الدينيّة في لبنان

يتفرّد لبنان بـ 15 قانونًا منفصلًا للأحوال الشخصيّة بحسب الطوائف المعترف بها؛ تقيّد بمعظمها حقّ المرأة في الإنفصال عن زوجها وإن تحقّقت الأسباب الموجبة لذلك. خلال التحقيق إكتشفنا المعاناة اليوميّة من حيث كثرة الشكاوى المتعلقة في إصدار الأحكام، من الإستنسابية في المعاملة، إلى كلفة المحاكمات وإنتشار الرشاوى بين الرجال والنساء على حدٍ سواء، غير أن النساء يشكين خاصّة من ثقل القيود الماديّة والنفسيّة والصعاب التي يواجهنها، من المماطلة وطول أمد المحاكمات كما خسارة حقوقهن الماديّة في أغلب الحالات للحصول على الحريّة. تقرير إستقصائي يُلقي الضوء على البعض من هذه المسارات غير العادلة والتي تؤدّي إلى خلّل إجتماعي، إلى اللامساواة على أسّس المواطنة. هي حياة نساء قيد إنتظار الأحكام.

إعداد: زينب محسن

إشراف ومتابعة: د. ربى الحلو

تتخبّط سامية (إسم مستعار)، منذ ست سنوات، في دهاليز المحكمة الجعفرية لأن زوجها يرفض تطليقها.

لا تعلم سامية ما عليها فعله تخرج حائرة، مرتبكة من غرفة القاضي وهي تحاول التفتيش عن حلّ. تمكّن زوجها السابق من وضع قرار يمنعها من السفر خارج لبنان. عليها العودة فورًا إلى عملها وولدها. حاولت سامية تجنب طلب الطلاق، لكن وصل العنف الذي تعرضت له من زوجها إلى حدّ الشروع بالقتل. تخبرنا قصّتها التي قد تشبه قصص الكثيرات من النساء اللواتي يتعرضن للعنف من الشريك، تقول: “كان يسحبني من شعري من غرفة إلى غرفة. يحبسني بالقبو، والكثير من الأحيان يضع المخدة على وجي ويصرخ ’موتي’”. لكن بالرغم من كلّ ما حصل، لم يعتبر القاضي أن ذلك كافٍ لإصدار حكم طلاق سامية!

بادرت سامية كونها تعيش خارج لبنان بتنفيذ حكم طلاقها المدني وبالتالي تمكّنت من تفعيله في لبنان ونقل نفوسها من قيد زوجها السابق وأعادته إلى قيد أبيها. بهذه الخطوة إعتقدت أن معاناتها إنتهت. غير أن مفاجأة كانت بإنتظارها في مطار بيروت فور وصولها لزيارة أهلها بعد انقطاع دام سنوات طوال: صادَرَ الأمن العام جواز سفرها بحكم قضى بـ”منع السفر” صادِر عن المحكمة الجعفرية. ولدى مراجعة المحكمة، تبيّن أن زوجها السابق رفع عليها هذه الدعوى إضافةً إلى دعوى “طاعة ومساكنة” نفذّتهما المحكمة دون تبلغيها. لدى مواجهة القاضي بما لديها من أوراق تثبت طلاقها، مدعومة بإخراج قيد فردي وعائلي يؤكّد أنها عادت إلى قيد الوالد، أجابها القاضي بأن طلاقها لا تعترف به المحكمة الجعفريّة كونه صادر عن محكمة مدنيّة.

ويأتي الحلّ لهذه المعضلة من حيث لا تدري، وإذ بصوت ينصحها “برطلي وبيمشي الحال”. بحوزتها مبلغ الـ200 دولار أميركي فقط لكن ذلك كان كفيلًا لرفع منع السفر بذريعة أن الدعوى مضى عليها عامين وصاحب الدعوى لم يحضر الجلسة وبالتالي تسقط تلقائيًا!

لحين كتابة هذا التقرير لم تزل قضيّة طلاق ندى (إسم مستعار)، معلّقة: ضُربت وطُردت من منزلها والسبب هو أن زوجها قرّر الزواج بأخرى. لم يكن سلوكه العنفي تجاهها مستجدًا، هذه كانت عادته. فضَّل الإستغناء عنها وعن أطفالهما الأربعة دون التفكير حتّى بنفقة. “أثبت لدى القاضي في المحكمة الشرعيّة السنية أن زوجي يُعنفني، وأنه طردنا ولم يدفع فلسًا واحدًا منذ أربع سنوات أيّ منذ تاريخ طرده لنا”، تخبرنا ندى. لم يحضر الزوج أيّ من الجلسات، رغم ذلك يرى القاضي أنه بحاجة لدراسة الملف والتدقيق به.

 

التعتيم على الأرقام

في ظلّ غياب واضح للأرقام والمعطيات حول عدد القضايا العالقة في المحاكم الدينيّة، تُظهر دراسة لمنظّمة “هيومن رايتس ووتش Human Right Watch” تطلّب العمل عليها ثلاث سنوات نُشرت في العام 2015 وحملت عنوان “لا حماية ولا مساواة: حقوق المرأة في قوانين الأحوال الشخصيّة اللبنانيّة” أن النساء يعاملن على نحو أسوأ من الرجال عندما يتعلق الأمر بإنهاء العلاقة الزوجية وحضانة الأطفال.

شملت الدراسة نحو 447 حكم قضائيّ من مختلف المحاكم الدينيّة في لبنان وتضمنت 72 مقابلة مع نساء ومحاميات ومحامين، قضاة وأخصّائيات كما أخصّائيين إجتماعيين.

إذًا لا إحصاءات، لا أرقام ولا تقارير صادرة عن المحاكم لتشرح بالتفصيل عدّد حالات القضايا المعلّقة في المحاكم الدينيّة ولا ندري إن كان هنالك أيّ إستراتيجيّة لنشر التقارير أو ربما سياسات حاليّة أم مستقبليّة حول وضع هذه القضايا في نصابها الصحيح وتقديمها للرأيّ العام؟

بناء على كلّ ما سبق، توجهنا إلى ستّ محاكم دينيّة وتقدمنا بطلب رسميّ لدى رؤسائها للحصول على المعلومات حول القضايا العالقة. شمل الطلب المحكمة الجعفريّة، المحكمة الشرعيّة السنيّة، المحكمة الدرزيّة، المحكمة المارونيّة، محكمة الروم الأرثوذكس، المحكمة الإنجيليّة وتضمن الطلب البيانات التالية: تاريخ تقديم الدعوى؛ تاريخ الإنتهاء منها؛ من مقدّم الدعوى (الزوج أم الزوجة)؛ أسباب الطلاق، الحقوق الماليّة للزوجة (هل حصلت عليها كاملةً، جزئيًا، أم خسرتها كاملةً).

استجابت محكمتين فقط لطلبنا وهما المحكمة السنيّة في بيروت والمحكمة الإنجيليّة، فيما رفضت المحاكم الأخرى تقديم أيّة معلومة والذريعة هي إمّا عدم توفر الإحصاءات، أو أننا لا نستطيع الحصول عليها كونها خاصّة ولا يشملها قانون الحقّ في الوصول إلى المعلومات. في حين يشير القانون في مادّته الأولى من يستفيد من هذا القانون “يحقّ لكلّ شخص طبيعي أو معنوي الوصول إلى المعلومات والمستندات الموجودة لدى الادارة والإطلاع عليها” ويوضح لاحقًا مفهوم الإدارة وفق القانون لتشمل المحاكم والهيئات والمجالس ذات الطابع القضائي أو التحكيمي، العاديّة والأستثنائيّة، بما فيها المحاكم العدليّة والإداريّة والماليّة دون المحاكم الطائفية.

توجهنا إلى مكاتب منظّمة الـ”هيومن رايتس ووتش” في بيروت، والتقينا بنائبة مدير قسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والباحثة المشاركة في الدراسة لمى فقيه. أطلعتنا فقيه على الصعوبات اللاتي واجهت فريق العمل في سبيل الحصول على المعلومات، إذ رفضت المحاكم الروحيّة والمذهبية اطلاعهم رسميًا على ملفات القضايا والأحكام الصادرة فيها. فيما اقتصرت الموافقة على المحاكم الجعفريّة والسنيّة، وتمّ الإستعانة بقرارات وأحكام من محاميّات ومحامين كما من أرشيف منظّمات من المجتمع المدنيّ.

تشير الناشطة في مجال حقوق الإنسان والمحامية عتيبة المرعبي إلى أن مشكلة طول أمد المحاكمات في الكثير من الأحيان، لا تعود إلى القاضي بقدر ما هي متعلقة بآليات التنفيذ والتبليغ “حيث تفتقد المحاكم في الأطراف على سبيل المثال في حلبا والبيرة (قضاء عكار) الموظف الذي يبلغ بالقضايا أو ما يُعرف بـ “المباشر”. عوضًا عنه يستعين القضاة بالمخافر لتبليغ أحكام النفقة والتفريق… الأمر الذي يؤدي إلى تأخير التبليغ لأشهر، أو إلى عدم تبليغه أبدًا”.

 

هنالك حقيقة في الأرقام

زدنا حماسةً وإصرارًا على محاولة فهم لما يحصل كلّ ذلك، وزدنا تساؤلًا عن سبب كلّ هذا التأخير والمماطلة في بتّ أحكام وقضايا محقّة؟ أسبوعًا كاملًا قضيناه في محكمة بيروت السنية وتحديدًا في غرفة الأرشيف الضيّقة والمكتظّة بالملفات السمراء. نقرأ الملفات وأوراق الدعاوى وسجلات جداول وتواريخ كما أرقام بالإضافة إلى ملاحظات تمّ تدوينها. في أغلبها هي قصّص لنساء لم ينصفها القانون أو غضّت العدالة الطرف عنها.

بالفعل تشير الأرقام التي خلصنا إليها بعد مراجعتنا لـ46 حكمًا قضائيًا في “الطلاق والتفريق” صادرة عن المحكمة ما بين عامي 2016 و2018 أن متوسط فترة المحاكمة في الدعاوى المقدمة من قبل المرأة تصل إلى246  يومًا أيّ نحو ثمانية أشهر بينما تصل إلى 10 أيام فقط في الدعاوى المقدمة من الرجل!

فيما تنازلت المرأة عن حقوقها المادية كليًّا من مؤجل المهر والنفقة في 28 دعوى من أصل 46؛ وجزئيًا في 14 منها. بينما تُبين أربعة دعاوي فقط أنّ المرأة حصلت على كامل حقوقها الماليّة! واللافت أيضًا أن بين الدعاوى الـ36 المقدّمة من قبل المرأة، كان العنف الجسدي أو اللفظيّ السبب الأساسيّ للطلاق في 55 بالمئة منها. وتوزعت النسب الباقية بالتساوي تقريبًا بين الخيانة وعدم الإنفاق، العجز الجنسيّ والغيبة بالإضافة إلى أسباب عامة مثل عدم التفاهم أو أسباب غير معروفة.

لم تقدم لنا المحكمة الإنجيلية، سوى تواريخ المحاكمات وتحفّظت على ذكر أية تفاصيل متعلقة بالأسباب أو بالحقوق الماليّة. تبين لنا بعد المراجعة 32 دعوى فسخ زواج على نحو أقلّ من عشر سنوات بقليل وتحديدًا بين الأعوام 2008 و2017، أن لا فرق في متوسط فترة المحاكمة بين الدعاوى المقدمة من قبل الزوج والمقدمة من قبل الزوجة، إذا تستغرق نحو العامين كفترة زمنية يشترطها القانون قبل إصدار الحكم.  بينما يشترط القانون انقطاع الزوجين عن السكن مع بعضهما لمدة تتراوح بين سنتين وخمس سنوات، يعود تقديرها للمحكمة، “وإذا لم تفلح الجهود بإقناعهما بالرجوع إلى السكن والعلاقة الزوجية يحقّ لكلّ منهما الطلب من المحكمة فسخ الزواج وتحديد المسؤولية عن انقطاع المساكنة”.

تعكس هذه الأرقام التمييز الممنهج ضدّ المرأة والمرسّخ بموجب قوانين صادرة عن المجلس النيابي، إذ أن الطلاق عند السنة والشيعة يحصل بالإرادة المنفردة للرجل دون سبب ويمكن أن يقع غيابيًا، بينما لا تحصل المرأة على هذا الحقّ إلا مشروطًا عبر إدراجه في عقد الزواج، وهذا نادر الحدوث إما لجهل النساء به، وإما لرفضه من قبل المجتمع. وقد تكون هنالك نوعًا من الحقيقة في الأرقام، حيث تُظهر دراستنا أن امرأة واحدة فقط دوّنت شرط العصمة في عقد زواجها من أصل 46. النسبة عينها خلصت إليها دراسة هيومن رايتس وووتش، فمن أصل 150 حكمًا تعلق بقضايا الطلاق عند السنة والشيعة، تبيّن أن 3 أحكام فقط صدرت بناءً على قدرة الزوجة لتنفيذ حقّها.

 

طلاق الحاكم والبحث عن حلّ

لا يوجد “تفريق” ولا سبيل إلى الطلاق لدى الطائفة الشيعة في حال تعنّت الزوج إلا باللجوء إلى “طلاق الحاكم” أيّ بالحصول على حكم من أحد المراجع الدينيّة لدى الطائفة، مع العلم أنّ النساء اللواتي يحصلن على الطلاق من العديد من المراجع الفقهيّة، يجدن صعوبة في الكثير من الأحيان لتثبيته فينتج خللٌ جديد في حيوات تلك النساء اللواتي حصلن على الطلاق، لكن لا يستطعن تنفيذه.

أكداس مكدّسة من الملفات على طاولة رئيس المحكمة الشرعية في المجلس الشيعي الأعلى السيد علي مكي، المكلّف حصريًا من قبل المجلس؛ يخصّص مكي يومًا واحدًا في الأسبوع لمتابعتها في مكتبه في بيروت. تشكّل هذه المركزية عقبة أمام النساء اللواتي يضطررن أن يحضرن من مناطق بعيدة. مكتبه هو المقصد الأسبوعي للكثيرات مثل “جمال” القادمة من مدينة صور، تروي لنا أنه لديها حكم بعدم الإنفاق من المحكمة، وتقرير من الطبيب بالعجز الجنسي للزوج، والأهم بالنسبة لها سوء العشرة والأخلاق من قبل الزوج. “أنا لست بخير ولا أريد البقاء معه، لكن رئيس المحكمة لا ينفك يُقدم له الفرصة تلو الأخرى ليصحح مساره”، تخبرنا جمال.

عدد دعاوى الطلاق التي قدمت طوال عقد من الزمن لدى القاضي مكي هو نحو 2467، يتمّ البت عادةً بي نحو 25 إلى 30 قضيّة سنويًا. فلا تنال كلّ امرأة تطالب بالطلاق من زوجها هذا الحقّ سوى لدى تقديمها كافّة الأدلّة والأسباب الموجبة! فيما يمكن للرجل أن يُعيد زوجته إلى المنزل رغمًا عنها في إطار دعوى “الطاعة والمساكنة”.

في المحاكم الروحيّة المسيحيّة، ٍيشكو الكثير من الأزواج المتقدمين لدعاوى بطلان زواج، طول أمد المحاكمات (قد تستمر لسنوات طوال)، والكلفة الباهظة التي قد تصل إلى أكثر من 15 ألف دولار في بعض المحاكم. “يخلط المتاقضون بين أتعاب المحامين ورسوم المحكمة المحدودة” يشرح لنا المشرف على المحاكم المارونية المطران حنا علوان، ويؤكّد أن المحكمة تدخلت لتحدّ من هذه الظاهرة ففرضت على المحامين وضع نسخة من عقد الأتعاب لديها حيث حدّدت هامش الأرباح للمحامين ما بين 1000 و5000 دولار أميركي. وترصد المحكمة مبلغ يعادل الـ200 ألف دولار كمعونة للأشخاص غير القادرين على دفه تكاليف قضاياهم. “تشكل تلك الشريحة نحو 60 بالمئة من الحالات”، يضيف علوان ويقول: “لا تأخذ الجلسات وقتًا طويلًا، لكن المفاعيل الأخرى مثل النفقة، الحضانة والحراسة قد تطيل أمد المحاكمات خاصّة لدى وجود خلاف كبير بين الطرفين المتنازعين”.

في شهادة قدمتها “نغم” لمنظمة عدل بلا حدود ضمن مشروع “من أجل وصول النساء إلى العدالة”، تروي أنها إحتاجت إلى 12 عامًا لتنهي زواجًا دام خمس سنوات لأنها لم تكن تملك المال لمتابعة المحكمة التي رفضت بطلان زواجها رغم سوء معاملة الزوج وتعنيفها.

قد يلجأ البعض إلى تغيير الطائفة أو المذهب للحصول على الحريّة، لكن ذلك يزيد من واقع الحال تعقيدًا وفق رئيسة منظمة عدل بلا حدود المحامية بريجيت شالابيان أن “تغيير الدين أو الطائفة لا يحرّر الزوجان وإن أصبحا مطلقين في المحكمة التي انتقلا إليها، إلا أن زواجهما لم يزل في سجلات الكنيسة”.

هل نحن نتيجة ثقافة قمعيّة والحدّ من حريّة الفرد تحت شعار العادات والتقاليد؟ ما هي نتيجة حجز الحريّة وحياة فرد لتصبح رهن المماطلة، إنتظار الفرج وربما السماح؟ كيف لنا المطالبة بحقوق ومساواة جندريّة فيما نحن لسنا متساويات أمام 15 قانون أحوال شخصيّة؟ كيف تصبح مسألة خاصّة مثل الطلاق، مسألة عامّة تتحكم بها المحسوبيات، الأعراف، البيروقراطيّة الإداريّة… إلخ

تقول المعالجة النفسية جيزال أبي شاهين أن حجز الحريّة هو نوع من أنواع العنف، “أنت تجبرين شخصًا أن يعيش في مكان ما وبوضع يرفضه تمامًا. ومن ثم تتوقعين منه العمل والإنتاجيّة، العيش مع كبت كلّ مشاعر الأسى وتقبل واقع غير سوي”، أيّ نحن ننسى في أغلب الأحيان اننا نعيش ضمن منظومة مجتمعيّة ترتبك بمجرد سماع صوت مطلقة أمّ منفصلة ونفضلها أن تكون امرأة قيد الإنتظار.

 

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد