الأبوية دفنت نادين… نسويتنا تحييها

لم تكن طريق الجنوب كعادتها بالأمس، كانت بشعة، طويلة، مؤلمة… طريق مشيناها بغصة خلف سيارة دفن الموتى التي حملت في داخلها جسد ثائر تحوّل على غفلة منّا إلى جثة هامدة.. جثة المقاتلة المفعمة فرحًا وحبًا وحرية نادين ماجدة جوني…

هل هناك أصعب من أن تسيري في موكب تشييع صديقتك؟ نعم للأسف هناك ما هو أشدّ قسوة، تفاصيل الوداع الأخير الذي لا يشبه نضال رفيقة الشارع والصرخة والقضية بشيء. مؤلم أن ترى أن كل ما ناضلت نادين لأجله طيلة سنوات عمرها يدفن معها في ساعاتها المعدودة نحو مرقدها الأبدي.

في بنت جبيل، لا شيء كان يوحي بروح ونفس نادين غير صورتها الباسمة التي تستقبلك على مدخل منزل أهلها بحب، بحرية، بشغف تلك الثائرة على كل الموروثات البالية التي تكبّلنا كنساء من المهد إلى اللحد. لا شيء يدمي القلب غير مشهد الأب والأخوات المفجوعين\ات في ظلّ غياب الأمّ التي تصارع مرض السرطان وهول خبر رحيل فلذة كبدها في غرفة وحيدة كئيبة في المستشفى، بعدما كانت تواظب نادين على زيارتها يوميًا وقضت في مشوارها الأخير إليها. المنزل الذي ودّعنا فيه نادين بالأمس كان يعجّ بالغرباء علينا، وأكاد أجزم بأن غالبيتهم غرباء بالنسبة لنادين أيضّا. المشهد بتفاصيله يعيد نبش صراعنا الداخلي بين بيئة تربينا فيها وحوّلنا وعينا الحقوقي والنسوي إلى غرباء عنها، وبين مبادئ نفني سنوات العمر بالدفاع عنها وتتحوّل في لمح البصر إلى سراب.

تصدّر هؤلاء الغرباء المشهد، في حين أن صديقات\ أصدقاء ورفيقات\رفاق نادين، اللواتي\اللذين كانوا لها في حياتها الصحبة واليوميات واللحظات والذكريات، وقفوا\ن في الخلف غرباء بين الغرباء مترقبين\ات بألم ساعات الوداع الأخيرة.

إخترق العزاء بوقاحة مستفزّة من خطف من نادين أجمل سنوات طفولتها، من أوجعها، عنّفها وحرمها رؤية طفلها بقساوة خسيسة ماسكًا يد إبنها كرم وهامسًا في أذنيه “هون هلق رح يجيبوا قبر ماما”. كرم الذي ناضلت نادين لإنتزاع حضانته مع كل نفس، كرم الذي عرفناه وأحببناه لشدّة حبنا لأمّه، كرم صادره الغرباء بالأمس أيضّا ولم يسمح لأي من صديقات نادين الإقتراب منه أو عناقه أو مواساته كما كانت لتحب نادين أن نفعل…

بالأمس كان عزاء القبيلة بكل ما للكلمة من معنى. إقتربنا من قبر نادين، صرخنا، ناديناها فجاءنا أمر القبيلة على لسان إحدى النساء “سكتوا خلوها عم تسمع قرآن”. من قال لكم بأن نادين تريد سماع القرآن؟ من قال لكم أن نادين لا تبادلنا الشوق وتتوق لسماع تنهّدات وأصوات الأصحاب والأحبة الأقرب إلى قلبها ومبادئها وحياتها؟ طلبت إحدى الصديقات رؤية وجه نادين للمرة الأخيرة، فجاءها الجواب “ما فينا نكشف وجهها قدام الرجال”. نادين التي ناضلت حتى الرمق الأخير لكسر مقولة أن “المرأة عورة” وتحطيم أكذوبة الشرف، نادين التي حملت في آخر مظاهرة لها صرخة تقول بأن “شرفكم لا يمرّ بين قدمينا”، خبّئ خبث الشرف والقيم وجهها عن أعزّ أحبابها يوم وداعها.

حاوطت القبيلة جثّة نادين بمظاهر التديّن الزائفة التي لطالما حاربتها واستحقرتها الأخيرة في حياتها. صلّى على جثمانها رجل دين، والأخير يمثّل بالمناسبة المؤسسة التي قاتلتها نادين لسنوات بعدما قتلتها آلاف المرات قبل موتها، حرمتها أمومتها، فرحتها وضحكة أيامها. حاولنا أن نسابق رجال القبيلة إلى الجبّانة لإنتزاع مكان يسمح لنا بإلقاء نظرة الوداع الأخيرة على صديقتنا ورفيقة نضالنا، وإذ برجال القبيلة يرتبون مشهد الدفن وتفاصيله وعنوانه الدفع بالنساء إلى الصفّ الخلفي.. نعم يا نادين، في وداعك وقفنا بالخلف فقط لأننا نساء.

وكأنّ القبيلة يا نادين بذكوريتها وأبويتها المستحكمة بنا كنساء، إنتظرت صمتك الأخير لتفرض طقوسها التي أشعلت ثورتك النسوية. أما أنا فكنت أنتظر أن تستفيقي وتصرخي في وجههم جميعًا “ثورة”… ولكنك هذه المرّة لم تفعليها، ووقفنا نحن نراقب جسدك الملفوف بكفن زهريّ اللون يحمله رجال القبيلة ليضعوه تحت التراب في مشهد سيبقى يهزّ وجداننا وقلوبنا ما حيينا. سامحينا يا نادين لأن جلّ ما استطعنا فعله في فضاء تحكمه الأبوية أن نزيّن قبرك بالأكاليل والورود التي تليق بنضالك، وضعنا أعلى القبر إكليل عليه “الثائرات هن الجميلات”، وخبّأنا في جيوبنا بعضًا من التراب الذي سيحتضن جسدك ويفرّقنا عنك إلى الأبد.

لعلّ أهم ما يمكن أن نقدّمه لك نحن النسويات هو المزيد من التمسّك بقضيّتنا وبنضالك ونضالنا، والإحتلال الدائم للشوارع والساحات التي لطالما صدح صوتك عاليًا فيها ضدّ الظلم والإجحاف، والإلتفاف حول بعضنا أكثر، وتعميق التضامن بشكل أكبر حتّى لا تبقى الأبوية قويّة ممسكة برقابنا مترقّبة لحظة صمتنا لتعمّق طقوسها وتقاليدها الذكورية الطائفية التي أفنت حريتنا وحقوقنا وكرامتنا كنساء.

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد