قضايا النفقة … حقوق بين الأخذ والرد

في الشريعة الإسلامية، يمثّل  الأب الأبوية الذكورية، على قاعدة أنّه المسؤول الأوّل عن الأولاد ونفقتهم/ن سواء كان يتولّى حضانتهم/ن أو يعيشون/ن مع والدتهم.  كما على عاتقه تحمّل النفقات المالية عند الطلاق أو الإنفصال. لكنَّ الإستنسابية في المحكمة الجعفرية، جعلت من قضية النفقة عقدة أخرى وورقة ضغط تُعيق المرأة عن طلب حضانة أطفالها أو حتى طلب الطلاق.

ثغرات أساسية في قضايا النفقة:

تحدّد قيمة نفقة الأولاد بناءً على الوضع المعيشي للأب، ولكن أبرز الشوائب التي تتخلل هذه القضايا، أن المحكمة لا تتأكد من ملاءة الأب ووضعه المادي ليحدد إثره قيمة النفقة، بل يكتفي القاضي بتصريحات الوالد عن وضعه المادي من دون التدقيق .

وفي هذا السياق تؤكد المحامية فاديا حمزة مؤسِّسَة حركة “ثورة امرأة شيعية” أنَّ الطابع العام الغالب في هذه القضايا هي نفقات مالية بقيمة زهيدة نسبياً، تتراوح بين الـ200 والـ300 ألف ليرة لبنانية باستثناء حالات قليلة.

وأضافت فاديا حمزة أن المحكمة تُلزِم الأب إضافة إلى النفقة، دفع أقساط المدرسة ولكن الرسمية وليس الخاصة، دون أن تتكلّف عناء البحث عن إمكانيات الوالد المادية .

من هنا يُمكن استخلاص الثغرة الأولى وهي غياب التفتيش القضائي للتحقيق بوضع الأب المادي ما ينتج عنه نفقة غير عادلة بحق الأم والطفل .

وفي معرض بحثنا حول عدد قضايا النفقة المرفوعة في المحكمة الجعفرية وبعد تقديمنا طلب رسمي للوصول إليها لم نلقَ إيّ إجابة، واكتفينا بما أكدتّه لنا مصادر خاصة من محكمة في بيروت، تؤكد أنّ عدد قضايا النفقة العالقة في محكمة واحدة بلغ الـ80 قضية “قيد النظر”.

وفي هذا الإطار تشير المحامية فاديا حمزة، إلى أنَّ قضايا النفقة في المحكمة الجعفرية تأخذ الكثير من الوقت للبتِّ فيها، على عكس قضايا الحضانة خاصة تلك التي تقضي بنزع الطفل عن والدته، وأضافت حمزة أن هناك قضايا نفقة عالقة في المحكمة منذ 6 و7 سنوات، لم يصدر الحكم فيها ولم يسعف أصحابها حتى إن وردت في  خانة “مستعجلة”، وبقيت رهن المماطلة.

وأكثر من ذلك تضيف المحامية، عادة ما يعتكف قضاة المحكمة الجعفرية، ولا يتدخلون لمنع الإبتزاز الذي تتعرض له النساء، ولا يتخذون أي إجراءات لحمايتهنّ، معتبرين أّنها وسيلة لتسوية الخلافات والوصول إلى حلول.

ومن التحديات التي تواجهها النساء في قضايا النفقة في المحكمة الجعفرية، هو امتناع الأب عن دفع النفقة بعد صدور الحكم، رغم لجوئهنّ في هذه الحالة إلى محكمة التنفيذ وصدور قرار السجن بحق الأب ، إلا أن القوى الأمنية  تتقاعس أحياناً عن تنفيذ الحكم بحسب المحامية، التي أشارت إلى مصادفتها قضايا تراكمت فيها على الأب مستحقات النفقة مدة سنوات.

ناهيك عن اختيار الأم في بعض الحالات، التخلّي عن المطالبة بدفع النفقة، خوفاً من انتزاع أطفالها منها أو الدخول في دوامة المحاكم من جديد، وللسبب نفسه تتردد الأم أيضًا عن تقديم طلب لتعديل النفقة بناءً على متغيّرات أساسية طرأت منها عمر الطفل، علماً أنّ النفقة قابلة للتغيير والتعديل ولكنَّها تحصل بحالات قليلة.

تعديلات قانونية وإجراءات لسد الثغرات

بعد عرض الثغرات والتجاوزات التي تطال قضايا النفقة في المحكمة الجعفرية، يمكن تحديد بعض الإجراءات والتعديلات التي يتوجب اتخاذها، لعلّ أبرزها الرقابة على دفع نفقة الأولاد من قبل الأجهزة القضائية أو المحكمة الجعفرية، أمَّا النقطة الثانية التي تحدثت عنها المحامية فاديا حمزة هي تشكيل لجنة تفتيش قضائية جدية تحقق في وضع الأب المادي وممتلكاته عبر أوراق ثبوتية .

وحول المقررات الإصلاحية  التي قدمها رئيس المحاكم الجعفرية القاضي محمد كنعان في شهر تموز/يوليو في مدينة صور ضمن لقاء حمل عنوان ” تع نحكي”،  فكانت تقضي بتعيين خبراء واختصاصيين ينظرون في مختلف القضايا في المحكمة الجعفرية للعمل على مصلحة الطفل التي تتعلق بشكل مباشر بالحضانة والنفقة .

في نظر المحامية حمزة هذه القرارات إذا ما تم تنفيذها فقد تؤدي إلى تحسين وضع المرأة وتحصين مصلحة الطفل، ولكن المشكلة أنّ التعديلات لا تزال عالقة في المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، وأضافت أن باب الإجتهادات الدينية والقانونية واسع ولكن عندما يتعلق الأمر بحقوق المرأة أو الطفل تغلق هذه الأبواب.

المرأة بعد الطلاق والنفقة الزوجية

ربما لا يرد في ذكر العديد من الناس عند الحديث عن الطلاق وكيفية الإستحصال على نفقة الأولاد من الأب، ما هي النفقة التي تحصل عليها المرأة بعد طلاقها عدا عن المهر أو المؤخر؟

النفقة الزوجية في الشرع بعد الطلاق تحصل عليها فقط مدة 3 أشهر تقريبا (العدّة)، ولكن ليس هناك قوانين أو إجراءات بحصولها على أي نفقة أو مبلغ مالي بعد عدتها.

وتقول المحامية فاديا حمزة إن هذا الأمر يشكل فجوة كبيرة حيث لا يوجد قانون معين في المحكمة  يلحظ هذه الفروقات، ولكن مثلا في ايران تحصل المرأة بعد الطلاق في حالات محددة على مبلغ مالي كل شهر يصنف كـ”تعويض” إذا صح القول.

طليقي لا يعترف أنّ لدي حقوق

منال (اسم مستعار) هي أمّ عالقة في دهاليز المحكمة الجعفرية منذ 4 سنوات، تسعى خلف قضيتين، الأولى طلاق والثانية نفقة وحضانة. كقصص العديد من النساء ضغط عليها زوجها بمختلف الطرق، لدفعها إلى طلب الطلاق والتنازل عن مؤخرها، وبعد سنوات ثقيلة فوجئت برسالة عبر الواتس آب فيها ورقة طلاق وصلتها من شيخ تجمعه بطليقها روابط عائلية.

ذهبت منال إلى المحكمة لتثبيت طلاقها ولكن القضية علقت إلى حين دفع المؤخر أو تنازلها عنه، وفي نفس الوقت رفعت دعوى حضانة للأولاد ونفقة مالية وهنا بدأ طليقها بابتزاها :”تتنازلين عن المؤخر والنفقة  تحصلين على الطلاق والحضانة.”

تُحدِثنا منال عن الحياة البوليسية التي عاشتها وبناتها مدة أشهر خوفاً من أن يخطفهما الأب ويأخذهما عنوة، لكنه “انشغل عن المطالبة بهما” على حد قولها بعد زواجه وإنجابه طفلين.

كما سردت تفاصيل المشوار الطويل الذي تسلكه في المحكمة منذ 4 سنوات متكبّدة أعباء ماليّة ثقيلة، فمنذ الطلاق “غير المثبّت” لم يدفع الأب أي نفقة لأولاده، كما امتنع عن دفع ما تبقى من الأقساط المدرسية، ما اضطرها إلى تغيير مدرسة أولادها ودفع الأقساط المتراكمة بمساعدة أهلها لأنَّها لا تعمل.

“هو لا يعترف أنَّ لدي حقوق أصلا، أذكر يوماً عندما طلبت منه أن يدفع ما تبقى من الأقساط المدرسية للأولاد، جاوبني قائلا عليك أن تتحملي المسؤولية كاملة فالأولاد معك وأنت تريدين ذلك”.

تكاد الإتصالات تنقطع بين منال وطليقها، فهو لا يحضر جلسات المحكمة وآخر ما تمَّ عرضه عليها منذ سنة تقريباً ورفضته هو اتفاق “مشروط”، في طياته أن تتنازل عن المؤخر وعن الدعاوى التي رفعتها ليثبت هو الطلاق في المحكمة، كما يتوجب عليها أن ترضى “بنفقة” قيمتها 350 ألف ليرة لبنانية فقط للفتاتين، رغم تيسر حالته المادية وامتلاكه العديد من العقارات، وفي مقابلها تحصل هي (منال) رسميّا على الحضانة.

كما اشترط أن يختار المدرسة التي يريدها للأطفال على أن يدفع القسط مناصفة بين الطرفين كما أن النقل تتحمل الأم تكلفته.

بعد رفض منال حتى اليوم  لا تزال أم معلّقة، من دون نفقة، ولا تزال تتكبد أعباء مالية في المحاكم دون الحصول على نتيجة.

العصمة وشروط الزواج … حل مؤقت

أكد المفتي أحمد طالب في حوار أجريناه معه عبر الهاتف خلال إجراء التحقيق، أنه في الشرع تقع مسؤولية النفقة على عاتق الزوج (الرجل) فهو عليه أن ينفق على  أولاده معهم الزوجة قبل الطلاق، كما أن المرأة في الشرع إن كانت تعمل أو لا، يتوجب على الزوج أن ينفق عليها، ولا يحق له أن يتدخل حتى بمدخولها.

يشرح المفتي الثغرة الأساسية في قضايا النفقة (نفقة الأولاد) في المحكمة الجعفرية، ويقول أنه لا يوجد قانون واضح يحدد على أساسه قيمة النفقة الموجب دفعها من الأب، ويقول “الأمر يتوقف عند ليونة الأب ومدى عاطفته وهل يريد أن ينتقم من الأم عبر الأطفال”.

لا ينكر المفتي أحمد طالب الإبتزاز الذي تتعرض له المرأة في المحكمة الجعفرية للتنازل عن حقوقها المادية مقابل الطلاق أو الحضانة، ويقول إنّه على المرأة أن تحصّن نفسها إمّا بعقد الزواح حيث تدون بنود تريدها تخصّ الطلاق، والنفقة، ومصاريف المنزل، و…. إلى حين وضع قوانين وشروط “الزامية وليست اختيارية”. وبنظر المفتي إن أفضل حلّ لتحمي المرأة أو الأم نفسها من الإبتزاز بورقة الطلاق، هي الإشتراط بأن تكون وكيلة نفسها في الطلاق .

التعديلات القانونية في نظر المفتي هي نفسها التي طرحتها المحامية فاديا حمزة في البداية وعلى رأسها التفتيش القضائي الجدي للتحقق من وضع الأب المادي وتحديد النفقة على أساسه.

ويقول المفتي إنّ قوانين المحكمة الجعفرية لم يطرأ عليها تعديل منذ أيام السلطنة العثمانية وإنّه لا يوجد حتى الآن أي دراسة جدية للتشريعات بناءً على مستجدات الواقع الإجتماعي الجديد، بل كل الإقتراحات هي “هروب من الواقع”.

ويبقى الأمل لكافة اللبنانين\ات وخاصة النساء، قانون مدني للأحوال الشخصية يراعي في أصول الحضانة مصلحة الطفل أولا وآخراً، ويعطي النساء حقوقهن بحضانة اطفالهن ولا يحرم الأطفال من أحضان أمهاتهن.

 

التحقيق كتابة: إيمان العبد

 

 

 

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد