عذرًا على خدش حيائكم: دماء حيضنا أولوية الأولويات

كثر الحديث مؤخرًا عن الدورة الشهرية خاصةً مع تفاقم الأزمة الإقتصادية في لبنان وأثرها على وصول النساء إلى المستلزمات الأساسية المرتبطة بها، ولكن هذا النقاش أفرز في المقابل مكنونات مجتمعنا المستعرّ الدائم من أجساد النساء ممّا لا زال يعزّز فكرة الوصمة والعار والخجل المرتبطة بالحيض. نحن نخلق ونتربى على صور نمطية مرتبطة بصحتنا الإنجابية والجنسية، فنتعلّم منذ الصغر الإلتفاف على كلّ ما يتعلّق بدورتنا الشهرية كأنّ مثلًا أن نطلق عليها أسماء تمويهية متل “المحروسة”، “إجتني”، “خالة وردة”، “الإشارة الحمرا”… أو أن يعترينا الخجل من الفوط الصحيّة التي نخفيها تحت ملابسنا لدى دخول الحمام، ونشعر بالعبء لدى طلب شرائها حيث يسرع مَنْ في السوبر ماركت على تزويدنا بكيس أسود لدى توضيبها لإخفائها.

وفي زمننا هذا، لا يزال هناك من يخرج لإعتبار الحديث عن الدورة الشهرية مقرف، معيب، سخيف، في غير أوانه، مثير للغثيان… وفي بعض المجتمعات والثقافات، تتجاوز وصمة العار الاجتماعية حدود التعابير لتصل إلى درجة إعتبار الحائضات ملوثات ونجسات، ويتم فرض قيود عليهن، مثل حظر لمس الماء أو الطبخ، أو الدخول إلى مواقع دينية أو ثقافية، أو الانخراط في أنشطة مجتمعية، لتصل أحيانًا إلى إبعاد الفتيات الحائضات إلى حظائر الماشية أو حظائر خارجية حيث يعانين من البرد والعزلة مما يشعرهن بقلة قيمتهن وبكره لأجسادهنّ.

بالعودة إلى لبنان، وفي ظلّ سلطات سياسية متعاقبة لطالما سعت إلى إحكام قبضتها الذكورية على حيوات النساء وحقوقهنّ وأجسادهن، تبقى النساء والفتيات والفئات المهمشة الأكثر تضرّرًا في حالات الإستقرار والسلم كما في أوقات الأزمات والنزاعات. فبالإضافة إلى ما تعانيه وتواجهه النساء والفتيات يومياً من أشكال عنف وتهميش وتمييز مختلفة، أفرز لهنّ الوضع الإقتصادي الضاغط في البلد مؤخرًا بالإضافة إلى تجاهل الدولة المتمادي لحقوقهنّ وأولوياتهنّ معاناة جديدة، تتمثّل بصعوبة الوصول إلى منتجات النظافة الصحية لأسباب مادية، والتي يصطلح اليوم على تسميتها ب”فقر الدورة الشهرية”.

لم يعد يخفى على أحد فضيحة السلطة اللبنانية التي أوكلت إبّان إستفحال الأزمة الإقتصادية للجنة مؤلفة من سبعة رجال مهمّة وضع لائحة مواد أساسية من أجل دعمها، إذ لم ينسى هؤلاء ثلاثمئة سلعة من ضمنها شفرات الحلاقة الرجالية، مستثنيين الفوط الصحية الشهرية والمستلزمات المرتبطة بصحة النساء في تجاهل وقح لإحتياجاتهنّ الملحّة. كيف لا، وهم غير معنيون أساسًا بدورتنا الشهرية؟ كيف لا وكل ما هو مرتبط بصحة وأجساد النساء يعدّ غير أولويّ ومعيب؟ وهنا أستذكر سؤال الناشطة النسويّة الأمريكية غلوريا شتاينم الشهير في العام 1978، “ماذا سيحدث، لو أصبحت الدورة الشهريّة – وبطريقةٍ سحريّة ومفاجئة – تُصيب الرجال؟ سيصبح الحيض حدثاً بيولوجياً يُحسد الرجال عليه، وسيتباهون بغزارة دمائهم واستمرار دورتهم الشهريّة”. وأضيف إلى إجابة شتاينم، سيصبح الحيض قضية وطنية وأولوية كبرى.

ولم تقتصر مشكلة النساء في لبنان اليوم على الإرتفاع الجنوني في أسعار الفوط وعدم قدرة الكثير من النساء شراء هذه المستلزمات، بل لحق ذلك شحّ في الماركات المختلفة للفوط في الأسواق، زدّ عليه تحكّم التجار بعدد الفوط الصحية المسموح شراؤها. وفي هذا الإطار، نشرت منظمة “بلان إنترنشونال” دراسة أظهرت أنه حتى نيسان 2020 كان 66% من الفتيات اللواتي يعشن في لبنان لا يملكن الموارد المالية لتأمين مستلزمات الدورة الشهرية، في حين أشار موقع غلوبال سيتزن إلى أنه حتى تاريخ منتصف تموّز 2020 ارتفعت أسعار لوازم الدورة الشهرية في لبنان، التي تستورد في أغلب الأحيان، بنسبة 500% عن سعرها الأساسي. ويرجّح صندوق الأمم المتحدة للسكان أنّ أكثر من نصف النساء في لبنان سيعانين من فقر الدورة الشهرية مع حلول شهر كانون الأول ٢٠٢٠. وللتذكير فقط، إنّ أي إمرأة/ فتاة تحتاج كل 28 يوماً تقريباً إلى علبتين من الفوط الصحية الشهرية، بالإضافة الى قارورة من الغسول النسائي للعناية اليومية في المنطقة الحميمة، ومسكنات الألم وغيرها من المستلزمات الصحية ذات الصلة.

فإلى متى التمادي في الحطّ من كرامة وحقوق النساء؟ إلى متى ستبقى الدولة وجميع الجهات المعنية تضرب بإحتياجات وأولويات النساء عرض الحائط بإعتبارها كماليات وغير أولوية في الظروف الراهنة، كما كل الحقبات السابقة؟ عذرًا على خدش حيائكم، إن دماء حيضنا أولوية الأولويات، ولا تقلّ أهمية عن أي قضية وطنية أخرى إن كانت سياسية أو إقتصادية أو إجتماعية أو غيرها، فلا صحة لوطن يستعرّ ويستهتر بصحة نسائه.

 

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد