أمهات مفقودي\ات الحرب… شهيدات الإنتظار
يحدث أن يصل الموت قبل أن ينتهي الانتظار. يحدث أن يكون سمّ النهاية الذي تجرّعته نايفة النجار بعد خطف ابنها عام 1984، أقلّ موتاً من تحمّل عمرٍ كاملٍ من القلق والأخبار المقطوعة.
أمهات كثيرات خطفهنّ الموت في منتصف الانتظار، أمّهات لهنّ أبناء وبنات، مفقودون، مفقودات، مخطوفون، مخطوفات، يجمعهم تجبّر المجهول وتصلّب المسؤولين في إهمال قضيتهم، فيما السنوات تتلاحق وتتكاتف، بلا أي معنى. وحده الانتظار يحكم كل شيء.
أتى الموت ولم يأتِ الأحبّاء…
24 عاماً سارت أوديت سالم بحثاً عن حقيقة ضائعة، عن ريشار وكريستال، ابنها وابنتها، اللذين اختفيا ذات حرب. ثم قُطع مشوارها، فيما كانت تقطع الطريق نحو خيمة اعتصام أهالي المفقودين في وسط بيروت، فأصبحت شهيدة خيمة الاعتصام، عام 2005 حين دهستها سيارة هناك، حيث يجتمع المنتظرون والمنتظرات… هناك فارقت أوديت الحياة.
أما نايفة النجار، وهي صحافية زميلة، فلم تستطع تحمّل فكرة تعرّض ابنها المخطوف للتعذيب، وهالها احتمال وفاته، فانتحرت عام 1984، آملةً بأن تلقاه ذات يوم في عالمٍ أقلّ أذيّة ووحشية. كتبت نايفة قبل أن تغادر: “غدا يا ولدي إذا عدت، ستجد سفينتي قد أبحرت إلى شاطئ النهاية. ستتساءل عن سرعة الرحيل لكنك ستعذرني. غداً يا ولدي إذا عدت ستجد أنني سئمت الانتظار ولا خبر منك ولا علم (…)”.
“غداً يا ولدي إذا عدت ستجد أنني سئمت الانتظار ولا خبر منك ولا علم (…)”.
غادرت خديجة أو كما يعرفها الجميع أم محمد الهرباوي، هذه الدنيا في 22 آذار عام 2016، بعدما قهرها المرض، وغزارة الدمع… ربما لتحتفل بعيد الأم في مكانٍ لا تُجرَح فيه الأمومة ولا يُكسَر فيه القلب. تعرفها ساحة الاعتصام، كما يعرف الواحد مرآته. بوجهها المضاء أمومةً، كانت تجر قدميها يوماً بعد يوم، إلى وسط بيروت، على رغم المرض والتعب، والعمر. ثمّ استأذنت رفاق ورفيقات الدرب، وغادرت، وبقيت صورتها حاملة صورة ابنها، في ذاكرة المكان، وذاكرة المؤمنين بقضية 17 ألف مفقود ومفقودة.
وكذا أم علي جبر، صديقة أم محمد الهرباوي في النضال وفي الهمّ والدمع الكثير، فارقت الحياة، بعدما أصبح العذاب لا يطاق، بحثاً عن الراحة وعن لقاء ممكن مع الذين غابوا. تركت صورها في الاعتصامات ويدها تعانق في إحدى الصور رفيقتها أم محمد الهرباوي، كمن يربّت على كتف تعرف مذاق الألم ذاته.
أما أم أحمد شراوي فقصة أخرى. تعرفها الجبانات ويعرفها الفقر وليالي الأرق والجوع. لم تعطها الحياة إلا أحمد، ويوم اختفى أحمد في الحرب الأهلية من دون حس ولا خبر، رهنت العمر للانتظار. عاشت في الفقر والمعاناة… ثم ركبت قافلة الراحلين إلى السماء في تموز عام 2018 لعلّها تلتقي أحمد هناك، أو لعلّها تعرف من فوق أين هو الآن وكيف سارت به السنوات.
ربما يكون الموت أحياناً أخف قسوةً من الانتظار، ربما يريد ذاك اللقاء أن يحصل في السماء…
بعد نحو 30 سنة، أقر مجلس النواب قانون المخفيين قسراً والمفقودين، واعترف بحق كشف مصير الآلاف في الحرب الأهلية، وملاحقة المسؤولين عن اختفائهم.
وعلى رغم بعض الملاحظات المطروحة على القانون، لا بد أنه انتصار معنوي لأمهات وزوجات وأبناء وأصدقاء وعائلات أمضوا العمر يحملون الصور، وأمهات رحلن وأصبحن أيضاً في عداد الصور.
بعد نحو 30 سنة، أقر مجلس النواب قانون المخفيين قسراً والمفقودين، واعترف بحق كشف مصير الآلاف في الحرب الأهلية، وملاحقة المسؤولين عن اختفائهم.
بعد نحو 30 سنة، أقر مجلس النواب قانون المخفيين قسراً والمفقودين، واعترف بحق كشف مصير الآلاف في الحرب الأهلية، وملاحقة المسؤولين عن اختفائهم.
تدور الأرض ويبقى الأمل، ويبقى الأهالي، ينتظرون ويناضلون من أجل حقهم في معرفة مصير من انتُزعوا منهم ظلماً وقهراً. وتبقى وداد حلواني رئيسة لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان، والتي اختطف زوجها عام 1982، واقفةً في وجه المرارة، متحدّية القهر، باحثةً، محاولةً إيجاد طاقة أمل واحدة، في طريق لا بدّ أن تصل إلى نهاية.