العاملات اللبنانيات والعربيات في المنازل، عشوائية واستغلال
تخرج ريّا (إسم مستعار) من مخيم اللاجئين السوريين في منطقة العبدة العكارية وقد لفّت وجهها بشال أحمر اللون يكشف عن جزء من أنفها وعينيها. لا تحمل في يدها حقيبة أو هاتفاً. تخرج بجسدها المثقل بالشقاء. تركب المقطورة الخلفية للبيك آب الذي يقلّ عمالاً سوريين من المخيم إلى سهل عكار لقطاف موسم البطاطا. تنزل في محلة الحميّرة قبل وصول هؤلاء إلى وجهتهم، وتمشي باتجاه منزل السيدة وداد. بعد حوالي ربع ساعة من الوقت تصل إلى وجهتها لتبدأ العمل. لا تعرف ريّا في أي ساعة قد تنهي عملها أو من سيقوم بإعادتها إلى المخيم.
تقوم الشابة الثلاثينية بالأعمال المنزلية لدى عدد من العائلات في عكار حسب الطلب. تتصل بها السيدات الراغبات في “تعزيل” منازلهن على هاتف زوجها، ويتفقن معها على اليوم والساعة. تُلبي طلباتهن من دون أن تعرف أي تفاصيل أخرى، لا عن المهام المطلوبة منها ولا حتى الأجرة التي ستحصل عليها جراء ذلك، بل يبقى كل شيء مرهوناً بـربّة المنزل، وفقها. تُنجز ريّا كل الأعمال تقريباً، من كنس وشطف وغسيل وتنظيف على أنواعه بمفردها.
لحظة مباشرتها العمل تخلع حذاءها وترفع عباءتها لحدود ركبتيّها وتربطها بإحكام، فيبان بنطالها الزهري اللون. لا تخلع الشال عن وجهها رغم العرق المتصبب منها، فقد علمتها التجربة أن تُخبئ مفاتنها. ففي إحدى المرات اتهمتها صاحبة البيت بمحاولتها إغواء زوجها. “أصعب ما في العمل داخل المنازل اضطراري إلى تحمل الكثير من الإهانات بصمت. يوم اتهمتني السيّدة بفعل الفجور بكيت، فكيف لي أن أغوي زوجها بحضورها؟ وحين إعترضت على كلامها وبختني وخصمت من أجرتي التي لم تتجاوز يومها الـ10 آلاف ليرة لبنانية”.
وتقول: “منذ ذلك الحين لم أعد أقصد ذلك المنزل، وبت أحذر كثيراً عندما يتصل أحد ليطلب مني تنظيف منزله، إذ أطلب من زوجي أن يسأل الشخص الذي يقف على الجانب الآخر من الهاتف من أين حصل على اسمي ورقم الهاتف، فإن كان له أي علاقة بتلك السيدة أرفض الحضور إلى منزله، رغم حاجتي الملّحة للعمل”.
تقضي العاملات العربيات في المنازل وقتاً طويلاً منهمكات في التنظيف، إذ تصل ساعات عملهن إلى 10 أحياناً، وتتنوع المهام وتتبدل بحسب حاجة كل سيّدة، ذلك من دون أي إطار قانوني يحمي العاملات من العنف أو الإستغلال. أصعب ما قد يُطلب منهن بحسب ريّا هو تنظيف وغسيل السجدات والستائر المعلّقة على النوافذ، “هذا العمل أشبه بالقصاص، فنزع الستائر من السكك يتطلب جهداً كبيراً وتنظيفها كذلك ثم إعادة تركبيها في مكانها”.
تقضي العاملات العربيات في المنازل وقتاً طويلاً منهمكات في التنظيف، إذ تصل ساعات عملهن إلى 10 أحياناً، وتتنوع المهام وتتبدل بحسب حاجة كل سيّدة
يعتبر هذا النوع من العمل موسمياً، فغالباً ما تستعين السيدات بالعاملات في فترات الأعياد أو المناسبات، لا تتقاضى العاملات أجراً كافياً، فأقصى ما قد تحصل عليه العاملة هو مبلغ 30 ألف ليرة، أما أقله فهو 10 آلاف في اليوم الواحد. وبحسب رياّ: “كنا في السابق لا نسأل السيدات عن أجرتنا، ولكن أحياناً كانت المبالغ التي نتقاضاها زهيدة لدرجة لا تكفينا لطلب سيارة أجرة يعيدنا إلى المخيم”.
معظم فتيات ونساء المخيم يعملن في تنظيف البيوت. بحسب ريّا “نحن لا نُجيد فعل أي شيء آخر، لذلك نضطر إلى كسب رضا ربّات المنازل لنستمر في العيش”.
حسناء (إسم مستعار) إبنة المخيم أيضاً وأكثر واحدة تحصل على طلبات عمل، فهي شابة لم تتجاوز الـ25 من عمرها، نشيطة وصاحبة همّة وتصفها السيدات بأنها “أنظف عاملة”. يُزعجها الوصف، تقول: “كأنهن يقلن بأن نساء المخيم الأخريات لا يتماشين مع معايير النظافة الموضوعة من قبلهن. تتفوّه السيدات دائماً بعبارات مهينة بحقنا، ربما هنّ لا يُدركن ذلك أو ربما يفعلن، لا أعرف، ولكنني أجزم بأنه لو مُرِس عليهن ما يُمارس علينا من تعنيف معنوي فيه الكثير من التعالي والفوقية لما استحملنّ الحياة للحظة”.
تزوجت حسناء في سن مبكرة (16 عاماً) وأنجبت 3 أطفال. “ضاقت بي الحال كثيراً لاسيما أن زوجي كان قد غادرني منذ ستة أشهر ولم يعد، وأنا لا أعرف شيئاً عنه. اضطررت إلى أن أعمل، ولم يكن أمامي خيار سوى أن أقوم بما تقوم به غالبية نساء المخيم. في المرة الأولى التي قصدت فيها منزلاً حملت طفلي الذي لم يكن في حينه قد أتمّ الثلاثة أشهر على ظهري ومشيت لأكثر من ربع ساعة تحت أشعة الشمس. عندما وصلت اشمأزت صاحبة المنزل من هيأتي وأمرتني بترك الطفل خارجاً. كان شعوراً قاتلاً. نظرت في عيني ابني وتضرعت له أن يغفر لي. ما كدت أدخل المنزل حتى أغلقت السيدة الباب خلفي بإحكام، فعلت صرخات ابني بالبكاء”.
وتضيف: “بقدر ما تقسو علينا الحياة نقسو على أنفسنا. واجهت الكثير من الصعاب في هذا العمل، وهناك منازل حرّمت على نفسي دخولها حتى لو ضاعفوا لي أجري مئات الأضعاف. أعتقد أن هذا النوع من العمل سيتوقف مع الوقت لاسيما بوجود العاملات الأجنبيات اللواتي يخضعن لنظام الكفالة، ولكن هناك سيدات سأشتاق إليهن فقد كنّ عطوفات جداً”.
حملت طفلي الذي لم يكن في حينه قد أتمّ الثلاثة أشهر على ظهري ومشيت لأكثر من ربع ساعة تحت أشعة الشمس. عندما وصلت اشمأزت صاحبة المنزل من هيأتي وأمرتني بترك الطفل خارجاً
وفي إحدى المرات اتُهمت حسناء بالسرقة. “كنت أرتاد منزل سيدة من بلدة رحبة العكارية في بداية كل أسبوع لأنظفه لها. هي لا تقطن فيه إلا صيفاً. في البداية كانت علاقتنا شبه ودية، إذ كانت تقلني من مفرق القرية بسيارتها وتدفع عني أجرة الباص الذي حملني من حلبا إلى رحبة. لكن في إحدى المرات أضاعت مجموعة من حُليها الذهبية، وطلبت مني أن أبحث عنها، وعندما لم أعثر عليها قالت لي “يعني إنت لي سرقتيهم”. طلبت منها أن تفتشني وأن تفتش المخيم كاملاً وإن وجدتهم فلتفعل بي ما تشاء لكنها أصرت على اتهامها، وخرجت من منزلها في ذلك اليوم خالية الوفاض إلا من شتائم وإهانات كثيرة”.
في منطقة ببنين تقطن فاطمة (إسم مستعار) مع أطفالها الخمس وزوجها الذي يعاني من الشلل. إختارت العمل في تنظيف المنازل لأنها لم تجد عملاً آخر تقدر على التوفيق بينه وبين عائلتها التي تتحمل فيها مسؤوليات جمّة. يعرفها معظم أهالي البلدة ويشهدون بجدارتها وهذا أكثر ما يضحكها. “أستغرب عندما يقولون عني أنني ماهرة في تنظيف المنازل، لأنه بالنسبة لي ليس هناك من امرأة لا تجيد “فن” التنظيف، ولكن هناك نساء يعفيّن أنفسهن من هذا العناء، وأعتقد أنهن محظوظات. فالنظرة العامة بالنسبة للمهام المنزلية مجحفة، إذ لا أحد يشعر بمدى صعوبة هذه الأعمال وكم تستنزف منا ومن أجسادنا جهداً”.
بالنسبة لها فإن اعتماد معظم أهالي المنطقة والجوار عليها يعود لكونها لبنانية. تقول: “جميع النساء هنا يفضلن التعامل مع فتاة لبنانية لاسيما في تعزيل منزل عروس قبل عرسها، والإهتمام بشؤون الضيافة أثناء التعازي لأننا لدينا العادات والتقاليد نفسها ولا حاجة لهم لكي يشرحوا لي كيف يجب أن أتصرف”.
تتقاضى فاطمة أجراً أكثر من سواها. “أنا أتقاضى 5 آلاف ليرة على الساعة ولست مستعدة لأن أخدم النهار كله مقابل 10 آلاف ليرة لا تؤمن لي أرغفة خبز لأطفالي”. إلا أن هذا الأمر سبب الكثير من المشادات الكلامية بين فاطمة وربّات البيوت. “في إحدى المرات قررت إحدى السيدات أن تعطيني نصف المبلغ الذي طلبته، بالرغم من اتفاقنا سلفاً على هذا الأمر، وعندما رفضت جاوبتني “مين مفكرة حالك” وكأنني أشحذ منها. ولكنني لم أستسلم لها واستمريت بالصراخ وهددتها بتوسيخ المنزل وإعادته خربة كما كان إن لم تعطن حقي. تعلمت أن أدافع عن حقي بشتى السُبل فعملنا غير معترف به كمهنة وليس قائماً على أصول بل على مجرد اتفاق شفهي بين العاملة وربّة المنزل”.
الحالات الخلافية التي تحدث عادةً بين العاملة وأصحاب العمل يتم حلّها بشكل فردي، لذلك لم تسعى أي من الجهات المعنية في القرى والبلدات الريفية إلى تنظيم هذا العمل أو وضع إطار قانوني له يضمن حقوق الطرفين، إلا أن ما يرد على ألسنة العاملات من معاناة يُحتّم التحرك في إطار حمايتهن من أي نوع من الإستغلال.