حكاية “مروة”: واحدة من ذوي المفقودين والمخفيين قسراً في سوريا
لم تكن تعلم مروة، وهي إمرأة ثلاثينية، حين قررت وزوجها الإنتقال من منطقة البويضة في ريف دمشق، حيث حوصروا مدة سبعة أشهر متتالية، تحت القصف والدمار والحرمان من أدنى مستلزمات الحياة، أنها ستفقد أثناء انتقالها الى منطقة ببيلا شريك حياتها وأب أولادها الثلاثة.
القصة بدأت حين وصلت مروة وعائلتها الى حاجز يطلق عليه اسم “علي الوحش” معروف أنه يفصل بين مناطق للنظام وأخرى تحت سيطرة المعارضة، وقتها أدخل زوجها الى غرفة التحقيق السرية وفيها تجمع عناصر من الجيش التابع للنظام، هناك رُفع قميصه الذي كان يرتديه الى عيناه حتى يُحجب نظره، وكُبلت يداه قبل ان يقتادوه الى داخل الغرفة “ومن يومها لم أره مجدداً أو أسمع عنه أي خبر” تقول مروة، وتضيف: “أخبروني حينها أنهم يريدون التحقيق معه فقط، أما أنا، فإنني لم أقبل أن أعود أدراجي، تعرضت للضرب والإهانة على الحاجز هناك، لكنني تمكنت بعدها من الهرب وساعدني في ذلك أحد عناصر الحاجز الذي استقبلني في منزل والدته وقدم لي ولأولادي الطعام، لكن والدته خافت من ان أكون إرهابية فطلبت منه نقلي الى مستوصف المنطقة حيث يتواجد رئيس البلدية هناك في السيدة زينب، وتم التحقيق معي، بعد ذلك اتصلوا بعائلتي لكي يأتي أحد منهم ويقلني الى منزل العائلة”.
تلك الليلة، وقبل أن تخلد للنوم طلبت منها زوجة رئيس البلدية أن تستحم فرائحتها ليست جميلة، ووضعت لها “تفريعة” كي ترتديها بعد الإستحمام، تقول مروة أنها التزمت الغرفة الى جانب أطفالها، ولم تتمكن من أن تخلد للنوم طوال تلك الليلة، “خوف شديد اعتراني، من أن يمسني بسوء أو أن يؤذي أطفالي، لا أدري يومها كيف مضت الساعات، وأحمد الله أنه لم يتمكن من أذيتي”.
“ما زلت أذكر تلك الليلة حتى هذه الساعة، ربما أشعر بنفس الخوف الذي اعتراني وقتها. إنقضت تلك الليلة وخمسة عشر ليلة أخرى، الى أن حضرت عمتي (شقيقة والدي) وأخذتني معها، حينها قررت الهروب الى لبنان، علنا أنا وأولادي نجد الأمان فيه”.
مرت خمسة أعوام على اعتقال زوجها، ومروة لا تعلم عنه شيئاً، أسئلة كثيرة تدور في بالها، ماذا يفعل، أين هو الآن؟ هل هو بخير؟ هل مازال على قيد الحياة؟ ربما ما يزال موقوفاً في أحد سجون سوريا أو تمت تصفيته مثلاً؟ ولو فرضنا أن روحه صعدت الى السماء، أين جثمانه؟ هل له قبر ليقصده أبناؤه ويحدثوه عن أشيائهم حين يكبرون؟
مرت خمسة أعوام على اعتقال زوجها، ومروة لا تعلم عنه شيئاً، أسئلة كثيرة تدور في بالها، ماذا يفعل، أين هو الآن
المرجح ان مروة لن تلقى لأسئلتها أية إجابة في المستقبل، أو ربما تُمنح شهادة وفاة لزوجها كما حصل مع كثيرات من النساء زوجات المعتقلين والمخفيين قسراً في سوريا، من دون تبرير سبب الوفاة، ظروفه، سبب الإعتقال، توقيته وحتى تسليمهن جثثهم.
وربما لا يعادل عذاب انتظار الحبيب أي عذابات اخرى، فكيف إذا كان هو الزوج والسند ورب العائلة وأب لأطفال ثلاثة، حملت مسؤوليتهم لوحدها. “كتير صعب الإنتظار. خايفة روح اسأل عنوا بالمركز الأمني وفيه مسلحين، وأهلوا بخافوا كمان، يمكن يعتقلوا لرجال إذا حدا منن راح سأل عنو، وإذا أنا رحت يمكن يتحرشوا فيي”، هذا ما قالته مروة، وصمتت.
تبقى مروة واحدة من بين كثيرات ممن فقدن عزيز وغالي على قلوبهن قسراً في سوريا، كما في لبنان وغالبية البلدان التي مرت بحروب وأزمات وما زالت تعيشها حتى الآن. قصتها تشبه قصة كثيرات عشن آلم الفراق وكانت آثاره بالغة عليهن، أكان إجتماعياً، إقتصادياً أم نفسياً.
وهذا ما أكدته أخصائية علم النفس في منظمة “النساء الآن”، منال شخاشيرو، بقولها ان شهادات قريبات المختفين والمعتقلين السوريين عن الخسارة والغموض أظهرت ان اثر الاختفاء القسري والفقدان كبير جداً على النساء، لاسيما في المجتمع السوري الذي يتم التعاطي فيه مع المرأة بطريقة مختلفة عن الرجل كونها فئة مهمشة.
فهن بداية فقدنا مكانة إجتماعية معينة وأصبحن يمارسن دور المعيل للأسرة مالياً واقتصادياً، فتغير دورهن جندرياً، ناهيك عن ان ضغط المهام الكبير كان له أثر نفسي عليهن، لذلك فإن غالبية الحالات التي التقتها منال كانت تعاني اضطرابات نفسية وأمراض عصبية وفقدان القدرة على النوم بانتظام.
هذه الضغوط لم تكن بسبب المهام وحدها وإنما اللوم والضغط النفسي بسبب توقف النساء عن البحث عن مفقوديهم هو ما أثقل كاهلهم أيضاً، تقول منال، وهي إحدى النساء التي فقدت زوجها قبل أعوام حيث أوقف في أحد سجون النظام، وفجأة تسلمت في شهر تموز الماضي شهادة وفاة له من ضمن قوائم شهادات الوفاة التي صدرت حينذاك لعدد كبير من الأفراد في مناطق مختلفة من سوريا، من دون ذكر أسباب الوفاة وظروف الإعتقال.
تشرح منال كيف أن صعوبات كثيرة تحول دون استمرار النساء في البحث عن المفقودين أهمها الإهانات التي يتعرضن لها في المراكز الأمنية، وعلى الحواجز، وقطع مسافات طويلة غير آمنة لوحدهن، ناهيك عن حالات التحرش النفسي والجسدي أثناء السؤال، وفي حال حالفها الحظ وعلمت بمكان وجود قريبها فإن ظروف الزيارة تكون سيئة للغاية.
صعوبات كثيرة تحول دون استمرار النساء في البحث عن المفقودين أهمها الإهانات التي يتعرضن لها في المراكز الأمنية، وعلى الحواجز
هذا الواقع، حمل منظمة “النساء الآن” بالتعاون مع مؤسسة “دولتي” لبحث وأرشفة روايات النساء عن إعتقال أو اختفاء أقاربهن، من أجل تحقيق العدالة الإنتقالية فيما بعد، وما لحفظ التجربة من أهمية وأثر كبيرين على نفسية النساء الذين يتمكن من خلال الحديث عن قصصهن إيجاد المنصة التي يمكن من خلالها رفع الصوت عالي والحديث عن معاناتهن خلال سنوات الحرب في سوريا، وهذه المنصة سيتم إطلاقها في شباط 2019، وفق تقنية تتيح إظهار المعلومات الممكنة وأخرى مخفية حرصاً على سلامة النساء راويات القصص.