“شكراً صوما”.. مرآة واقع عاملات المنازل الأجنبيات الخفي
ماذا أعرف عن “إيما”؟ سألت نفسي. تلك الشابة العاملة التي تهتم بشؤون منزلنا منذ خمس سنوات أنا بالكاد أحفظ اسمها كاملاً! لا أعرف كم عمرها أو متى ولدت. لا أعرف شيئاً عن ابنها الوحيد في إثيوبيا أو إن كان ذووها على قيد الحياة. لا أعرف ماذا تُحب وماذا تكره. لم أسألها يوماً إن كانت سعيدة.
لم تراودني موجة الأسئلة تلك قبل ليلة أمس. فَتح فيلم “شكراً صوما” نقاشاً محتدماً داخل رأسي. روى الفيلم الوثائقي من إخراج كارول منصور وإنتاج منظمة العمل الدولية والوكالة السويسرية للتنمية والتعاون بتمويل من UK-aid، قصة نور (شابة لبنانية عشرينية) وصوما (عاملة منزلية من سيريلانكا) كاشفاً عن جانب آخر من العلاقة بين العاملات وأرباب العمل.
قدِمت صوما إلى لبنان منذ أكثر من 30 عاماً، وهي تعمل لدى عائلة نور منذ أكثر من 27 عاماً. تتجلى صوما في كل ذكريات نور. في قصص حُبها. في أخطائها التي تُخفيها عن أمها. في محطات حُزنها وفرحها وألقها وتألقها وانكساراتها ونجاحاتها. تظهر في كل صورها واحتفالاتها وأعياد ميلادها وضحكاتها. منذ نعومة أظافرها كانت صوما إلى جانبها. تحنو عليها كأمّ. تقول نور: “لا أتخيّل حياتي من دون صوما. أنا أعجز عن فعل أي شيء من دونها. حتى عندما أتزوج أريدها أن تبقى إلى جانبي”. عادةً ما نُردد هذه العبارات على مسامع أمهاتنا، وصوما في حالة نور هي أمّ وليست مجرّد عاملة. لم يكن من الصعب التماس طبيعة العلاقة بينهما، بل كان من الصعب استيعابها في بلدٍ تغزوه صورٌ نمطية عن العاملات المنزليات والعلاقة معهن. فغالباً ما تصوّر العاملة على أنها سارقة ومتوحشة وفظّة ولا تؤتمن وامرأة تهوى الإيقاع بالرجال فيجب مصادرة جواز سفرها وعدم السماح لها بالخروج من المنزل وقمع أي علاقة تحاول توطيدها مع زميلة لها أو جارة.
جسّد الفيلم صوما كأم وعاملة بشكليّن متناقضين. ظهرت في لبنان العاملة/الأم التي تُشرف على كل شاردة وواردة تخص أبناء البيت الذي تعمل فيه، وترافقهم مواكبةً إياهم في طفولتهم ونضجهم. أما في بلدها الأم سيريلانكا، الذي عادت إليه بعد سنوات طويلة من الفراق برفقة نور، كانت الأم/العاملة التي جرّدتها الظروف المعيشية الصعبة من حقها في العيش في كنف طفليّها البيولوجيين والسهر على تربيتهما ومواكبتهما في مختلف مراحلهما العمرية.
سيريلانكا أيضاً كانت محطة التحوّلات النفسية والمعنوية بالنسبة لـنور. خاضت الشابة تجربة التعرّف على الجانب الآخر من صوما وعاينت معاناتها عن كثب. عرفت أن لها حياة أخرى كاملة خارج لبنان أُجبرت على التخلي عنها والهِجرة بحثاً عن فرصة ما.
كان لتلك التجربة أثراً بالغاً على نور. تحدثت عن شعور النوم في بيت لا تعرف أهله. أن تكون غريباً في ليلتك الأولى ومُلزماً على أن تتشارك مكاناً تُزاحمك فيه الغُربة ويُحيطك الغرباء. سألت: “كيف احتملت صوما فعل ذلك؟ وكيف تتحمل فعله بقية النساء العاملات؟”. غالبية العاملات يقضين عمراً كاملاً قابعات في حجرة لا تتجاوز الـ 4 أمتارٍ مربعة. وبعضهن لا يحصلن على حجرات أصلاً، بل يضطررن إلى النوم في المطبخ أو افتراش أرض أي غرفة من غرف المنازل التي يعملن فيها. قانوناً، لا شيء يُلزم أصحاب العمل باحترام حقوق العاملات، من هنا يأتي الوثائقي كـصرخة لإعادة النظر بالمفاهيم الاجتماعية المنتشرة عن العمل المنزلي، والتعاطي معه من منظور جديد يُكرّسه كـعمل فعلي لا يختلف عن أي عمل آخر، وأن لمن يقوم به حقوقٌ تتساوى مع حقوق أي عامل آخر في أي مجال كان.
خلال الزيارة التقت نور بالعديد من العاملات اللواتي قدمن إلى لبنان. إحداهن أخبرتها أمام عدسات الكاميرا أنها عملت في منزل مخدوميها تسعة أشهر متواصلة من دون راتب، ما اضطرها للعودة إلى سيريلانكا. بالرغم من أن الفيلم لم يعتمد إلقاء الضوء على الممارسات الاستغلالية المجحفة التي تتعرض لها العاملات بشكل مباشر، بل آثر الكشف عن معاناتهن من باب محض إنساني، إلا أنه يأتي في إطار الضغط لمضاعفة الجهود المبذولة لتعزيز الهياكل القانونية والتنظيمية للعمالة الأجنبية، خصوصاً أن الأعراف الاجتماعية تسهم في استمرار الممارسات المسيئة بحقهن.
صوما ونور نموذجاً للمراجعة الذاتية في بلدٍ تجتاحه المفاهيم العنصرية يوماً بعد اليوم. فشكراً صوما والأخريات لكل هذا العطاء.