تحديات تطوّر النساء المهني والوظيفي بعد الولادة
تكبر الفتاة وفي ذهنها ترتسم صورة مشرقة عن المستقبل. تضع لمسارها خارطة طريق لا عثرات فيها: تتعلم، تتخرج، تعمل، تنجح في وظيفتها، تتزوج، تنجب وتؤسّس عائلة. لكن الحلم الوردي غالباً ما يصطدم بصعوبات لم تكن لتتوقعها والنجاح المهني الذي كانت تسعى إليه تجده مفرملاً بعد الولادة الأولى حيث تكبر التحديات ويصبح التوفيق بين متطلبات العائلة ومتطلبات العمل من الصعوبة بمكان في ظل غياب شبه تام للدعم في الدور الرعائي سواء من قبل المؤسسات وارباب العمل او من قبل الزوج والعائلة. فهل تستسلم وتخضع لوضعها كأم وربة عائلة أم تواجه التحدي وتستعيد، ولوعلى حساب صحتها وراحتها وراحة عائلتها، النجاح المهني الذي وضعته بين هلالين إثر الولادة؟
قانون العمل في لبنان لا يدعم الأمومة
قد يقول كثيرون إن هذه الإشكالية لم تعد مطروحة اليوم، فكل الأمهات بتن عاملات وكلهن استطعن التوفيق بين العائلة والعمل. ولكن عند البحث في العمق نجد أن قليلات هن اللواتي استمر مسارهن المهني في تصاعد مضطرد في الفترة الأولى لتأسيس العائلة. وكثر هن النساء اللواتي اضطررن لوضع حياتهن المهنية في المرتبة الثانية ولو لفترة من الوقت او لسنوات قليلة قبل ان تستقرّ أحوالهن ويعدن بفاعلية الى سوق العمل. كيف لا والقانون اللبناني يمنح الأم إجازة أمومة لا تتعدى السبعين يوماً بعد ان كانت أربعين يوماً في السابق في ظلّ الغياب الفعلي لإجازة الأبوة التي أقرّت بصيغة مضحكة مؤخرًا، ليس من شأنها المساهمة في مساعدة الأب على لعب دوره الرعائي في هذا الإطار.
قليلات هن اللواتي استمر مسارهن المهني في تصاعد مضطرد في الفترة الأولى لتأسيس العائلة
وبعد انقضاء فترة الولادة على الام، تعود الى وظيفتها وكأن شيئاً لم يكن، فلا تسهيلات تذكر ولا حقوق تميّزها. لا يمكنها مثلاً ان تقصّر دوام عملها او تصل متأخرة الى وظيفتها أو تتغيب عن العمل دون مسوغ قانوني. وكل تغيب أو تأخير يحسم من عطلتها السنوية. فمرض الطفل مثلا او حفلته المدرسية أو حتى عطلته الدراسية ليس سبباً عند ارباب العمل للتغيب. وهنا تقع الأم بين مطرقة واجبها المهني وسندان عاطفتها كأم. بأيهما تضحّي، لا سيما إن لم يكن لديها دعم ومساعدة عائلية تسمح لها بالتوفيق بين الواجبين؟
يقول ايلي ا. وهو مسؤول عن قسم الموارد البشرية في إحدى الشركات الكبرى “صحيح أننا وبحسب قانون العمل لا يمكن أن نطرد موظفة وهي حامل لكن لا شيء يمنعنا بعد أن تنجب من الاستغناء عنها إذا لمسنا اي تقصير من جانبها”. ويتابع إيلي توصيف الوضع قائلا ً: “بحسب خبرتي الطويلة غالباً ما لاحظت ان صعود المرأة المهني يتوقف لفترة بعد الإنجاب، فلا تعود قادرة مثلاً على العمل لساعات إضافية طويلة إذا اقتضت ضرورات العمل ذلك كما يصبح السفر بداعي العمل أو المشاركة في ندوات تدريبية صعباً وأحياناً مستحيلاً عليها، و هذا ما يدفع بالآخرين الى الانقضاض على وظيفتها والصعود على حسابها . وقلة هن الموظفات او العاملات اللواتي يستطعن تأمين دعم عائلي كاف يسمح لهن بتوكيل أمر أطفالهن الى الآباء او الى الأزواج أو الأمهات أو الحموات”.
الكثيرات من الأمهات العاملات ما زلن يفتقدن الى اي وسيلة دعم حقيقية فيفضّلن التضحية بمسيرتهن المهنية لفترة الى حين أن يكبر الأولاد ويدخلون المدرسة
حلول بديلة أعادت الأمهات الى سوق العمل
ولكن في ظل هذا الواقع غير المؤاتي للمرأة ، كيف تستطيع هذه الأخيرة استئناف حياتها المهنية بفاعلية بعد الإنجاب في ظل غياب شبه تام لأي منظومة دعم تؤمنها الدولة او القوانين او المجتمع؟ في بعض الدول الغربية مثل فرنسا شكّلت الجمعيات والاتحادات النسائية وسيلة ضغط على الاتحادات العمالية لتأمين تسهيلات للمرأة العاملة تقضي باعتماد دوامات مرنة أو إمكانية العمل من البيت وتخفيض كلفة دور الحضانة، اضافة الى تحفيز فكرة تقاسم الواجبات المنزلية بين الرجل والمرأة. ولكن في لبنان، ما زلنا بعيدين عن هذه التوجهات وكأن المرأة متروكة لنفسها لتتدبّر أمرها بما تيسّر ولو كان ذلك على حساب تطوّرها في الحياة المهنية، علماً انه وبحسب آخر ارقام دائرة الإحصاء المركزي لا تتبوأ النساء مراكز إدارية عليا إلا بنسبة 10،7%.
بعض الأمهات العاملات وجدن الحل في استقدام عاملة منزلية تقوم برعاية الأطفال اثناء غيابهن مع ما يستتبعه من محاذير وتداعيات نفسية واجتماعية على الطفل والعائلة. وبعضهن الآخر وجد الحل في دور الحضانة لاسيما وأن الكثير منها بات مزوّدا بكاميرات مراقبة تتيح للأم التاكد عن بعد من وضع طفلها في أي وقت من أوقات النهار، مقابل دفع مبالغ طائلة لا تملك جميع العائلات ترف توفيره. ولكن يبقى أن الكثيرات من الأمهات العاملات ما زلن يفتقدن الى اي وسيلة دعم حقيقية فيفضّلن التضحية بمسيرتهن المهنية لفترة الى حين أن يكبر الأولاد ويدخلون المدرسة، مما يعيق مسيرة تطوّر النساء مهنيًا وتمكينهنّ إقتصاديًا في لبنان.