“نعمت كنعان” أوّل مديرة عامة في الدولة اللبنانية: واجهت الفساد وتعرّضت للتمييز الجندري
نادراً ما تجد تلميذاً يدخل إلى الجامعة وهو في عمر الثالثة عشرة. من هذه القلة القليلة نعمت كنعان. أطلّت على الدنيا في بلدة بوداي (قضاء بعلبك). عاشت طفولتها وصباها في مدينة طرابلس حيث كان يعمل والدها.
مدرسة الأميركان في طرابلس شهدت بدايات تفوقها. ذكاؤها الحاد كان يسمح بترفيعها أكثر من صف دراسي في العام. في نهاية المرحلة الثانوية حلّت في المرتبة الأولى في جميع المدارس الأميركية في لبنان وحصلت على منحة تعليمية للدراسة الجامعية. عارض والد نعمت إرسال ابنته إلى الجامعة في هذا السن المبكّر فاستعانت بمديرة مدرستها لإقناعه. موافقته جاءت مشروطة بأن يسمح لإبنته بالإقامة في القسم الداخلى المخصّص للطالبات في الجامعة. يومها الجامعي الأوّل عام 1954 في كلية بيروت للبنات (LAU حالياً )كان لافتاً، حيث رحّبت بها مديرة الكلية كأصغر طالبة في تاريخ الجامعة بواسطة مكبّر الصوت، واهتم بها الأساتذة والمصورون بشكل لافت في حفل الإستقبال الذي تقيمه الجامعة للطلاب الجدد.
ثلاث سنوات أمضتها في الكلية حصلت خلالها على إجازة في التربية وعلم النفس.كانت خلالها شبه وحيدة. زميلاتها في الدراسة لم يهتممن كثيراً بكسب صداقتها بسبب صغر سنها وتباعد الإهتمامات الشخصية بينهم/ن وبينها. كن يتوددن إليها فقط في مواسم الإمتحانات بهدف المذاكرة معها.
بعد تخرّجها من الجامعة صبّت جهدها على التعليم حيث تنقّلت لسنوات عدة بين التعليم الرسمي والخاص. بعدها، وضعت نعمت كنعان خطواتها الأولى في مصلحة الإنعاش الاجتماعي عام 1962. ارتضت وظيفة كاتبة دون أن تقتنع بها. مؤهلاتها الجامعية وطاقاتها الذهنية كانت تدفع بها دائماً إلى طلب وظيفة تناسب إمكاناتها. خلال عملها في مصلحة الإنعاش الإجتماعي قامت وبمبادرة ذاتية بإحداث نظام جديد لأساليب بعيدة عن الروتين الممل والذي يستنزف طاقات الموظفين والمراجعين معاً. وبذلك تحوّلت وظيفة كاتب من وظيفة ثانوية إلى مرتكز أساسي في العمل. أما مواجهتها الأولى مع الفساد داخل إدارات الدولة فكانت عندما وضع شخص مبلغاً كبيراً من المال على مكتبها مقابل توقيعها على معاملة غير مستوفية للشروط القانونية، ولكن رفضها للرشوة لم يحل دون وصوله إلى مبتغاه بعدما فتح أحد المدراء جيبه وابتلع المبلغ وقام بمخالفة القانون.
بعد حصولها على شهادة الماجستير من الجامعة الاميركية عام 1966، أصرّت كنعان على تعيينها رئيسة لجهاز الخدمات في مصلحة الانعاش الاجتماعي خلفا للدكتور عباس فرحات، وهذا ما لم تطلبه أي موظفة في الدولة اللبنانية من قبل. مطالبتها بالمنصب كان نابعًا من ثقتها بمؤهلاتها وقدرتها على النجاح. وبعد انتظار طويل لم تمل خلاله نعمت كنعان من المطالبة بما تعتبره حقاً مشروعاً لها، جرى تعيينها في هذا المنصب بالوكالة، حيث انتظرت عامًا كاملًا حتى يتم تعيينها في هذا المنصب بالأصالة، وكان لها ذلك في العام 1967. وقد كان أبرز إنجازاتها في تلك المرحلة إنشاء مركز التدريب الاجتماعي عام 1969 والذي حقق أهدافه في تطوير قدرات العاملين/ات في الحقل الاجتماعي.
وفي العام 1973، عقد اجتماع في القصر الجمهوري برئاسة رئيس الجمهورية أنذالك، سليمان فرنجية، حضرته رئيسة مصلحة الخدمات في الإنعاش الاجتماعي نعمت كنعان وبعض الوزراء، وتقدمت خلاله كنعان بدارسة حول إنشاء مراكز صحية واجتماعية في كل المناطق اللبنانية المحرومة. أعجب رئيس الجمهورية بهذا الاقتراح وأوعز إلى الوزراء المختصين بوضعه موضع التنفيذ.
رفضت نعمت كنعان الإعتراف بإنقسامات الحرب الأهلية وكانت تنتقل تحت القصف والرصاص بين شطري العاصمة لتفقّد سير العمل في وزارتها. كثيراً ما كانت تنقل رواتب موظفي الوزارة القاطنين في المنطقة الشرقية من بيروت من المصرف المركزي في شارع الحمراء غير عابئة بالفلتان الأمني الذي كان سائدًا في تلك المرحلة والذي كان ممكناً أن يودي بها الى التهلكة.
كان أكثر ما يقوّى ثقتها بنفسها وقوف زوجها الضابط في الجيش اللبناني “كمال أبي عبد الله” إلى جانبها ودعمه لها. لا تنسى نعمت عندما أصرّ أحد المسلحين على معبر المتحف على تفتيش سيارتها وتدخّل زوجها في اللحظات الاخيرة مما أنقذها وأنقذ راوتب الموظفين/ات.
تحمل كمال أبي عبد الله مع زوجته مشاق المرحلة، ساعات طويلة كان يقضيها على المعابر منتظراً عودة زوجته كاتماً صبره وقلقه ولم يصدّق عيناه في أحد المرات وهو يشاهدها تخرج من سيارتها سالمة بعد أن مزقها الرصاص على معبر المتحف.
خلال مرحلة التهجير والحرب في منطقة الجبل أصرّت كنعان على ضرروة توزيع المساعدات على جميع المهجرين بالتساوي رافضة كل الضغوط التي مارسها عليها أحد الوزراء من أجل احتكار المساعدات لمنطقة دون أخرى وخاضت معه مواجهة كلامية حادة. كان هدف هذا الوزير توظيف المساعدات في حسابات سياسية وطائفية.
عام 1993 استدعى رئيس الجمهورية الياس الهرواي نعمت كنعان وأبلغها قرار مجلس الوزراء تعييينها مديراً عاما لوزارة الشؤون الاجتماعية لتصبح بذلك أوّل سيدة تتولى منصب مدير عام في الدولة اللبنانية. منذ اليوم الأول لوجودها في منصبها الجديد شعرت كنعان بان هناك من يريد لها ان تفشل في مهمتها من زملائها الرجال. تذكر نعمت عندما جاءها أحد الوزراء عارضاً عليها اعتماد شركة إحصاءات معينة من أجل تنفيذ مقترحها باجراء دراسة حول السياسية الاجتماعية في لبنان، وبعد أن ذهب الوزير أرسل أحد مستشاريه عارضاً عليها إدخال زيادات وهمية على فاتورة الشركة بهدف الإستفادة الشخصية محاولا إغرائها بنسبة من الأرباح فكانت ردة فعلها هي أن طردت المستشار من مكتبها بعد أن هدّدته بفضح أمره. موقف نعمت كنعان هذا ردّ عليه بعض المتضررين بتسريبات إلى وسائل الاعلام تتحدث عن مخالفات كبيرة في وزارة الشؤون الاجتماعية بطلتها المديرة العامة للوزارة، وبعد تحقيقات طويلة أعلن ديوان المحاسبة قراره بتربئة نعمت كنعان من المخالفات المنسوبة إليها.
أربعون عاماً امضتها نعمت كنعان في وزارة الشؤون الاجتماعية أنجزت خلالها الكثير وبقي الكثير على الورق ينتظر التنفيذ. دراسات وأبحاث كثيرة قامت بها ليس لوزارة الشؤون الاجتماعية فقط بل لعدد من الوزرات الأخرى. وتعتبر أبرز إنجازاتها هي صياغة سياسة اجتماعية متكاملة في لبنان ووضع خطط شاملة ومفصّلة للسياسة الإسكانية.
إن قصّة نعمت تختصر مسيرة إمرأة كافحت في مجتمع طائفي وذكوري لتحقيق ذاتها، وعملت بنزاهة مطلقة خدمةّ لوطنها وشعبه في وقت كانت فيه النساء ممنوعات من المشاركة الفعّالة في سوق العمل وتبوّء مناصب عليا. والمؤسف هنا أن واقع النساء في سوق العمل في لبنان اليوم، وبعد كل هذه السنوات، لا يعدّ أفضل حيث لا تزال النساء تعاني من بيئة عمل ذكورية وغير آمنة، تمييز في القوانين والأجور ومواجهة سقف زجاجي يمنعها من الوصول إلى مراكز قيادية في أغلب المؤسسات الرسمية والخاصة.