نسوية لا تضع فلسطين على رأس أولوياتها، نسوية مشوّهة وفارغة وناقصة
صنعت إنتفاضة بطلات وأبطال حي الشيخ جراح بالقدس المشهد والحدث على مدى الأسابيع الماضية في وجه همجية وإجرام الإحتلال الصهيوني وتغاضي المجتمع الدولي عن الإنتهاكات المستمرة التي تمارسها السلطات المحتلة والتبريرات القديمة الجديدة للإحتلال والإستيطان والتهجير. ومعها عادت إلى الواجهة نقاشات متعدّدة حول القضية الفلسطينية وما يعرف بـ”السلام” و”الديمقراطية” و”معاداة السامية”… وبطبيعة الحال، فالنسويات لسنا بمنأى عن هذا الجدل، وذلك بسبب التداخل التاريخي بين القضايا العامة والخاصة والوطني والنسوي في نقاشاتنا وفكرنا وتوجهاتنا المختلفة.
لن أخوض في هذه السطور في وجهات النظر الإستشراقية والليبرالية حول فلسطين ومفهوم الإحتلال، لأنه برأيي غير مجدي وظالم ويضرب الفكر النسوي في صميمه القائم على رفض ومقاومة كلّ أشكال العنف والظلم والقهر. إن الإحتلال والإستعمار والإستيطان والقمع والتمييز المنظّم الذي تمارسه ما يسمى بدولة “إسرائيل” بحق الفلسطينيات والفلسطينيين يحتّمون علينا كنسويات أخذ موقف واضح، غير قابل للتأويلات أو للإستثناءات أو للتحفظات، داعي إلى تحرير فلسطين وإقرار المساواة والحقوق والعدالة لشعبها، صاحب الأرض والحقّ.
لم يعد من المقبول اليوم إبقاء موضوع الاحتلال الصهيوني ضمن القضايا الهامشية بعيدًا عن بلورة رؤية نسوية متعدّدة الجوانب، مناهضة لممارسات الصهاينة وسياسات الإفقار والتهجير المستمرّة تجاه الفلسطينيّات والفلسطينيّين وواضحة لناحية تفكيك الإستيطان. فالحقوق والعدالة لا تتجزّأ، فلسطين كانت وستبقى قضية نسوية ذات أولوية وفي صلب نضالنا التقاطعي التحرّري الذي لا يمكن أن يكتمل أو يتحقّق دون إنهاء كلّ أشكال العنف البنيوي والسياسي.
وبحسب تقرير لمنظمة “هيومن رايتس ووتش”، فإن ممارسات الإحتلال الصهيوني من أشنع الجرائم في القانون الدولي إذ عمدت سلطاته بدرجات مختلفة من الشدة إلى نزع ممتلكات الفلسطينييات/يين، وإخضاعهن/م، وعزلهن/م، وفصلهن/م قسرًا بحكم هويتهن/م. في بعض المناطق، بحسب ما يظهره التقرير، كان هذا الحرمان شديدًا إلى درجة أنه يرقى إلى مستوى الفصل العنصري والاضطهاد، وهما جريمتان ضدّ الإنسانية. هناك مجموعتان رئيسيتان تعيشان في الأراضي الفلسطينية المحتلة اليوم: الإسرائيليون الصهاينة والفلسطينيون. وهناك جهة واحدة ذات سيادة رئيسية تحكمهم، هي حكومة الاحتلال التي تمنح امتيازات بشكل ممنهج لليهود في أغلب مناحي الحياة، وتميّز ضدّ الفلسطينيين. وخلصت “هيومن رايتس ووتش” بناءً على بحثها، إلى أن حكومة الاحتلال أظهرت نيتها الحفاظ على هيمنة الصهاينة على الفلسطينيين في جميع أنحاء الأراضي التي تسيطر عليها. في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، اقترنت هذه النية بالقمع المنهجي للفلسطينيين والأفعال اللاإنسانية ضدهم، وعندما تحدث هذه العناصر الثلاثة معا، فإنها ترقى إلى جريمة الفصل العنصري.
ومن المفيد التأكيد أيضًا على أنّ المشروع الصهيوني هو أيضًا مشروع عنف واضطهاد جنساني لطالما عمد إلى إستخدام أجساد النساء كأسلحة في حربه الإستعمارية داخل المعتقلات والمنازل وفي الشوارع وجميع الساحات، من خلال تعذيب وعنف جنسي وإغتصاب واعتداءات جنسانية لا تعدّ ولا تحصى، وأداة لتعزيز سلطة الدولة والبنى الأبوية الصهيونية وممارسة الطرد والإضطهاد المنهجي للفلسطينيات\ين من أرضهن/م.
في النهاية، تبقى النساء الفلسطينيات صامدات ومقاتلات ليس فقط في وجه الأبوية بل أيضًا الاحتلال والاستعمار. لذا فإنّ التضامن والدعم النسوي لهنّ لا يقلّ أولوية وأهميّة عن تضامننا ودعمنا لجميع الفئات المضطهدة والقضايا المحقّة الأخرى مثل قضايا أصحاب البشرة السوداء، الطبقات العاملة والمسحوقة، المهاجرات واللاجئات، السكان الأصليين، الميول والحريات الجنسية… كل الحب والفخر بالنضال التاريخي الشامل للنساء الفلسطينيات الساعي إلى قطع جذور العنف من الداخل ومن الخارج، في وجه المخططات الصهيونية، ومن أجل التحرّر الوطني والذي لا يكتمل دون تطبيق العدالة بين الجنسين ومناهضة كراهية النساء والأنظمة الأبوية-السلطوية داخل المجتمع الفلسطيني نفسه أيضًا. ونؤكّد على أن نسويتنا تحتّم علينا الإيمان والدعم العميق والمطلق للقضية الفلسطينية وللتحرّر السياسي والإجتماعي الفلسطيني في وجه العنف الجنساني والإحتلال والقمع ومصادرة الأراضي وإلّا كانت نسوية مشوّهة وناقصة وفارغة وفضفاضة ومتخاذلة ومتواطئة.