المسار التحالفي القوّة في الشمولية والتنوع: قراءة تقاطعية لمستقبل لبنان
تهدف هذه المقالة للتعبير عن تساؤلات مجموعات متعدّدة في لبنان خاصّة فيما يتعلق بقضايا اجتماعية-ثقافية شاملة وبكيفية إدارة التنوع. لا تقدم هذه المقالة حلولاً بل هي بمثابة حوار وتعقيب على سلسلة خطوات قام بها المجتمع المدني في لبنان لتعزيز مفهوم التقاطعيّة عبر أصوات مجموعات مهمشة، نساء، أشخاص من ذوي الإعاقة وناشطات كما وناشطين سياسياً. تتناول الكاتبة في السطور المقبلة التمييز السياسي والعنف كمحاولة لتسليط الضوء على قضايا حقوقية أساسية للمضي قدماً نحو توازن مجتمعي-عادل، قائم على المساواة في الحقوق لجميع مواطناته ومواطنيه.
ما هي مكونات الهويّة الإجتماعية وكيف يتمّ تحديدها؟ ما الذي يوحدنا كمواطنات ومواطنين؟ لما ينتمي البعض منا إلى مجموعة معينة دون أخرى؟ لطالما أقلقتني هذه الأسئلة كمراهقة ولاحقًا طاردتني كإمرأة نشأت في نظام تهيمن عليه الطائفية والمذهبية. “من أنت؟” السؤال الهاجس في لبنان، به نصف الآخر ونحدده كيف ما نريد. ولو رغبت بالإجابة على السؤال الآن فيما أكتب هذه السطور أقول: “أنا لبنانية، نسوية ومؤمنة بالمساواة على أسس العدالة الإجتماعية أولاً، ثانياً، بالعلمانية كنموذج وأخيراً بالعيش معاً. هذا الخيار هو الأصعب في لبنان، هذا الخيار هو الطريق الذي لم يُسلك إلا قليلاً.
فلننظر إلى النموذج اللبناني الحالي نرى تجمع ممنهج لأنظمة فاسدة من الجذور، قمعت التغيير ورمزته في تمييز قائم على النوع الإجتماعي، على حقوق المواطنة وعلى تفكيك مبادىء الحريّات دون ملّل. والنتيجة مكونات إجتماعية بعيدة عن المساواة والعدالة وفق أنساق متوازية وغالباً ما لا تلتقي. وتكثر الحالات والأمثلة: قوانين الأحوال الشخصية في لبنان والمعاناة التي تسببها على أساس النوع الإجتماعي، مفهوم الطبقية والمواطنة. واقع التناقضات والغموض هذا يقوض الصفوف ويعيق المضي قدماً نحو الدولة العلمانية التي تضمن التساوي في الكرامة والحقوق لكافّة المقيمات والمقيمين على أرضها.
هذا الإهمال الممنهج في لبنان يقع ضمن قاعدة سياسية غير معلنة “لا تسأل، لا تخبر”، وبالتالي ننسى أن عدم خوض نقاش حول إدارة التنوع القائم على أساس النوع الإجتماعي، العرق، الدين أو الطبقة الإجتماعية، لا يعني عدم وجودها أو إختفائها، بل بالعكس يؤدي إلى ترسيخها بشكل خاطىء في معظم الأحيان. فلا يمكن بالتالي لأيّ مجتمع أن يتقدم تنموياً أو يتطور دون التعامل الجريء والعلني مع الإختلافات وإدارة التنوع كقيمة إنسانيةّ.
في إطار مشروع عمل عليه كلّ من منظمة أبعاد ABAAD والإتحاد اللبناني للأشخاص المعوقين حركياً LUPD، بدعم من المؤسسة الدولية للأنظمة الانتخابية IFES، قام عدد من منظمات المجتمع المدني ضمن تحالف يمثل مجموعة من الهويات المختلفة بالتعاون معاً للعمل على ردم الفجوة الجندرية، مفهوم الطبقية الإجتماعية، الإحتياجات الخاصّة، الجنسانية، المواطنة، اللغة والتربية بالإضافة إلى العديد من العوامل الأخرى التي أدّت إلى تقسيمنا التقليدي بدل من توحيدنا. اجتمع مجموعة من الناشطات والناشطين وأعضاء المنظمات العاملة في مجال المساواة الجندرية، حقوق اللاجئات واللاجئين، مجتمع الميم، إدماج ذوي الإعاقة كما تفعيل التنمية المستدامة في الأطراف والمناطق المهمشة في لبنان لمناقشة طرق بديلة للمضي قدمًا نحو مستقبل أكثر عدالة ومساواة. وقد جرى الحديث وفق معايير تقاطعية وعبر سلسلة من الآراء لتحديد الإحتياجات والأدوات المطلوبة.
حمل هذا اللقاء عبء سنوات الإهمال الممنهج حيث شكل تراكم الأزمات، التطورات والتغيرات الجذرية التي حدثت في لبنان منذ إنتفاضة تشرين الأول 2019، جائحة وباء الكورونا، وانفجار مرفأ بيروت كما الإنهيار الإقتصادي حيّزاً كبيراً من محتوى الحديث وإنعكس ضمن نقاشات حول الإصلاح طورها التحالف طوال عام ضمن إطار” المسار التحالفي: القوّة في الشمولية والتنوع”.
الحوكمة الشمولية
“نحن بحاجة إلى الوصول للعدالة والحصول على الحقوق“، أثرّت جائحة وباء الكورونا على لبنان كثيراً خاصّة حيث تصعب إدارتها في المناطق المحرومة اقتصادياً والتي يعتمد فيها الناس على وسائل النقل العام ليتمكنوا من جمع الإمدادات الأساسيّة، الغذاء، الدواء والعمل اليومي لتوفير احتياجاتهم/ن واحتياجات عائلاتهم/ن. في العادة عندما تفشل الحكومة المركزيّة في تقديم الخدمات تتدخل الإدارة المحليّة المتمثلة بالبلديات لردم الفجوة والاستجابة لاحتياجات المجتمع الأهلي. وغالباً ما يقع عبء الجائحة على الفئات المهمشة، لذلك يعتبر هذا الضغط السلبي أكبرمن قدرة الأفراد من ذوي الإعاقة والأسر حيث المرأة هي المعيل الوحيد، كما اللاجئات واللاجئين والعديد من الذين هم من الفئات الأقلّ حظاً في لبنان، على التحمل.
تعمل منظمتي حقوق الركاب ودرب الوفا سوية لفهم احتياجات المجتمعات الأهلية خاصّة أولئك الأكثر حرماناً (النساء من ذوي الإعاقة، والشباب الذي يعيش تحت خط الفقر…). تقوم المنظمتان بالإشتراك مع عدة بلديات على وضع استراتجيات للتنمية التشاركية وخطط إدارة الأزمات التي من شأنها خدمة هذه المجتمعات بشكل أفضل في أوقات الطوارئ مثل جائحة وباء الكورونا أو انفجار مرفأ بيروت.
التعليم الشامل
“نحن بحاجة إلى العمل مع المجتمعات لتقليل وصمة العار لدى مناقشة الصحّة الجنسية من أجل تعزيز الوصول إلى معلومات أساسيّة”.يُعتبر التثقيف حول الصحّة والحقوق الجنسيّة والإنجابيّة من المحرمات بالنسبة للكثير من الناس. في المقابل الإفتقار إلى هذا النوع من المعرفة الشاملة حول الصحّة الجنسيّة والإنجابيّة منتشر بشكل خاص بين الأشخاص ذوي الهويات التقاطعية مثل النساء المحرومات اقتصادياً، اللاجئات واللاجئين كما الأشخاص ذوي الإعاقة الذين يعيشون في المخيمات… هؤلاء لا يستطيعون حماية أنفسهم/ن وغالبًا ما يقعون في إطار النسيان أو عدم أخذ حاجاتهم بعين الإعتبار ما يعرضهم/ن لخطر أكبر للآثار السلبية للصحّة الجنسيّة والإنجابية بسبب نقص التعليم الشامل على هذه المسائل. يعمل تحالف متعدد القطاعات يضم كلّ من شبكة مينا روزا Mena Rosa الإقليميّة والجمعية اللبنانية للمناصرة الذاتيّة LASA وجمعية المرأة الخيريّة PWHO لمعالجة هذه المعضلة وتقديم المعرفة كما زيادة الوعي لدى الفئات الشبابية ومقدمي الرعاية من الذين يعيشون داخل المخيمات وخارجها.
التوظيف الشامل
“نحن بحاجة إلى قواعد قانونية وتشريعات من أجل تحسين وضعنا. نحتاج أيضاً إلى التفكير في كيفية تفاعلنا مع الناس بشكل عام ومع المجتمعات الأهلية، وكيف يمكننا تطبيق التقاطعية والإندماج لإدارة التنوع داخل مكان عملنا ومع شركائنا…”
تحالف تقاطعي آخر يضم كلّ من منظمة “عدل بلا حدود” الحقوقيّة، الجمعية اللبنانية لتثلث الصبغية 21 LDSA وجمعية العناية الصحيّةSIDC ، يعمل هذا التحالف مع أصحاب العمل في لبنان لتفعيل المساءلة وإنهاء الممارسات التمييزية في مكان العمل. أسّست الإنتفاضة الشعبية في تشرين الأول 2019 صورة لأفراد من كافّة مناحي الحياة يطالبون بالتغيير وإنهاء الفساد وسوء إستغلال السلطة ومن ضمنها التنمر في بيئة العمل على مختلف المستويات. يعمل التحالف على إعداد ورقة سياسات تتضمن إصلاحات وتوصيات تتعلق بقانون العمل لتحسين حقوق العديد من الذين يعانون من التمييز في مكان العمل، بما في ذلك النساء، مجتمع الميم ومن هم من أصول غير لبنانيّة.
الحقوق السياسية
“نحن بحاجة إلى الابتعاد عن تعزيز إختلاف الآخر بعيدًا عن الانتماء الطائفي/المذهبي، الموقع الجغرافي الطبقةالإجتماعية، النوع الإجتماعي كما التابوهات مثل التوجه الجنسي، القدرات المختلفة والعرق”. في الوقت الراهن وفي ظلّ كلّ ما يحدث في لبنان، من الصعب علينا جميعاً تخيل المجال السياسي العام مع إقترابنا من الانتخابات النيابية في العام 2022. هذا الواقع دفع بالمؤسّسة العربية للحريّات والمساواةAFE MENA والإتّحاد اللبناني للأشخاص المعوقين حركياً بالعمل على تحديد العوائق التي تعيق الوصول إلى الحقوق السياسية وتسليط الضوء على الحلول التي يمكن تطبيقها لضمان تمكين العديد من أجل ممارسة حقوقهم/ن خاصة ذوي الهويات التقاطعية مثل مجتمع الميم كما الذين يعيشون مع إعاقات مختلفة. يعتبر هذا التحالف أن القدرة على التأثير الفاعل في المجال السياسي للأفراد يترافق جنباً إلى جنب مع القدرة على الدفاع عن الحقوق وتأمينها في القطاعات الأخرى مثل حقّ التعليم، التوظيف والخدمات الإجتماعية.
صوبت التصريحات التي تمّ التعبير عنها خلال جلسة النقاش مع أعضاء المسار التحالفي، الضوء على مخاطر المذهبية والفساد الممنهج والقائم على الهويّة الجماعية. أعرب جميع المشاركات والمشاركين أن التعبير عن الرأي والمخاوف بشكل فردي لم يعد كافياً في لبنان، لذلك لن يكون الإصلاح ممكنًا إلا عبر تحالف تقاطعي يضم مدافعات ومدافعين عن حقوق الإنسان وصانعات كما صناع السياسات، الناشطات والناشطين الإجتماعيين لإعادة بناء البلاد بمنهجية شمولية جامعة.
هذا الوعي لدى الناشطات والناشطين أساسي، لأنهم مدركون أن التحالف التقاطعي ليس سوى أداة لتصميم مفهوم النسيج اللبناني حيث يظهر لنا كيف يمكن لتنوعنا أن يوحدنا في ظلّ عدم الإستقرار الحالي الذي تعيشه البلاد. قالت احدى المشاركات أن “عدم الإستقرار يجعل الأمر شبه مستحيل بالنسبة لنا لتطوير استراتيجيات واتخاذ إجراءات بمفردنا”، وكان الردّ من مشارك آخر، الحلّ يأتي فقط عندما “نعمل معاً”.
قد تساعد عوامل الدفع هذه اللبنانيات واللبنانيين بالفعل على الخروج من الفوضى التي نحن فيها، ولكن هذا لن يحدث إلّا في حالة تحسين مستوى احترام احتياجاتنا وحقوقنا المتباينة والمتضاربة أحيانًا أيضاً، لذلك أشارت إحدى المشاركات إلى أن “هذا ممكن فقط في ظلّ تغيير هيكلي-جذريّ”.
يدرك عضوات وأعضاء التحالف الوضع المخيف الذي نمرّ به حالياً. ومع ذلك الأمل في مستقبل أفضل كبير بكبر المسؤولية الجماعية. وكان الإجماع أن الحلّ يكمن في تحالف تقاطعي، لن ينجح سوى بتغيير النهج القائل “لا تسأل، لا تخبر” لدى التعامل مع انقسامات مجتمعنا الداخلية.
يتطلب تطبيق التنوع والإدماج عملاً طويلاً والكثير من الحلم، في هذه الأثناء التقاطعية كوسيلة تفكير ستجعلنا نفكر بالفئات المهمشة، الفئات القديمة وبتلك المستجدة وسنتمكن من المخاطبة بلغة فاعلة لنقول الحقيقة في وجه سلطة.
ربى الحلو، محاضرة وباحثة مشاركة في وحدة دراسات النوع الإجتماعي، التواصل، التنقل والحركة العالمية في كليّة الحقوق والعلوم السياسية في جامعة سيدة اللويزة.
قبل صياغة هذه المقالة، يسرّت الحلو حلقة نقاش تفاعلية حول المناصرة التقاطعية شارك فيها مجموعة من الناشطات والناشطين وممثلات كما ممثلين من ثماني عشرة منظمة ساهموا جميعاً في تبادل خبرات شخصية ومهنية بحضور كلّ من قادة المشروع منظمة أبعاد ABAAD والإتّحاد اللبناني للأشخاص المعوقين حركياً LUPD بالإضافة إلى الشبكة العربية لديموقراطية الإنتخابات ANDE، درب الوفاء، جمعية الإنماء والتجدد DRA، منظمة في-مايل، منظمة “عدل بلا حدود” الحقوقيّة، الجمعية اللبنانية للمناصرة الذاتيّة LASA، مركز التعلم للصم LCD، الجمعية اللبنانية لتثلث الصبغية 21، الإتّحاد اللبناني للصم LFD، مركز عدل، جمعية المرأة الخيريّة PWHO، حقوق الركاب، جمعية العناية الصحيّة SIDC، نقابة الإختصاصيين في العمل الإجتماعي في لبنان و جمعية الحياة الإيجابية. هذه المنظمات هي جزء من “المسار التحالفي: القوّة في الشمولية والتنوع” وهو تجمع شمولي لمنظمات المجتمع المدني اللبنانية بدعم من المؤسّسة الدوليّة للأنظمة الإنتخابية IFES.