“غادة عبد العال” تغيّر شروط اللعبة .. كلاكيت رابع مرة
تابعتُ مثل كثيرات مسلسل “عايزة أتجوز” الذي انطلق عام 2010. لم أكن أعرف كاتبته غادة عبد العال من قبل رغم شهرتها من خلال مدونة تحمل الاسم نفسه، ولاحقاً في كتاب أيضاً. كان مسلسلاً ساخراً عن طقوس الزواج في المجتمع المصري، كما تخبر غادة عن نفسها في مدونتها:
“أنا أمثل 15 مليون بنت من سن 25 إلى 35 و اللي بيضغط عليهن المجتمع كل يوم عشان يتجوزوا مع أنه مش بإيديهن “.
راقت لي فكرة المسلسل كثيراً. فهو يعتمد على أحد القواسم المشتركة بين المصريين في ذلك الوقت. قاسم بدا لي أنَّه يحمل قدراً من الواقعية والصدق، يتجاوز كل ما يتم تصديره لنا عبر الأغاني. مثل: “المصريون هم بالتأكيد الذين شربوا من النيل وبعدين غنوا له، أو لونهم قمحي لون خيرك يا مصر”.
لربما كان القاسم الوحيد بعد هم #الثانوية_العامة” هو معضلة زواج الصالونات، أو كما يخبر الجيل الأحدث: “كيف يمكننا اختيار شركاء الحياة ضمن تقاليد وقيم الأسرة؟”.
فحين كتبت غادة “عايزة أتجوز”، كانت تجلس في الصالون الذهبي. وكانت تحدثنا جميعاً وتتحدث معنا أيضاً. تُحول الخيبات إلى ضحكاتٍ، فيصبح ما تخلفه تلك الذكريات بكل ما تحمله من غشومة وجلفنة وتنطع، إلى مساحةٍ آمنة للتندر والفكاهة. كانت “حدوتة الصالون الذهبي” تجذبنا جميعاً، لأنَّنا كفتيات باختلاف طبقاتنا وأعمارنا واختياراتنا، تعرضنا لها. وكانت جزءاً من تاريخنا المشترك. تاريخ الطبقة المتوسطة، التي يحلم شبابها بعد التخرج بأن يمشوا في مسارٍ محددٍ وواضح. بينما تتمثل أحلام الفتاة العادية، كما يُمليها كاتالوغ النجاح والتحقق والقبول داخل الطبقة نفسها، تكوين بيت وأسرة وما يلي ذلك من إنجاب الأطفال والحفاظ على امتداد العائلة.
يخبرنا المسلسل في حلقته الأخيرة، التي يجب أن تكون سعيدة كالعادة المملة، أن بطلته “علا عبد الصبور” تجد أخيراً فتى الأحلام. وهو الرجل “المختلف” و”الجائزة” التي تفوز بها بعد تخطيها كافة الحواجز والعراقيل التي وُضعت في طريقها، على “صينية الكيك في الصالون الذهبي “.
بشكلٍ شخصي، كرهت النهاية لكنني تفهمتُ أنها جزء من صناعة الدراما ككل، وأنه لربما هذه إحدى كواليس العمل والجمهور “عايز كده”.
أحبطتني النهاية، غير أن شخصية علا تجسدت في لحمٍ ودم، بعد أن بدأت في متابعة الكاتبة نفسها عبرحساباتها على وسائل التواصل الاجتماعي. في كل مشاركة سريعة على فيسبوك، كان واضحاً أنها تود أن تستكشف حدودها في الإطار المحافظ للمجتمع، وأن تصبح جزءاً منه.
تضع نفسها وأحلامها داخل شروط اللعبة التي يقترحها المجتمع، وهي “لا مواعدة.. لا علاقة خارج إطار الزواج، لا اختيارات خارج الصالون الذهبي”. مسموح فقط البقاء والانتظار والدعاء أن “يأتي ابن الحلال الذي يعرف قيمتك ويعوضك عن كل ما فات!”.
في كلّ محاولةٍ منها لطرح موضوعٍ للنقاش، كان جلياً أنَّها تحاول أن تفهم، وتصل إلى هدنة مع مجتمع لا يخبر الفتيات على وجه الدقة ما هو المطلوب منهنّ. بينما ينتظرن أن يطل عليهن الفارس بحصانه الأبيض، مع الاعتذار للسيدة ماجدة الرومي، التي أخبرتنا أن المرأة هي التي ستطل بالأبيض بالطبع في نهاية المطاف!
المحطة الثانية.. لا أضواء في العاصمة
كانت المحطة الثانية، حين أرادت غادة أن تتبع نداء الكتابة، ما تطلّب منها ترك مهنتها الآمنة كصيدلانية في مسقط رأسها مدينة المحلة. فجاءت إلى القاهرة لتصبح ترساً جديداً، تحاول أن تحتفظ بصوتها وسط ضجيج العاصمة وتجد لموهبتها موضع قدمٍ وسط المنافسة الشرسة داخل صناعة الدراما والسينما.
صمدت الموهبة، ولم يكن المسلسل مجرّد ضربة حظ لن تتكرر. ما حدث أنه تكرّر بشكلٍ جميل وباتت الموهبة أكثر وضوحاً على الرغم من ما تشاركته مع متابعيها حول عدم تلقيها الدعم أو المساندة الكافيين. كما تعرضت في كثيرٍ من الأحيان للتمييز كونها “الفلاحة التي أتت من الأقاليم إلى أضواء العاصمة”، فأدركت أن الأضواء فيها وأن التشويش يهرس الجميع!
تتشارك الكاتبة مساراتها مع متابعيها ومتابعاتها. فتجعل الشخصي يحتل مساحةً من العمومية لينخرط متابعوها ومتابعاتها معها وكأنهم/ن يعرفونها، فهى تبدو “واحدة منهم/ن”.
بينما تتنوع شريحة ال/اتمتابعين بين المؤيد والحانق من آرائها، ومن وصمها مراراً بالـ”تهوّر”. حتى أن أحدهم أخبرها بيقين العارف بالغيب أنها “ستموت وحيدةً”. والكثير من التعليقات التي تفجر نطاعةً معهودةً من رواد فيسبوك. فهم يتطوعون لإبداء النصح من دون أن يطلب منهم، أو يلبسون روح الإله فينظرون إلى الجميع من أبراجهم العاجيّة!
تستمر غادة في كتابة ومشاركة وإعلان ما تفكر فيه.. تود أن تفهم، وتفكر دوماً بصوتٍ مرتفع، يبدو أنَّه يزعج البعض.
التخلي عن الحجاب
أما التحول الثالث، فحدث حين تخلت الكاتبة عن حجابها وظهرت على صفحتها أيضاً. وتقاطع هذا الأمر مع مسار العديد من الفتيات، كاتبة هذا المقال واحدة منهن، في تلك الفترة.
كانت محطة التخلي عن الحجاب قاسية للجميع. ولم يكن تنفيذ هذا القرار أمراً يسيراً، ونتبادل دائماً في جلساتنا تاريخنا الشخصي حول ذلك.
في بعض الأوقات، نتحوّل إلى إخفاء الصورة القديمة ليس خجلاً، بل محاولة لتقليل الجهد في شرح أنفسنا والدفاع عن اختياراتنا، التي لا تحتاج إلى كلّ هذا القدر من الوقت والطاقة. البعض منَّا تركز على الصورة الجديدة كمن تبدأ حياةً مختلفةً كلياً وتموت نسختها الأقدم. كثيرات منا، في تقاطعنا مع مسألة الحجاب رفضه/التمسك به/ التخلي عنه/ الزود عمّا يمثله، نتردد كثيراً في تحويل اختياراتنا الشخصية إلى طرحٍ على المشاع في المساحة العامة، يناقشها الغرباء بكافة أطيافهم/ن.
وأعلنت غادة ذلك على صفحتها ومارسته فعلاً وتفصيلاً. تلقت الهجمات المرة تلو الأخرى حول ذلك. وحين استقر بها المقام بعض الشيء، باتت تلتقط بين الحين والآخر ممارساتٍ من واقع المجتمع وكيف تتحول الممارسات الدينية إلى ممارسات قمعية بالأساس للنساء.
لم تكن داعية دينية تبشر بدينٍ جديد بل كانت فقط فتاة “تؤمن”. ولنقل إنها تود أن تؤمن من قلبها وليس من ترديد الببغاوات، أنَّها تلك الفتاة المطيعة التي تود بالفعل أن تتحرك وفق القواعد والأصول شرط أن يرشدها أحدهم إلى مكان المخبأ السري لكلِّ تلك القواعد والأصول التي تم الاتفاق عليها ولم يخبرنا أحد!!
في كل طرحٍ تُقدمه وتشاركه، تقع حائرةً بين كل ما يحمله ذلك من تناقضات مع واقعها الجديد. لم تقفز نحو مجتمع متشدقي الحريات، فنحن نعلم- بفعل السنين والتجارب التي تلت ثورة يناير وكشفت سوء الحناجر- أن تلك أوهام أخرى لا تلبث أن تختفي مثل فقاعة صابون في مجتمعاتنا “المكمكمة”.
غادة عبد العال لا زالت تحمل الطبيعة المحافظة. يسهل التعرف إلى ذلك، فاختياراتها واضحة ومسارها غير ملتبس. وعلى الرغم من ذلك، هي منبوذة من المجتمع المحافظ نفسه، ما يدعو للعجب!
مثل هذا المجتمع يقف عاجزاً عن أن يستوعب تحولاتها أو يفسح مكاناً لمن تقوم بمثل تلك الخيارات. فهي تأتي كالصفعة على وجهه وعلى كل مساراته المحددة وفق الكتالوغ الذي بذل النفيس والغالي ليتمترس أفراده وفق شروطه المحددة بكل دقة.
كيف لفتاة أن تسخر من تقاليد الزواج علانيةً وتفتح “الصالون الذهبي” كاشفةً عُهر كل ما يتم داخله، حتى وإن كان في قالبٍ كوميدي، لكنَّنا نعرف أنَّه من المُضحكات المُبكيات؟
كيف لفتاة أن تترك مدينتها الصغيرة حيث الحماية، كإرث عائلي من الأهل والأقارب، وتأتي لتعيش بمفردها لتبتلعها نداهة القاهرة؟ كيف لفتاة القفز بموهبتها فقط في سباقٍ محموم داخل عالم الدراما والسينما من دون أن تتكأ على عائلةٍ فنية أو شبكة علاقات قوية داخل المجتمع المخملي؟ كيف تجرؤ أن تتخلى عن حجابها لتصبح شبيهة بفتيات “البندر”، يبقى هتمشي على “حل شعرها”.
لم أجد يوماً معنى لمثل هذه الجملة، أن تمشي إحدانا على “حَلّ شعرها”، ولطالما رددتُ بيني وبين نفسي: “هو فيه أجمل من مشهد واحدة ست أو بنت ماشية وفاردة شعرها ونسمة الهوا بتطير خصلاته”. لكنني انتبهت سريعاً إلى أن كل ما يحيط بالفتيات والنساء من قُبحٍ لا يسمح بمثل تلك المشاهد الرومانسية، حتى لو كانت الفتيات بطلاتها الوحيدات في متعةٍ بسيطة يتم إزاحتها شيئاً فشيئاً لتسكن الخيال فحسب. إذن، صارت غادة ضمن الفتيات اللواتي يمشين على “حل شعرهنّ”!
مبروك، فلنفعل ذلك، من دون التفاتة ندم.
“آدم”.. الحياة الجديدة
يأتي التحوّل الأعمق والأصدق، حين أعلنت غادة لمتابعيها في 14 تموز/يوليو الجاري تبينها طفلها “آدم”
يشير الاسم برمزيته إلى بدايةٍ جديدةٍ وحياة جديدة. كما تعتبر قفزة جديدة تعلنها وتسلّط الضوء عليها من خلال تجربتها الشخصية مرةً أخرى، نحو أحد أهم المنعطفات المجتمعية في مصر، هو الاحتضان ومبادرة إكفل طفل في بيتك.
الاحتضان بمصر إكفل طفل في بيتك
تنهال عليها التهاني من كل حدبٍ وصوب، تهنئة لا تشوبها شائبة، فهي “واحدة” من نساء كثيرات يعلنّ بصدق عن رغبتهن وعن ما يفكرن فيه ويفعلنه من دون التفات.
يعلّق أحد المتابعين أنه يبدو أن علا عبد الصبور وجدت نهايتها السعيدة! لا زلت أرتبك أمام مصطلح “النهاية السعيدة”. فنحن نساء، أي نهاياتٍ سعيدة تنتظرنا في مجتمعاتنا التي لا تسمح لنا بالمشاركة في وضع أيٍ من شروط التعايش وفق اختياراتنا؟.
بكيت حين قرأت الخبر مرةً تلو الأخرى. علمتُ أنني أبكي لأنني أعلم جيداً أن الطريق لصنع اختياراتنا لا يُكلّل بالتصفيق أو الهُتاف أو التشجيع، بل العرقلة وحدها هي ما ينتظرنا وبكل صورةٍ ممكنة، ومن الجهات الأربع.
النساء لا اختيارات أمامهن على الإطلاق. وهن، مثل غادة، إذا أردن أن يصنعن الحياة التي تعبر عن رغباتهن خارج كتالوغ المجتمع، فسيدفعن الثمن لذلك طريقاً طويلاً يقطعنه بمفردهن في قاطرةٍ لا تنتهي من المفاوضات. تتقاطع حيواتنا مع أخريات وآخرين، لكن يبقى الشاهد الوحيد على الطريق هو ذاكرتنا والخوف الذي ينهش دواخلنا قبل الإقدام على خطوةٍ جديدة خوفاً من أن تتحول قفزاً في الفراغ!
كل ما حول النساء لا يصفق لهنّ ولا ينتظر منهنّ سوى التحرك داخل الإطار المرسوم. حتى مع ادعاءات الحرية “المهلهلة” التي يجب أن تأتي بضوابط وحدود لا تخدش عين المجتمع الذي يتلصص أفراده كل على الآخر استعداداً للرجم متى سنحت الفرصة.
أبكي فرحاً، أرسل قلباً عبر الوسط الإلكتروني مصحوبًا بدعاء أن يصبح “آدم” ابناً للجميع، وأن “تخاويه” #أم_آدم. أكف عن البكاء، أردِّد بصوتٍ مرتفع: الأمومة اختيار، الزواج اختيار، العمل اختيار، نسيج الحياة اليومي وما يحمله من تفاصيل عادية أيضاً خيار شخصي.
أمسح وجهي، فلنمحو كلمة “نهاية” ونضع عوضاً عنها “بداية” إنسانية تصنعها امرأة أخرى من النساء اللواتي ارتضين أن يركضن مع الذئاب.