محاكمة منصور لبكي .. كي لا تستباح أجسادنا
8 تشرين الثاني/نوفمبر 2021 هو اليوم الذي تبدأ فيه محاكمة منصور لبكي، رجل الدين اللبناني، بتهمة الاغتصاب والاعتداء الجنسي. وكانت صحيفة “لاكروا” الفرنسية الكاثوليكية أشارت إلى أن محاكمة لبكي الذي أدانه قضاء الفاتيكان (مجمع عقيدة الإيمان)عام 2012 بارتكاب جرائم جنسية بحق قاصرين\ات، ستكون غيابيةً.
بينما استغرق الأمر 8 سنوات من المثابرة والعمل المضني لتخطي المعوقات والتأخيرات القضائية لتتمكن المحامية سولانج دوميك، بوكالتها عن 20 من ضحايا لبكي، من المباشرة في هذه المحاكمة في محكمة جنايات كالفادوس. وشكّل هذا الأمر سابقةً من ناحية محاكمة رجل دين لبناني في محكمة مدنية فرنسية بتهمة ارتكاب جرائم جنسية على أراضٍ فرنسية بحق أطفال/طفلات في عهدته.
تعود وقائع الانتهاكات الجنسية إلى الفترة الممتدة بين عامي 1989 و1997 كان مسرحها بحسب شهادات الضحايا مركز استقبال لأطفالٍ وطفلات استقدمهم/ن لبكي من لبنان خلال الحرب الأهلية وتبعاتها الاجتماعية والاقتصادية.
إدانة لبكي هنا ليست وجهة نظر، بل هي أحكام موثقة صادرة عن هيئات قضائية كنسية ومدنية، لكن الرأي العام اللبناني ما زال يرى فيه مخلصاً للأطفال/الطفلات وخادماً للكنيسة وبأن حصانته “إلهية”.
وعلى الرغم من صدور مذكرات توقيف دولية وأوروبية عن القضاء الفرنسي بحقه عام 2016، إلا أنه رفض الامتثال متذرعاً بالـ”خشية من محاكمة غير عادلة”. ولم يقتصر الأمر على تمنعه عن تسليم نفسه إلى العدالة المدنية الفرنسية، بل إن الكنيسة في لبنان، متمثلة بأعلى هرمها، انتصرت للبكي وأجبرت بذلك لبنان الرسمي على رفض تسليمه إلى فرنسا عام 2017.
نسرد هذه الوقائع مرةً إضافيةً يوم انطلاق المحاكمة، للتأكيد على أن الأمرأبعد بكثير من سيناريوهات المؤامرة التي حاكتها مخيلات مريدي منصور لبكي. فهم رؤوا في شهادات الضحايا المؤثرة “مجرد مسرحيات أَعدت للنيل من سمعة الكنيسة أولاً ومن تاريخ لبكي في العمل الخيري في لبنان ثانياّ”.
حملة مضادة شنها العديد من المتفوهين\ات إعلامياً للاقتضاض على الضحايا والتشكيك بهم\ن والنيل من سمعتهم\هن وترهيبهم\ن. وبالفعل، نجح هؤلاء في تقليب الرأي العام اللبناني وصولاً إلى حد ادعاء لبكي على خمس سيدات لبنانيات من ضحاياه. فصدر عن الهيئة الاتهاميّة في جبل لبنان قرار مؤرّخ في 24/3/2016 قضى بإحالتهن على قاضي التحقيق الأول أو من ينتدبه للتحقيق معهن لارتكابهن الجرائم التالية: “اختلاق الجرائم والتحريض على شهادة الزور والتهديد والقدح والذم والتشهير والتحقير ونشر الوثائق الممنوع نشرها وإفشاء الأسرار وتأليف جماعة أشرار مع أشخاصٍ آخرين من جنسياتٍ غير لبنانية”. حينها هدد لبكي أيضاً محامية الضحايا بأنه سيتقدم بشكوى جزائية ضدها بجرائم “القدح والذم والتشهير العلني وانتهاك سرية التحقيق وانتهاك قرينة البراءة ونشر الأخبار الكاذبة”.
واليوم، بعد طول انتظار تعود هذه القضية إلى الواجهة لتؤكد أن العدالة المدنية الفرنسية تقف إلى جانب الضحايا وصدقتهم\ن.
لكن ماذا بعد؟
هذه ليست الحادثة الأولى التي توثق فيها تعرض أطفال/طفلات إلى اعتداءاتٍ جنسية وهم\ن في عهدة الكنيسة والمؤسسات “الخيرية” التابعة لها. والتاريخ حافل بأمثلة موجعة عن فداحة الانتهاكات، لا سيما الجنسية منها المرتكبة من قبل رجال دين في الكنيسة الكاثوليكية.
فبالأمس القريب، صدر تقرير صادم في فرنسا أكد تعرض أكثر من 200000 ألف طفل لانتهاكاتٍ جنسية ارتكبها نحو 3000 رجل دين في الكنيسة الكاثوليكية في فرنسا منذ عام 1950.
وقبلها، وثًق فيلم Spotlightالحائز جائزة أوسكار كأفضل فيلم لعام 2015 والممنوع عرضه في لبنان، تحرش 250 كاهناً بأطفال/طفلات في مدينة بوسطن. وهي وثيقة إدانة إضافية تشهد على كيفية استغلال سلطة الدين في الانقضاض على الأطفال/الطفلات وإسكاتهم/ن بسبب الخجل أولاً وخوفهم\ن من هذه السلطة التي تكتم نفس الضحية بالترغيب والترهيب نيابة عن الله.
كما هزت كندا مؤخراً فضحية اكتشاف مقابر لأطفال تحت المدارس الداخلية المعروفة بمسمى Indigenous Residential Schools التي أسستها الكنسية الكاثوليكية في المناطق المستعمرة في أواخر القرن الثامن عشر.
كان الهدف المعلن لهذه المدارس حينها “إنقاذ أطفال الشعب الأصيل من همجية الثقافة المحلية عبر التبشير بالديانة المسيحية”. إلا أن الهدف الرئيسي لها كان أبعد ما يكون من العمل الخيري. ففي عام 1920، أعلن مسؤول شؤون الشعب الأصيل أن “هدف المدارس الداخلية التبشيرية هو القضاء على الشعب الأصيل والتخلص من عائق بوجه الاستيطان الاستعماري الذي كانت نتيجته تلويث الأنهر والقضاء على مساحات خضراء شاسعة”، وذلك بحجة التنقيب عن الموارد الأولية واستثمار الموارد.
6000 شهادة عن التعرض لانتهاكاتٍ جنسية فادحة في المؤسسات الكنسية في كندا، كانت أيضاً محور تقرير المصارحة والمصالحة الصادر عام 2015 بعد ما يناهز 10 سنوات على إغلاق هذا الشكل الرعائي في كندا وانسحاب الكنيسة نهائياً من توفير خدمات مبيت للأطفال.
وأكد التقرير أن “نظام المدراس الداخلية الذي فرضته الكنسية الكاثوليكية على أطفال الشعب الأصيل أدى غرضه السياسي الاستعماري، ولكنه فشل في توفير الحد الأدنى من الأمان للأطفال/الطفلات ما جعلهم\ن مستباحين\ات في ظل نظام كنسي هرمي، أبوي أطبق على أنفاسهم\ن. هي سير أطفال/طفلات كبروا\ن في ظل ثقافة الصمت والخجل والخوف من البوح، إلى أن بدأت تتظهر صورة الانتهاكات حتى تمكن هؤلاء، لاسيما النساء، من التحدث عما تعرضن له كأطفال/طفلات. شهادة تلت الأخرى حتى تمكن 6 آلاف ممن كبروا/ن في المؤسسات الرعائية الكنسية على البوح مُجبرين بذلك الكنيسة على الاعتذار الرسمي عما اقترفته بحق من كانوا\كن في عهدة رجال الدين.
وتتطلب خروج كبار اليوم عن صمتهم\ن عن انتهاكات الأمس سنيناً طويلة من العمل المكثف والتوثيق والمواكبة النفسية والاجتماعية والمادية في وجه سلطة الكنيسة ورأيها العام التي تسيطر على الأشخاص الأكثر هشاشة لاسيما الطفلات والنساء اللواتي سلبتهن الكنيسة أطفالهن بحجة عدم أهليتهن لتنشئة أطفالهن. فما كانت النتيجة؟ قبور وانتهاكات!
وإذا كان العالم قد أنصت أخيراً لضحايا الاعتداءات الجنسية في المؤسسات التابعة للكنيسة بعد صمتٍ مخجل ومريب شكل تواطأً ضمنياً مع المجرمين وحلل لهم استباحة أجساد الأطفال/الطفلات في عهدتهم، إلا أن الطريق ما زالت طويلة أمام العديد من النساء المترهبات والمنضمات إلى العمل الكنسي طوعاً.
فدلالات كثيرة تشير إلى أن النظام الأبوي الإلهي المتحكم بالجميع هو نفسه قابض على أجساد الراهبات. وساهمت حملة #Me-too إلى حدٍ بعيد في كشف المستور عن تعرض النساء لأشكال شتى من الترهيب بهدف الاقتضاض على أجسادهن. لكن الطريق ما زال طويلاً أيضاً أمام نساء الكنيسة لكشف المستور، على الرغم من العمل الريادي الذي تقوم به بعض الراهبات في توثيق الاعتداءات في الكنيسة.
إذن، 8 تشرين الثاني/نوفمبر هو موعد بدء المحاكمة، وهو نقطة مفصلية لنجدد التزامنا بالانتصار للناجيات والاقتصاص من المجرمين ولو لبسوا رداءً سماوياً. هي امتحان لنا لتشكيل رأي عام يساهم في تعزيز ثقافة الإنصات للضحايا وتصديقهن لكي لا تستباح أجسادنا تارة باسم الشرع والدين وتارة بفعل السلطة.