للسنة الرابعة على التوالي.. عيد “بَعيد” يا ماما
أتدري يا أنيسة روحي، كلُّ شيءٍ يحملني إلى البكاء، ولكنّني أبتسم…
العدل والظّلم، الصّمت والكَلِم، اليأس والأمل، الأمن والوجل، الشّوق والنّسيان، الاعتراف والنّكران، الحقد والغفران، الهدوء والأنين، التّجاهل والاهتمام، التّسامح والانتقام… كلّما لاحت عبرة، ورسمت على شفاه الروح ندبةً فأراقت دمعها، ابتسمت.
ماذا أشكو لكِ يا صغيرتي، وأنتِ التي احتويتِ اخفاقي يوم عجزت، واختبرتِ عيّي يوم وهُنت، ورافقتِني لدى ضعفي وذُلّي وخَوْري وانكِساري حتى وجدتُني أميلُ على كتفكِ ميلةَ التّائب بين يديّ ربٍّ رحيم، وابتسم!
يا كلّي، يا ملاك الرحمة، يهون عليَّ أنّ مَا نَزل بِي بِعَيْنِ من وعد وتوعّد: “وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا”، وإنّ وعد الله كان مفعولا. فأُشهِر صوْتي -الصّوتُ يا ابنة روحي ملحُ المتمرّدين وسيف الثّوّار-، أبتلع ألمي، أكظم غيظي -الكيد يا من ورثتِ صبري وحلمي سلاح الضعفاء-، أحتفظ بأدمعي عربون وهنٍ- ومن كأنتِ أقوى به وأضعف-، أجتثُّ الكرب وأتلوه صبرًا، تراويح عِبرة وعَبرة، وانتظر حكم الله بكلّ مغرورٍ، متكبّر، مختالٍ، ومعتدّ بقحط الضمير، وأقاوم، وأبتسم.
حسناً يا صغيرتي، دعينا نفصحُ عن شيءٍ مما تكتنزه الأفئدة. ستكبرين يوماً، ستقاومين حتماً، وأدعو الله أن لا تختبري النضال من أجل ظلمٍ أحاق بكِ. ولكنّني أقاتل حقّاً من أجل ذلك. أقاتل من أجلِ كأس ماء تشتهينه من يدِ ماما، يوم أبعدكِ الكيد عنها. أقاتل من أجل “صباحُ الخير ماما” يوم صحوتِ ووجدتِ ماما رنّة على هاتفكِ، يصلحها أو يفسدها مزاج الحاكم بأمر النّفس الأمّارة بالمكر. أقاتل من أجل دروسكِ، محفظتك، رسوماتك، ظفائرك، أظافرك التي نتشاجر كلما وجدتها متسخة فترشيني بقبلةٍ ذكية يرسلها هاتفٌ غبيّ لا أسمع منه إلا ما تسمحُ به الأعطال التقنية والأعطال البشرية.
أقاتل يا وطني من أجل دلالٍ تخجلين التماسه إلا ممّن تعلمين انتمائكِ لروحها. يا روح روحي، أقاتل من أجل روحكِ الهشّة التي يعجنها القدر بأنامل الكيد والخبث والذكورية والرجعية، بلا رحمةٍ أو إنسانيّة أو مسؤوليّة. أقاتل من أجل انكساركِ يوم رمقتني بتلك النظرة يوم تقابلنا بعد سنةٍ ونصف من الفراق، وقلتِ لي: “خديني عالمطار، خلينا نسافر، وبس نوصل منقول لبابا”، ومن أجل مقاطعتكِ للطعام صبيحة سفري ومغادرتي للعراق، ومن أجل ظنّكِ بأنّني تراجعت عن السفر يوم فاتتني الطائرة وقلتِ “شكرا لأنك بقيتي هون وما فليتي”، ومن أجل صرختكِ لحظة وداعكِ لي على الهاتف “رح تفل رح تفل خليني احكيا ما بدي نام”.
كلُّ ما في جعبتي من أجلِكِ يا كلّي، وأنا لا أمتلك إلا الثورة والله، أقاتل بهما تيتيمكِ في سدّة احتياجك لحضني وعناقي ورعايتي ومتابعتي وانصاتي وسهري وصحوتي… ولأجل عينيكِ التي تقول ما لا يفقهه المتسلّطون المفسدون العابسة قلوبهم، سأبقى أقاتل وأبتسم.
يعلم الجميع، وستعلمين يوماً، لا تغريني كثرة الداعمين ولا تثنيني كثرة المضلَّلين. عيناكِ وحدها بوصلتي، وتحلو في محراب عينيكِ الصلاة. والثورةُ -يا أنيسة قلبي- صلاة السّاعين، وملعونٌ كلُّ متخاذلٍ جبانٍ يزجره الخوف عن الحقّ.
الساعة الآن تشير إلى الخامسة إلا ربع فجراً، في مثل هذا الوقت أعادوني من المستشفى لأنهم لم يتوقعوا قرب الولادة. كنت أستشعر اقتراب مجيئك، حتّى أنني هيّأت أشياءكِ قبل مؤشرات الطلق بقليل. كنتُ أقاتل -كما اليوم- من أجل ولادتكِ بصحة جيدة. لأكن دقيقة، أحشائي كانت تقاتل، روحي المرهقة، أسفل ظهري المتعب، عيناي الحائرتين، حنجرتي وبحة صوتي، يداي، ساقاي، كلّ ما فيّ قاتل حينها حتّى وضعتكِ قبيل أذان الظهر بقليل. ساعات من الطلق الممزوج بالضحك والبكاء والصراخ والألم، ختمتها صرختكِ فكانت البداية. ومذ ذلك الحين أتساءل، هل حقّاً كنتُ على قيد الحياة من قبلكِ؟ ويتوقّعون أن أكفّ عن القتال لأجلك!
سأقاتل وأقاتل وأقاتل، ورغم أنف الكيد سأبتسم.
تمنيته عيداً سعيداً… ولكنني، للسنة الرابعة، أجده عيداً بعيداً يا ماما… هكذا اختارت السلطة الأبوية العفنة، ولكنني رغم أنف الذكورية يا ثورتي، سأناضل، وأبتسم.