العاملات المنزليات .. حرية معلّقة

كثيرة هي المشاكل التي تتعرض لها العاملات المنزليات في لبنان، وتتعدد أشكالها في أماكن خدمتهن. من التحرش والاغتصاب والعنف الجسدي واللفظي، حتى منعهن من الطعام والشراب، ومعاملتهن بطريقةٍ قاسية من دون تأمين أبسط متطلبات الحياة، من غرفةٍ لائقة أو فراش أو ملابس وتدفئة أو عطلة أسبوعية، شهرية، أو سنوية.

انتهاكات كثيرة يمارسها الكفيل/ة ومكاتب استقدام العاملات المهاجرات اللواتي يعشن في ظروفٍ لا تليق بالبشر، قد تصل أحياناً إلى الاعتداء بالضرب أو القتل العمدي وإقدامهن على الانتحار في أحيانٍ أخرى.

كما يتعمد صاحب/ة العمل احتجاز حريتهن أو حرمانهن من أبسط حقوقهن المدنية التي تكفلها القوانين الدولية وشرعة حقوق الإنسان، وهو موضوع تحقيقنا الاستقصائي: “الحرمان من جواز السفر”.

العاملات المنزليات واحتجاز حريتهن

اخترنا متابعة هذا الموضوع تحديداً ليس لأن بقية الحالات غير مهمّة، لكن لأن القليل من التحقيقات أُنجزت حوله. كما أن هذه القضية توازي أهمية الوجود، فمعظمهن إن لم نقل جميعهن يتعرضن لهذا العنف والاستغلال منذ لحظة لقائهن مع الكفيل أو الكفيلة، حين تُسلب منهن جوازات سفرهن.

ولا يمكن تصنيف فعل احتجاز جواز سفر أي إنسان من دون أي مسوّغ قانوني إلا في خانة الجريمة المستمرة، التي ترتكب يومياً بحق هؤلاء العاملات المنزليات.

لذلك، أردنا أن نسلط الضوء على هذه القضية التي تعيشها 80% من العاملات اللواتي لا يمكنهن الاحتفاظ بجوازات سفرهن طوال فترة عملهن، ويحظر عليهن مغادرة المنزل عندما يكون أصحابه خارجه، كما أن 31% منهن يتعرضن للاحتجاز القسري.

أبيبا ورحيل .. عاملتان دفعتا ثمن تحررهما من عبودية الكفيل

في هذا التحقيق، اخترنا قضية عاملتين أثيوبيتين، هن أبيبا ورحيل. صحيح أن قصتهما لا تختزل جميع الحكايات المؤلمة، لكنها تقدم صورةً واضحةً عن حال العاملات المنزليات.

كانت أبيبا تحلم بتغيير واقعها وواقع أهلها المعيشي، وقصدت لبنان كآلاف العاملات طامحةً بتغيير حياتها. لكنها لم تكن تدري أن الصعوبات قد تبلغ حد العبودية، وأن سوء حظها أتى بها إلى بلدٍ لا تحترم فيه لا المواطنة ولا الوافدة الأجنبية، ولا قوانين تحميهن.

بدأت مأساتها في اللحظة التي قررت فيها الهرب من منزل كفيلها قبل عام 2007 حين حاول التحرش بها في فراشها. ومنذ ذلك الحين، وبعد أن أسست حياةً عائليةً، باتت عاجزةً عن تسجيل زواجها وتسجيل ابنتها ماريا، بسبب تمنع  كفيلها جورج كسرواني عن إعطائها جواز سفرها إلا بشرط إعطائه مبلغ 2000$. وهذا المبلغ ضخم جداً ويصعب على أبيبا وزوجها تأمينه، وكأنها تدفع ثمن تحرّرها من عبوديته.

أما رحيل، فبدأت قصتها حين رفضت أن يتم استعبادها من قبل كفيلتها التي رفضت إعطاءها راتبها الشهري بعد أشهرٍ من العمل الشاق والمعاملة السيئة، فقررت الهروب من المنزل عام 2006. عملت بعد ذلك في الخياطة وأسست عائلةً جميلةً ولديها طفل يدعى شربل، لكنها لم تستطع أن تكمل حياتها بشكلها الطبيعي وبقيت منقوصة. فلا اعتراف قانوني بزواجها ولا بابنها وللسبب عينه. تمنعت كفيلتها جوسلين ديب عن إعطائها جواز سفرها، وحرمتها من أبسط حقوقها المدنية، حتى بعد مغادرتها للبنان كما علمنا لاحقاً.

بعد أن علمنا بقصتهما والتقينا بهما في منزليهما مع عائلتيهما، وتأكدنا من حقيقة الروايات، بدأنا رحلة البحث معهما ولأجلهما، من أجل تقصي الحقائق وملاحقة أصحاب وصاحبات العمل الذين/اللواتي سمحوا لأنفسهم/ن بانتهاك أبسط الحقوق الإنسانية وحرمان أبيبا ورحيل من بطاقة تعريفٍ عنهما، ومعاقبة عائلتيهما فقط من أجل التعسف في استعمال السلطة، على الرغم من محاولاتهما لأكثر من 10 سنوات.

يحدث ذلك يومياً، في ظل غيابٍ تام لأي حقوق لهؤلاء العاملات المنزليات على الرغم من توثيق عددٍ هائل من الانتهاكات التي يتعرضن لها بشكلٍ مستمر وتحوّل حياتهن إلى جحيم.

استمرت متابعتنا لقصتهما أسابيع عدة، بحثنا مطولاً عن الكفلاء في مناطق سكنهم/ن، واتصلنا بهم/ن لكن لم يكن ذلك كافياً. فكان لا بد من البحث عن سبلٍ  أخرى، بعض الأبواب كانت مسدودة، وبعضها أفضى إلى نتيجة.

إذ لجأنا إلى المتابعة مع ممثلي دولتهما: القنصلية الأثيوبية، وتمكننا بعد الضغط من تحصيل جواز سفر رحيل، لنشعر بسعادةٍ كبيرة بهذا الإنجاز الذي سيعطيها أملاً بالحياة مجدداً، إلا أننا لم نوفّق بتحصيل جواز سفر لأبيبا وبقيت قصتها عالقة حتى إعداد هذا التحقيق.

كما بحثنا مع قانونيين/ات وناشطين/ات عن الخلل الذي أدى إلى ترجيح كفّة الكفيل/ة على المكفول/ة، وأعطاه/ا الحق في حرمانهن من حقوقهن كأي إنسان بأن يحملن بطاقة تعرّف عنهن، لنستنتج أن الخلل يبدأ من نظام الكفالة، وبأن القوانين اللبنانية لا تعطي هذا الحق للكفيل، وهو خرق للقوانين والأعراف الدولية وحقوق الإنسان.

صحيح أننا من خلال العمل على هذا التحقيق الاستقصائي ساعدنا رحيل، لكنها تبقى حالة فردية من حالاتٍ شبيهة لا تحصى، لانتهاكات كرامة العاملات المهاجرات إلى لبنان، على أمل أن يتوقف استغلالهن وحرمانهن من الحياة، حتى لا تبقى حرياتهن معلّقة كأبيبا ورحيل.

 

فيديو من إنتاج شريكة ولكن. إعداد ميساء عطوي ومنير قبلان. إشراف يمنه فواز.

 

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد