في تفكيك الرعاية الذاتية.. لماذا نحتاج دوائر الدعم النسوية؟
بينما نحتاج إلى الدعم والرعاية، تصادفنا مئات المنشورات على صفحات الإنستغرام ووسائل التواصل الاجتماعي تحمل وسم الرعاية الذاتية. تفيض هذه المنشورات بتوجيهاتٍ ذات طابع فردي. تقول لنا أن الرعاية التي نحتاجها نستطيع نحن فقط توفيرها لأنفسنا.
هذا التوجه يُضفي مزيدًا من الفردانية على مشاكلنا. إذ يصور أن النشاطات الخاصة فقط يمكن أن تمدنا بالشفاء والأمان الذي نحتاجه لمواجهة الآلام والصدمات الناتجة عن القمع والاضطهاد. بلا شك، هذا تمييعٌ ليبرالي للمشاكل والأوجاع البنيوية الناتجة عن وجودنا في عالمٍ ليبرالي بالأساس. التمييع الليبرالي يعيق فهمنا للرعاية والدعم كمفاهيم ذات جذور نسوية وسياسية.
مساحات الدعم النسوية توفر ملاذًا آمنًا من العنف وسبلًا للتشافي. لكن الأهم هو أنها تعترف أن هذا الفعل هو فعلٌ سياسيٌ.
الرعاية من فعل راديكالي إلى منتوج ليبرالي
حول العالم، ساهم الانقضاض النيوليبرالي على مفاصل وجزئيات الحياة اليومية في تسليع معظم القضايا. وذلك بالتزامن مع الهجوم على الصحة والتعليم والاستثمار في الخصخصة ودعم الديكتاتوريات.
وكان الانتشار القوي للحركات النسوية واليسارية تهديدًا لهذا المشروع المعادي للمقاومة. فبات الاستيلاء على القضايا المحقة و تمييعها الأسلوب الأسهل في يد هذه الأنظمة المهيمنة. فقد حولت القضايا المصيرية كمناهضة النظام الأبوي وتقديم الدعم والرعاية بعد ظهور الإنترنت إلى “ماينستريم”. وتم شن الهجوم على الشعار النسوي الأكثر جذرية “الشخصي سياسي”، من خلال عزل الاضطهاد عن جذوره السياسية.
وبالمثل استُهدف العمل النسوي الهادف إلى خلق شبكات دعم ورعاية جماعية. وتم الاستثمار في خطاب الرعاية الذاتية والذي يدور حول تحويل التخلص من الألم والاضطهاد والصدمات والاضطرابات النفسية إلى مجهودٍ فردي.
هذا التوجه نحو عزل الأشخاص عن الرعاية الجماعية وشبكات النجاة ساهم في ظهور خطاب سام على وسائل التواصل الاجتماعي. إذ ينشر الترهات الليبرالية التي تساهم في خلق العزل الاجتماعي. وبالتالي، تؤخر التغيير الاجتماعي الهادف إلى صناعة مجتمعات وشبكات دعم ورعاية تواجه العنف والاضطهاد وما ينتج عنها من آثارٍ نفسية.
النضال النسوي ودوائر الدعم الجماعي
خلال العقود الماضية، كان للنضال النسوي سمة الرعاية الجماعية. وذلك من خلال نقل المشكلات والاضطهادات التي تحدث للواحدة منا في المجال الخاص نحو المجال العام باعتبارها قضايا سياسية. هذا الربط بين الشخصي والسياسي أنتج دوائرًا للدعم، وشبكات استطاعت النسويات من خلالها مشاركة آلامهن وتجاربهن بشكلٍ جماعي. مما أعطى للنضال النسوي قوة في مواجهة القمع الأبوي.
كما أن تسييس الشخصي ساهم في المعالجة الجماعية والتشافي بطرق نسوية. تلك الآليات تؤكد لكل واحدة أن ألمها ليس تجربة شخصية عليها خوضها وحدها. ويكون شرح الأسباب الحقيقية وراء هذه الآلام، هو وسيلة التشافي النسوي للجميع، لاسيما الفئات المهمشة.
ساهم الوقوف الجماعي ضد الاضطهاد والعنف في إحاطة أغلب النسويات بشبكة حماية ودعم اجتماعية. بينما وفّر رعاية جماعية من خلال الجلسات والنقاشات التي تشرح الاضطهاد الأبوي وتقاطعاته. وتوفر الأخيرة فرصًا للتعامل معه ضمن الحيّز السياسي، تضمن التصدي له بمستويين: شخصي وجماعي.
مع المد الليبرالي الذي طال العديد من المساحات، تم تمييع الكثير من القضايا. خصوصًا مع ظهور خطابات التنمية البشرية وخطاب الرعاية الذاتية في السنوات الأخيرة. حيث يغلب عليه الطابع الفردي الذي يحول الأوجاع والاضطرابات والصدمات التي نعيشها إلى مشكلة تتعلق بالتواصل مع ذواتنا. وأن الاستثمار في وقتٍ خاص بنا سيحل كل هذه المشاكل بشكلٍ سحري.
نقف عند أهمية المساحة الشخصية التي يجب أن نمنحها لذواتنا، وما يتعلق منها بالعناية الذاتية التي تشمل جوانب نفسية وجسدية وحسّية. لكن المشاكل التي تتعلق بالرعاية كفعلٍ سياسي لا يمكن أن تحقق نتائجها سوى بالربط بين الشخصي والسياسي. ويحدث هذا بموازنة رعايتنا لأنفسنا، بجانب انخراطنا في فعلٍ جماعي للرعاية النفسية والاجتماعية. وكنتيجة لذلك، تتكون شبكات دعم وحماية تسمح لنا بالتشافي جماعيًا.
شددت التنظيرات النسوية على أن الرعاية قضية نسوية، وفعل سياسي يجب أن يرتبط بتفكيك النظام الأبوي وتقاطعاته.
View this post on Instagram
الشفاء والرعاية من منظور نسوي
تعتبر الرعاية الذاتية والجماعية محورًا أساسيًا في العمل النسوي المناهض للعنف الذي يفكك آثار النظام الأبوي في نفوسنا وتأثيرها علينا. وقد شددت التنظيرات النسوية على أن الرعاية قضية نسوية، وفعل سياسي يجب أن يرتبط بتفكيك النظام الأبوي وتقاطعاته. وكذلك بمراجعة التعامل مع النساء ومشاكلهن وأوجاعهن من منظور نسوي يراها في أبعادها البنيوية.
تؤكد التنظيرات النسوية التي تناولت موضوع الرعاية والتشافي على ضرورة رؤية الأفراد ضمن سياقاتهن/م الاجتماعية والثقافية والسياسية.
ومن هنا، انبثقت الرؤى النسوية التي تنظر إلى المشاكل النفسية للنساء والفئات الجندرية المختلفة على أنها مظهر أوسع للبنية الاجتماعية التي يعيشن/ون فيها. وبالتالي، فإن السبب في ارتفاع نسب الاكتئاب والقلق واضطرابات الأكل في صفوف النساء يعود إلى الممارسات الذكورية المنتشرة في الثقافة والنظام السياسي والاجتماعي.
كما أن التنظير النسوي حول الرعاية يذكرنا بما نمر به من صدماتٍ نفسية ناتجة عن التعامل المباشر مع العنف. سواء الممارس علينا، أو القضايا التي ننخرط فيها ضمن التنظيم النسوي. لهذا، يكون هناك أثر بالغ الأهمية للتعامل السياسي مع الآثار النفسية للعنف.
ترى النسوية الجذرية أن المشاكل النفسية وما نتعرض له كأشخاص وثيق الصلة بالسياق الذي نعيش فيه وبمواقعنا الاجتماعية والطبقية والعرقية. لذلك يكون فعل الرعاية والشفاء مرتبطًا أيضًا بها. حيث يرتبط التغيير الشخصي بالتغير السياسي والاجتماعي على مستوى الخطابات والممارسات. وهذا يستدعي أن نكون ضمن شبكات دعم تعترف بسياقاتنا وتفهمها، وتشترك معنا في التجارب التي مررنا بها، حتى لو اختلفت العوامل.
نحتاج لدوائر دعم ورعاية نسوية
مما سبق، نجد أن التعامل مع الرعاية والشفاء كفعلٍ سياسي وجماعي يساعدنا على خوض آلامنا وتجاربنا بشكلٍ يسمح بمعالجة جذورها. وهذا يعني أن وجود دوائر دعم ورعاية نسوية هو ضرورة ملحة، خصوصًا عند التعامل مع الآثار النفسية للعنف والاضطهاد.
من ناحية أخرى، نشهد هذه الفترة هجمات ممنهجة ضد النسويات من القوى الذكورية والنظام الأبوي. مما يعرض كثيرات منا للعزل الاجتماعي والقمع والعقاب باستخدام السجن والمحاكمة والنفي وكذلك العقاب الاجتماعي بالنبذ والوصم. هذا بالإضافة إلى التعامل المباشر مع قضايا العنف والمناصرة النسوية، والتي تترك الكثير من الصدمات واسترجاع الآلام الشخصية.
كما أن النضال النسوي يتعرض للهجوم الإلكتروني الذكوري الممنهج. إذ تواجه النسويات هجمات ذكورية عنيفة على حساباتهن الشخصية في مواقع التواصل. تصل إلى التحريض على العنف، والتهديد بالقتل، واقتحام المساحة الشخصية ونشر المعلومات الخاصة.
مانفكر فيه حول دوائر الرعاية النسوية هو أن نحافظ على مواجهة جماعية للعنف. وهو كذلك تفكير جماعي حول سبل التشافي وتوفير المساحات الآمنة لاحتضان سياقاتنا المختلفة. كما يكون ذلك بنبذ الممارسات التي تعزلنا عن بعضنا، وتترك كثيراتٍ يواجهن الهجوم الذكوري منفردات.
إن مساحات الدعم النسوية توفر ملاذًا آمنًا من العنف وسبلًا للتشافي. لكن الأهم هو أنها تعترف بهذا الفعل على انه فعلٌ سياسي يستدعي عملًا جماعيًا يفتح الأبواب أمام رعاية حقيقية وجذرية.