أرض جافة ومياه ملوثة.. التغيرات المناخية تزيد معاناة الريفيات في تونس
ككرة ثلج متدحرجة، يتعاظم تأثير التغيرات المناخية على سكان كوكب الأرض. أما النساء العاملات في القطاع الزراعي، فهن الأشد تأثرًا بهذه التغيرات.
حياةٌ مشحونةٌ بصعوباتٍ بالغة تعيشها النساء الريفيات والمزارعات في تونس، في ظل تغيرٍ مناخيٍّ صاحبته موجة جفاف اجتاحت البلاد. منذ حوالي خمس سنوات، تركت موجة الجفاف هذه أثرًا بالغًا على المحاصيل الزراعية.
وما يزيد الأمر صعوبة هو اضطرار هؤلاء النساء إلى تحمل العبء بمفردهن. بينما يغيب أزواجهن عن المنازل، لأشهرٍ طويلة. حيث ينتقلون للعمل في المدن بحثًا عن لقمة العيش.
وتواجه نساء الريف في تونس تحديات عدة أنتجها التغير المناخي، مثل شُح المياه وحرائق الصيف. وعن فيضانات الشتاء، فقد أصبحت خطرًا يهدد محاصيلهن الزراعية ومصدر رزقهن الوحيد.
هذه الهشاشة التي تعيشها النساء العاملات في القطاع الزراعي تؤثر بدورها على الوضع الاقتصادي وعلى الأمن الغذائي الوطني. على اعتبار أن النساء الريفيات هن العمود الفقري لهذا القطاع، بنسبة عمالة تفوق الـ70%.
تونس لا تعترف بوجود فئات هشة تتأثر بالتغيرات المناخية، ولا تريد الاستماع إلى التحذيرات الصادرة عن الحقوقيات/ين والمختصات/ين في البيئة. كما أنها تروّج دائمًا لوجود تكافئ بين جميع الفئات
أرض جافة واستغلال اقتصادي
قبل سنواتٍ، توقفت نادية الحسني عن زراعة أرضها، بعد جفاف البئر التي كانت تملكها بسبب تراجع نسبة تساقط الأمطار. ولم تجد إلى اليوم أي دعمٍ من الدولة لإنشاء مشروعها الخاص، لتتمكن من إعالة أسرتها وعيش حياة كريمة.
اضطرت نادية الحسني (48 عامًا)، أصيلة منطقة جبنيانة، للعمل في المزارع والحقول بمقابلٍ مادي زهيد. حيث تتقاضى أجرة يومية قيمتها 15 دينار (4,74 دولار)، مقابل ساعات عملٍ طويلة تصفها بـ “الشاقة”.
في حديثها مع “شريكة ولكن”، تؤكد نادية أن “ظروف العمل في الحقول والمزارع باتت شاقة وصعبة”. وأشارت بوضوح إلى التغيرات المناخية التي تعاني منها بلادها، خصوصًا مع تسجيل موجات حر غير مسبوقة وتأثر القطاع الزراعي بالجفاف.
تقول: “في فصل الصيف، أعمل في الحقول والمزارع تحت أشعة شمس تجاوزت الـ 50 درجة، ما جعلني أعاني من أمراض عديدة. كما أن موجة الجفاف وتراجع الأمطار كانا سببًا في تراجع المحاصيل وفقدان مواطن الشغل”.
تواصل حديثها مفسّرةً، “بتراجع الأمطار والجفاف، تتراجع مواطن الشغل في مجال الزراعة. وبالتالي، تصبح العاملات الفلاحيات غير قادرات على إيجاد دخلٍ بديل يعلن به أسرهن”.
تحلم نادية بالحصول على دعمٍ مالي لإنشاء مشروع لتربية الأغنام، لتُعيل نفسها وعائلتها وتنعم بحياة هادئة. وذلك بعد قضاء حوالي عشرين عامًا في العمل بقطاع الزراعة، ما جعلها عرضة للاستغلال الاقتصادي والتطرف المناخي.
لا ماء نظيف ولا زراعة … الجفاف سيّد الموقف
من جبنيانة إلى محافظة سليانة (شمال غربي البلاد)، حيث روت سالمة مولهي (42عامًا) كيف تأثرت حياتها هي الأخرى بموجات الحر والجفاف. فهي تضطر للتنقل يوميًا لجلب الماء من عين جبلية، بينما يعمل زوجها في مجال البناء في العاصمة تونس.
بوجهٍ شاحبٍ وعينين حزينتين تحدثت سالمة مع “شريكة ولكن” عن معاناتها كامرأة ريفية. تقول: “الكلمات لا تصف أحيانًا ما نعانيه في الأرياف.. حلمنا أصبح يتلخص في الظفر بحياةٍ كريمة وشربة ماءٍ غير ملوثة، ولكن يبدو أنه حلم صعب المنال”.
تضيف: “حياتي صعبة، خصوصًا في غياب زوجي الذي يضطر للتنقل نحو تونس العاصمة للعمل من أجل تعليم أطفالنا/ طفلاتنا. لذلك، أجد نفسي مسؤولة عن توفير المياه من العين البعيدة، وتربية ما تبقى من أغنامي ورعاية أبنائي/بناتي.
ما زلنا نقاوم للعيش في هذه القرية، ولتربية بناتنا/أبنائنا. فهنا، لا يوجد مياه نظيفة نشربها، ولا توجد خدمات صحية، ولا طرقات معبّدة. وزادت معاناتنا بسبب الجفاف وتراجع محاصيلنا الزراعية”.
تعود سالمة بذاكرتها إلى ما قبل 10 سنوات عندما كانت أرضها الصغيرة تدرّ عليها الكثير من الخير. تقول: “ذهبت الأيام التي كنت آكل ما أزرع في أرضي الصغيرة من فول وقمح وشعير. واليوم، تغيّر كل شيء، بسبب الجفاف وقلة الأمطار”.
سالمة ليست فقيهة في أمور التغيرات المناخية، ولا تعرف مخاطرها على حياتها وحياة آلاف النساء الريفيات والمزارعات. لكنها تدرك جيدًا أن حياتها أصبحت أكثر صعوبة، بما أنها لم تعد قادرة على زراعة أرضها بسبب الجفاف، أو إطعام حيواناتها التي فقدت نصفهم بسبب موجات الحر غير المسبوقة. كلُ ذلك إلى جانب نفاذ مؤنتها من زيت وشعير وقمح وكسكسي.
وعلى الرغم من اعتراف السلطات الرسمية في تونس بخطورة التغيرات المناخية على الفئات الهشة وعلى النساء الريفيات، إلا أنه لا توجد إحصائيات أو دراسات محلية حول هذه الظاهرة.
من أرض خير إلى أرض بور
ولا تختلف قصة الخالة السيدة علوي عن قصة شريكتها في الوطن والمعاناة سالمة. تعيش كلتاهما في بلدٍ مصنفٍ تحت خط الفقر المائي، وولدتا في مناطق ريفية وعرة يصعب الوصول إليها. ولكن بات مؤكدًا أن آثار التغيرات المناخية المدمرة وصلت إليها بسرعة.
وفي حديثها مع “شريكة ولكن” تؤكد السيدة علوي (73 عامًا)، أصيلة منطقة الهوايدية من محافظة جندوبة (شمال غربي البلاد)، تراجع المحاصيل الزراعية في قريتها بشكلٍ لافتٍ، ما أثر على نمط عيشهم وغذائهم.
قبل أعوامٍ، كانت تأكل ما تزرع، وتتصدق منه إلى الفقيرات/راء والمحتاجات/ين. لكنها اليوم لم تعد تأكل من أرضها بعدما ضربها الجفاف في السنوات الأخيرة، وفق قولها.
حتى بلوغها هذه السن، لا تملك الخالة السيدة صنبور مياه في منزلها. عاشت حياتها تشرب مياه من عينٍ طبيعية، قد لا تكون صالحة للشرب أصلاً. ومع مرور السنين، فقدت أيضًا أرضها التي تحولت إلى أرض “بور” لا تغني من جوع.
View this post on Instagram
الفئات الهشة في مواجهة التغيرات المناخية
تقول منسقة قسم العدالة البيئية في المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، إيناس الأبيض، إن “الريفيات أكثر تأثرًا بالتغيرات المناخية. وذلك بحكم علاقتهن المباشرة بمكونات المنظومة البيئية من تربة ومياه وزراعة”.
تضيف الأبيض لـ “شريكة ولكن” أن “النساء في تونس تأثرن بأزمات المناخ، خصوصًا بسبب نقص المياه الذي يؤثر سلبًا على حياة النساء وربات البيوت والفئات الهشة”.
وتنتقد إيناس الأبيض سياسة بلدها تجاه مخاطر التغيرات المناخية، واصفة إياها بـ “الضعيفة”. وأشارت إلى “ضرورة اتباع سياسة تقوم على أساس الجندرة، وتأخذ بعين الاعتبار تأثير هذه التغيرات على النساء والمهمّشات/ين”.
وتدعو الأبيض إلى “ضرورة دعم النساء والعاملات في القطاع الزراعي. وذلك من خلال توقيع اتفاقيات لرصد تمويلات مالية لدعمهن وتمكينهن من إيجاد مصادر رزق بديلة عن الزراعة”.
خطة تونسية لدعم النساء الريفيات!
في كانون الثاني/يناير 2023، أطلقت وزارة المرأة التونسية بالتعاون مع وزارة البيئة خطة تساعد النساء على تجاوز التأثيرات المناخية على حياتهن وأسرهن.
وتهدف الخطة إلى توفير مصادر دخل بديلة للنساء اللاتي يهدد الجفاف مصادر دخلهن، لا سيما العاملات في القطاع الزراعي. حيث تم رصد اعتمادات بقيمة 1.5 مليون دينار، لإحداث 10 مجامع تنموية نسائية خلال عام 2023، ستوفر فرص عمل لآلاف النساء.
وفي وقتٍ سابقٍ، أقرّت وزيرة المرأة، أمال بلحاج موسى، أن “النساء في الوسط الريفي معنيّات أكثر بتأثيرات تغير المناخ مقارنة بالنساء في المدن. حيث يمثّلن في الوسط الريفي أكثر من 50 بالمئة من السكان، و70 بالمئة من اليد العاملة في القطاع الفلاحي”.
كما أكدت بلحاج موسى، أنه تم “تركيز لجنة وطنية للنوع الاجتماعي والتغييرات المناخية، للعمل على التمكين الاقتصادي للنساء، ضمن البرنامج التنفيذي لهذه الخطة”.
من جهتها، أكدت وزيرة البيئة التونسية، ليلى الشيخاوي، أن “النساء والرجال يواجهن/ون تغير المناخ بشكلٍ متفاوتٍ ومختلف”. وشدّدت على أن “عدم المساواة تضعف قدرة النساء على التأقلم، باعتبارهن من أكثر الفئات الهشة والأكثر فقرًا والأقل وصولًا إلى الموارد، مثل الأرض والقروض والتكوين والتكنولوجيا”.
تونس لا تعترف بتأثير التغيرات المناخية على الفئات الهشة
تشير الناشطة الحقوقية ورئيسة جمعية “كلام”، فريال شرف الدين، إلى أن “كل الأزمات التي تحدث حول العالم تؤثر بدرجة أولى على الفئات الهشة. وهذا يعني أن التغيرات المناخية لها تأثير سلبي وخطير على النساء الريفيات والمزارعات والعاملات في القطاع الزراعي”.
وأضافت فريال شرف الدين، في حديثها مع “شريكة ولكن”، أن “الجفاف الذي تعيشه بلادها أثّر على حياة نساء الريف بصفةٍ عامة. كما جعلهن غير قادرات على استغلال أراضيهن وكسب رزقهن من الزراعة”.
وأكدت شرف الدين، أن “الدولة التونسيّة لا تعترف بوجود فئات هشة تتأثر بالتغيرات المناخية، ولا تريد الاستماع إلى التحذيرات الصادرة عن الحقوقيات/ين والمختصات/ين في البيئة. كما أنها تروّج دائمًا لوجود تكافؤ بين جميع الفئات دون استثناء”.
ودعت شرف الدين، المسؤولين في بلادها إلى “ضرورة السعي لخلق حلول عاجلة لدعم النساء والفئات الهشة، والبحث عن دعمٍ مالي دولي لمجابهة مخاطر التغيّرات المناخية”.
عدالة مناخية مجندرة
وعلى الرغم من اعتراف السلطات الرسمية في تونس بخطورة التغيرات المناخية على الفئات الهشة وعلى النساء الريفيات، إلا أنه تندر الإحصائيات والدراسات المحلية حول هذه الظاهرة.
في المقابل، أظهر تقرير صادر عن البنك الأوروبي للاستثمار أن “84 بالمئة من التونسيات/ين المشاركات/ين في المسح يرون أن تغيّر المناخ يؤثر بالفعل على حيواتهن/م اليومية. في حين أفاد 52 بالمئة بأن دخلهن/م قد تأثر بفعل هذه التغيّرات”.
بحسب ما جاء في التقرير، تعود هذه الخسائر ‘إلى الجفاف الشديد، أو ارتفاع منسوب مياه البحر، أو تآكل المناطق الساحلية، أو الأحوال الجوية بالغة الشدة كالفيضانات أو الأعاصير”.
كما كشفت دراسة أنجزتها وزارة البيئة التونسية، بالتعاون مع السفارة البريطانية، بعنوان “الآثار الاقتصادية للتغيرات المناخية في تونس”، أن “القطاع الزراعي الذي يمثل 14.2 بالمئة من الناتج الداخلي الخام، يواجه خطر فقدان ما يقارب 1000 موطن للشغل سنويًا”.
وتوصي المنظمات الحقوقية المحلية والدولية بـ”ضرورة دعم النساء الريفيات وتمكينهن اقتصاديًا، لحمايتهن من الأزمات البيئية والاقتصادية، والعمل على إزاحة الحواجز الاجتماعية والقانونية التي تقيد المساواة الاقتصادية الجندرية”.
كتابة: زينة البكري