وثائق إبستين.. كيف يعجّ عالم السلطة والنفوذ بالاستغلال الجنسي؟
جيفري إبستين ليس مجرّد اسم لشخص بيدوفيلي ومليونير أميركي انتهت حياته بفضيحة مدوية لاتهامه بالاتجار بالنساء واستغلال القاصرات جنسيًا. بل أصبح اسم إبستين وصمةً تجري أميالًا خلف المشاهير وأصحاب/صاحبات النفوذ ممَن تورطوا/ن معه، أو تم ذكرهم/ن في ملفات القضية فقط.
إذ أمرت القاضية لوريتا بريسكا بإتاحة بعض ملفات قضية إبستين للعامة،فهي جزءٌ من قضية تشهير رفعتها فيرجينيا جيوفري، إحدى الناجيات، ضد غيزالين ماكسويل، صديقة إبستين الحميمة.
رفعت فيرجينيا دعوى التشهير، بعدما وصفها محامي ماكسويل بـ”الكاذبة”. الآن، تم الإفراج عن بعض الوثائق التي وردت بها أسماء معروفة وبعض المعلومات والشهادات حول الوقائع.
جدير بالذكر أن الوثائق لا تتضمن أيّة اتهامات جديدة لأيّ من الأسماء الواردة فيها. وأن قرار القاضية جاء بسبب معرفة العامة لهذه الأسماء بالفعل، وكتابة الصحافة العالمية عنها.
ولكنّها تحفّظت على بعض الملفات التي من شأنها كشف هوية ناجيات/ضحايا إبستين.
جيفري إبستين: فضيحة القرن
إبستين هو مليونير أميركي عُرف بصلته القوية بأصحاب/صاحبات الشهرة والنفوذ في العالم أجمع. بدايةً من نجوم ونجمات هوليوود، ومرورًا بشخصيات نافذة سياسيًا، وحتى رؤساء الدول والأمراء والعائلات المالكة حول العالم.
تم القبض على إبستين في عام 2019، على خلفية اتهامه بالاتجار بالجنس والاعتداء الجنسي على قاصرات.
وأغلب هذه الوقائع حدثت على جزيرة خاصة يمتلكها إبستين، في منطقة جزر “فيرجن آيلاندز” الأميركية.
فيما تورطت رفيقته وصديقته الحميمة غيزالين ماكسويل في هذه الجرائم، إما باستدراج القاصرات، أو تهديدهن، أو الاعتداء عليهن جنسيًا.
انتهت حياة المعتدي الجنسي جيفري إبستين في السجن، بينما قيل عن موته أنه انتحار. وانتشرت نظريات جمّة عن أنه مات مقتولًا للتغطية على المتورطين/ات معه من شخصيات وعائلات معروفة بنفوذها وسلطتها.
أما ماكسويل، فتمّ الحكم عليها بالسجن 20 عامًا، بعد إدانتها بجرائم اتجار واستغلال جنسي عام 2020.
يُذكر أن البيدوفيلي إبستين تم القبض عليه في عام 2008، وقضى 13 شهرًا في السجن، بتهمة الاعتداء جنسيًا على قاصرة.
كلينتون، ستيفن هوكينج، وترامب
كان من بين الأسماء التي تم الكشف عنها في الوثائق الأخيرة، الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون. إلا أن كلينتون قد نفى أيّة معرفة بجرائم إبستين، رغم تكرار اسمه أكثر من 70 مرة في الوثائق، وأن “صداقتهما” ترجع إلى فترة رئاسة كلينتون وكانت قوية بما يكفي ليستخدم الرئيس الأسبق طائرة إبستين الخاصة.
وبالعودة إلى الناجيات، فقد شهدت جوانا سيوبيرج بأن إبستين ذكر لها أكثر من مرة أن كلينتون “يحبهنّ صغيرات”. كما شهدت فيرجينيا جيوفري بأنها شاهدته على الجزيرة بنفسها بصحبة فتيات صغيرات، وهو ما أنكره كلينتون.
كما ورد في الوثائق شهادة فيرجينيا جيوفري حول انخراط العالم الأشهر ستيفن هوكينج في حفلات جنس جماعي تم استدراج فتيات قاصرات إليها على جزيرة إبستين. على الرغم من كون هاوكينج قعيدًا، إلا أن الشهادة تضمّنت أنه طلب من فتيات صغيرات حل مسائل الرياضيات، وهن بدون ثياب. وما يجعل من هذه التفصيلة محورًا في شهادة فيرجينيا ضد إبستين وماكسويل، هو أن الثنائي عُرفا بصلتهما بعلماء وبروفوسورات في جامعات مرموقة، منهم آلان ديرشوفيتز، البروفيسور السابق بجامعة هارفرد. كان الأخير ضمن فريق الدفاع عن إبستين في قضية الاعتداء على قاصرة عام 2008.
طلبت ماكسويل من فيرجينيا جيوفري أن تقوم بعمل “مساج” للملياردير الأميركي غلين ديوبن، في إشارة صريحة لتقديم خدمات جنسية.
لكنها لم تكن المرة الأولى، وفقًا للإندبندنت البريطانية، نصت شهادة فيرجينيا أنه تم الاتجار بها لممارسة الجنس مع مليارديرات معروفين. منهم، توم بريتزكير، رئيس سلسلة فنادق “حياة”، وحاكم ولاية نيوميكسيكو بيل ريتشاردسون، ورائد الذكاء الاصطناعي حينها، مارفن مينسكاي.
في عام 2002، صرح الرئيس السابق للولايات المتحدة الأميركية، دونالد ترامب، أن “إبستين شخص ظريف. يحبّ النساء كما أحبهنّ، وأغلبهنّ على الجانب الأصغر”.
بعد القبض على إبستين عام 2019، صرح ترامب أنه قطع علاقته بإبستين منذ ما يقارب 15 عامًا، وأنه “لا يعجب به كثيرًا”.
برنس أندرو.. العائلة الملكية ما بعد جيفري إبستين
أما عن برنس أندرو، الابن الثالث للملكة إليزابيث، فقد اتهمته جوانا سيوبيرج بأنه “شدّها من صدرها”، في قصر إبستين بمنهاتن عام 2001. مثل كلينتون، أنكر برنس أندرو أيّ معرفة بجرائم إبستين، وصرح في مقابلات عدة بأنه “لا يتذكر” أيّة مواجهة أو موقف بينه وبين جوانا سيوبيرج. بينما صرحت جوانا في مقابلة مع بي بي سي، أن ما يقوله برنس أندرو: “هراء”.
يأتي الإنكار متلحفًا بصداقة دامت لعقود بين إبستين وبرنس أندرو، تخللها اتهام إبستين بالاعتداء على قاصر وسجنه في 2008-2009.
تسببت علاقة برنس أندرو بإبستين بأزمة رأيٍ عام في بريطانيا. صرّح على إثرها برنس أندرو أنه “سأل الملكة إن كان بإمكانه التنحي عن واجباته في المستقبل، وقد سمحت له”. كما قال بأنه “يشعر بالندم لحكمه السيء على علاقته بإبستين”.
وكان ذلك بعد مقابلة تلفزيونية عبّر فيها عن عدم ندمه على علاقته بإبستين عام 2019، والتي وصفتها الصحافة البريطانية “بالمقابلة الكارثية“.
من ضمن الأسماء التي شملتها الوثائق الأخيرة، الممثل الأميركي ليوناردو دي كابريو ونظيره بروس ويلز، المغني الأشهر مايكل جاكسون، الساحر ديفيد كوبرفيلد، المخرج جورج لوكاس، والممثلتان كاميرون دياز وكيت بلانشيت، وغيرهن/م من المشاهير والشخصيات النافذة.
لكن مرة أخرى، لا يعني ذلك وجود اتهامات لأي من هذه الأسماء، والتي سارعت بنفي علاقتها بإبستين بالفعل منذ إتاحة الوثائق.
في نفس الوقت، لا يمكننا الجزم بأن هذه الشخصيات غير متورطة في الجرائم أو لم تكن على علم بها. حيث أنه ما تزال بعض الملفات سرية للحفاظ على خصوصية الناجيات، وقد تتضمن معلومات غير متاحة الآن. فعلى سبيل المثال، تم ذكر الموديل جان لوك برونيل في الملفات، لكنه مات منتحرًا في سجن فرنسي منذ عامين أثناء محاكمته في قضية اتجار بالبشر واعتداء جنسي على قاصر/ة.
“I’m calling BS on this, because that’s what it is.”
Prince Andrew says he has no recollection of meeting Virginia Giuffre, nor of any photo being taken with her and he emphatically denies he had any form of sexual contact or relationship with her. pic.twitter.com/aqQ76kpPHI
— BBC Panorama (@BBCPanorama) December 2, 2019
النفوذ والسلطة وتسوية القضايا
كشفت الوثائق عن بريد إلكتروني أرسله إبستين إلى ماكسويل لحثّها على تقديم رشوة لأيّ من صديقات/أصدقاء فيرجينيا جيوفري، لتكذيب شهادتها. ذكر منها خصيصًا شهادتها عن كلينتون، وستيفن هوكينج. وهو التكنيك الذي يتبعه عادة المعتدون جنسيًا من أجل سحب مصداقية الناجيات/الضحايا.
وللعائلة المالكة البريطانية رأي آخر، ففي عام 2022، لجأ فريق الدفاع الملكي إلى تسوية قضية الاعتداء الجنسي التي رفعتها جوانا سيوبيرج ضد برنس أندرو.
ليتم بعدها تسوية القضية مقابل 12 مليون دولار أميركي، فيما نصت التسوية على أنه “لم يفعل شيئًا خاطئًا”. بينما تراجعت شهادتها عن الساحر ديفيد كوبرفيلد في نفس العام، بزعم أنها “ربما أدرجت اسمه عن طريق الخطأ، ضمن الأشخاص الذين اعتدوا عليها جنسيًا”.
في عالمٍ لا يصدق الناجيات من العنف الجنسي، نتساءل إن كانت هذه التسويات والتراجع عن الشهادات قد تمت تحت ضغوطٍ وتهديداتٍ.
جيفري إبستين.. وشبكة استخبارات اسرائيلية
بعد إتاحة الوثائق، تكشّف تورّط أجهزة استخبارات إسرائيلية في “حلقة الاتجار الجنسي بالقاصرات” التي أشرف عليها إبستين. فقد صرح تاجر السلاح الإسرائيلي من أصل إيراني، آري بن ميناشي، أن إبستين استغلّ تورّط شخصيات سياسية ودولية في جرائمه لصالح إسرائيل. كان السلاح الذي تم استخدامه هو الابتزاز الجنسي والتهديد بالفضائح.
من الصعب في هذا السياق استبعاد تورط رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، إيهود باراك، في جرائم إبستين، بعد ذكر اسمه ضمن الوثائق. كما لا يمكننا تجاهل أن الابتزاز الجنسي باستخدام النساء، والقاصرات في هذه القضية تحديدًا، هو واحد من أشهر الأسلحة الاستخباراتية حول العالم.
They are everywhere pic.twitter.com/09hNHtro3g
— Syed M Khurram Zahoor (@MuhammadKhurram) January 7, 2024
أجساد النساء والفتيات.. عطايا وقرابين للسلطة والمال
اللافت للنظر في قضية المعتدي جنسيًا، جيفري إبستين، هو الاعتياد المخيف على تقديم أجساد النساء والفتيات هدايا. فقد استخدم إبستين، وماكسويل، وغيرهما في قضايا اتجار بالجنس، النساء والفتيات بوصفهن عطايا لتوطيد علاقتهم/ن بأفراد ذوي/ذوات سلطة. واللافت للنظر أيضًا هو العدد الهائل للرجال المتورطين في قضايا الاتجار الجنسي بالقاصرات، ليتجسد بذلك ثالوث السلطة والجنس والمال.
لكن الجنس المقصود هنا، ليس جنسًا رضائيًا، ولا تقدّمه النساء بمعرفة موضّحة، أو بقرار، أو لاستفادة مباشرة، كما هو الحال مع بعض عاملات الجنس اللواتي يعملن لصالحهن الخاص. إنما في هذا الثالوث ضلع أعوج، كونه خاليًا من أي معرفة مستنيرة واختيار واعٍ لممارسة الجنس.
فالغالبية العظمى من ضحايا/ناجيات اتجار إبستين الجنسي، فتيات قاصرات، إما قدمن خدمات جنسية ضمن إطار الافتتان بالشخصيات المعروفة. أو تم الاعتداء عليهن جنسيًا، أو تم ابتزازهن والضغط عليهن للسكوت. وحتى اللواتي تقاضين أجرًا مقابل استدراج فتيات أخريات، كنّ دون السن القانونية حينها.
وهو ما يجعل من كل ذلك حلقة محكمة من الاستغلال الجنسي الصريح الذي لعب فيه إبستين دور شخص سخيّ. إلّا أن هذا السخاء كان باستخدام أجساد الفتيات الصغيرات والإيقاع بهن لتقديمهنّ وليمة على طاولة السلطة والنفوذ.
ما يلفت النظر أيضًا هو الظلّ المنكشف عن تجذّر البيدوفيليا في المجتمعات، مهما ادّعت التحضر. فالمجتمعات الغربية تصم المجتمعات الناطقة بالعربية بالبيدوفيليا، مستغلةً التنديد العلني بتزويج القاصرات في خطابنا النسوي. لكن قضية إبستين، تسلّط الأضواء على أن البيدوفيليا، بمعنى ارتكاب الانتهاكات الجنسية بحقّ الطفلات/ الأطفال ليست أزمة ثقافية أو عرقية. إنما هي وباء أبويّ يهددهنّ/م في كلّ مكان.
السؤال الذي نطرحه اليوم: لماذا يقترن التستّر على البيدوفيليا بالسلطة الاجتماعية والسياسية وحتى الدينية؟