فيلم باربي.. النسوية البيضاء تفشل في ترشيحات الأوسكار
جاءت ترشيحات الأوسكار لهذا العام محبطة لصانعات/صناع فيلم باربي. غزت دمية باربي ولونها الوردي صفحات التواصل الاجتماعي ودور العرض منتصف عام 2023. إذ أعلنت دار ماتيل للألعاب إنتاجها فيلمًا “نسويًا” بطلته باربي التي تتحدى مقاييس الجمال والذكورية.
ورغم الضجة الإعلامية التي حظي بها الفيلم، جاءت ترشيحات الأوسكار محبطة للجمهور الذي ينتظر إعلان الجوائز 10 آذار/مارس بلوس أنغلوس.
ترشيحات الأوسكار لهذا العام هي درسٌ للجميع وتذكِرة أن القمع الهيكلي يتجاوز ضحالة خطابات النسوية الليبرالية. هذه النسوية التي جازفت خلال هذا الأسبوع بوصفها بالنسوية الإمبريالية، ليس فقط البيضاء أو الليبرالية.
مفارقة الأوسكار
مع مطلع العام الجاري 2024، تم إعلان ترشيحات الأوسكار والتي خلَت من ممثلة الفيلم الرئيسية (مارجو روبي)، ومنتجته (غريتا غرويغ). بينما تم ترشيح الممثل المشارك في البطولة والذي لعب دور “كين”، (ريان غوسلنغ). (كين) هو حبيب باربي الذي استولى على عالمها محولًا إياه إلى عالمٍ ذكوري.
بعد إعلان الترشيحات، علّق (غوسلنغ): “لا وجود لفيلم باربي من دون (غريتا غرويغ) و(مارجو روبي). فهما أكثر شخصيتين مسؤولتين عن صناعة تاريخ الفيلم الأكثر احتفاءً على مستوى العالم”.
يُذكر أن فيلم باربي حقق حوالي مليون ونصف مليار دولار، وهو ما يصفه موقع (رولنغ ستون) الترفيهي بأنه “ظاهرة ثقافية”. إلا أنه استنكر عدم ترشيح المخرجة والبطلة لجوائز الأوسكار، في الوقت الذي تم فيه ترشيح الممثل المساعد.
يأتي الاستنكار على خلفية موضوع الفيلم والذي تم الترويج له كفيلمٍ “نسويٍ” يناصر النساء ضد الذكورية والأبوية، عن طريق الدمية الأكثر شهرة في العالم.
View this post on Instagram
لماذا لم يتم ترشيح (مارجو روبي) و(غريتا غرويغ) لجوائز الأوسكار؟
ربما يتم ترشيحهما لجوائز أخرى، إلا أن ما تم التوقع به أن يكون الترشيح الرئيسي: أفضل ممثلة وأفضل مخرجة، خرج عن التوقعات. وهناك عدة نظريات في هذا الصدد، حيث أنه من الأسهل الترشح للأدوار المساعدة، مقارنةً بجوائز الأفضل في التمثيل والإخراج.
وفقًا لما رصدته بي بي سي، فإنه عادة تنحاز لجان الأوسكار للأدوار الدرامية على حساب الكوميدية. وهو ما يضع تفسيرًا لعدم ترشيح (مارجو روبي) لجائزة أفضل ممثلة. أما عن (غريتا غرويغ)، فقد حققت نجاحًا على مستوى آخر. فهي المخرجة الأولى في التاريخ التي تترشح ثلاثة من أعمالها لجائزة أفضل صورة: ليدي بيرد، ليتل وومين، وباربي.
على صعيدٍ آخر، تم ترشيح الممثلة الأمريكية (أميركا فيريرا)، لجائزة أفضل ممثلة مساعدة عن فيلم باربي. فقد أدت (فيريرا) المشهد الأكثر جدية في الفيلم والذي تصف فيه التحديات التي تواجه النساء في مجتمع أبوي. علاوةً على التوقعات الذكورية غير الإنسانية الملقاه على عاتق النساء والفتيات ليحصلن على القبول لمجتمعي في مثل هذه المجتمعات المتشبعة بالثقافة الأبوية والتحيز ضد النساء.
تقول (فيريرا) لسي إن إن عن ترشيحها: “أشعر بالفخر لأنني جزء من التمثيل اللاتيني في هذه الدورة من الجائزة، بجانب مرشحات/مرشحين لاتينيات/ين. لعل الاعتراف بالتعددية والتنوع لدى الأكاديمي، (اللجان)، تستمر في النمو”. لاتيني/لاتينيه هو مصطلح حيادي الجندر يتم استخدامه على نطاق واسع في المجتمعات الكويرية بأمريكا اللاتينية.
النسوية البيضاء.. من شاشات العرض إلى موسم الجوائز
لا شك أن صانعات/صناع فيلم باربي شعرن/وا بالإحباط جراء الترشيحات الخالية من الأدوار الرئيسية. الإشكالية هنا لها أكثر من مستوى.
فهناك مَن يقولن/يقولون أن لجان لجان الأوسكار انحازت ضد فيلم باربي، أو على الأقل لم تدرك قيمة ترشحه لجائزتي أفضل ممثلة وأفضل مخرجة. وهو بدوره ما كان سينعكس إيجابًا على “الرسالة النسوية” المدمجة بالفيلم. لكن الأمر ليس بهذه البساطة.
فمثلًا تم ترشيح Anatomy of Fall، للجائزتين لممثلته (ساندرا هولر) ومخرجته (جاستين تريت). وكذلك تم ترشيح (لي لي غلادستون) أفضل ممثلة عن فيلم Killers of the Flower Moon، و (إيما ستون) عن Poor Things، و(كاري موليغان) عن Maestro. وهذا ما يرد نسبيًا ادعاءات تحيز أكاديمي آووردز ضد النساء في صناعة الأفلام.
نتساءل هنا ليس فقط عن معيارية اختيار الفئات والترشيحات، وإنما كذلك عن رؤية صانعات/صناع فيلم باربي أنفسهن/م للفيلم. فالفيلم لم يتجاوز في لغة خطابه أو توجهه أي حدود للنسوية البيضاء المعروفة بفشلها في صياغة خطاب تقاطعي وجذري. فما تم عرضه لم يكن “رسالة نسوية” أو “ثورة نسائية في مجال صناعة الأفلام” كما تم الترويج للفيلم. بل إعلانًا ضحلًا للدمية باربي المعروفة بدورها التاريخي في ترسيخ النمطية الجندرية.
في واقع الأمر، نجد الترشيح الوحيد المناسب هو ترشيح (أميركا فيريرا). فقد لعبت دور رمانة ميزان الفيلم الذي كادت ضحالته أن تبتلع شاشات العرض رغم الاحتفاء المبالغ فيه بمضمونه. لكننا نتفهم شعور الغضب حول ترشيح (ريان غوسلنغ) في فيلم يتحدث عن النساء، ولو من منظور لا نتفق نحن معه.
ومع ذلك، فإن المشهد العام لا يخلو من الاستحقاق الأبيض الذي اعتدناه من الخطاب النسوي الليبرالي. فهذا الخطاب يعتقد أنه قادر على تغيير الأبوية الممنهجة ضد النساء والفتيات والفئات المهمشة بأدوات رأسمالية ولغة ضبابية. لذلك، من غير المنطقي اعتبار الفيلم مؤهلًا للجوائز العالمية بناءً على الإيرادات أو الضجة الإعلامية، بدلًا من جودة العمل ذاته على مستوى فني تنافسي.
لعلنا اليوم نتذكر أنه مهما كان الخطاب النسوي الأبيض مائعًا وضحلًا، فإن هيكليات التهميش ستجد سبيلًا لقمعه وتنحيته عن الساحات. وذلك ليس لميوعته وضحالته، وإنما لأنها هيكليات راسخة لقرون لن يغيرها فيلمٌ أو عرضٌ سينمائي.
دلالات فشل النسوية البيضاء في حصد الأوسكار
الهزلي في الأمر هو الرمزية الواضحة في استبعاد البطلة والمخرجة من الترشيحات. فهذه الدلالة البسيطة تخبرنا الكثير عن العالم الذي نعيش فيه. فحتى النسوية البيضاء التي تكبر وترعرع في دول الشمال، فشلت في خلق مساحة لخطابها المائع ضمن دوائر مصمتة من الذكورية والانحياز ضد النساء.
وعن دعم الرجال للنسوية، فإننا نرى (ريان غوسلنغ) يستنكر عدم ترشح المخرجة والممثلة. في نفس الوقت، لم يرفض ترشيحه هو لجائزة أفضل ممثل مساعد. إن ذلك لمثال حي على أن الرجال عندما يدعمون النسوية، فإن دعمهم مشروط بعدم التنازل عن امتيازاتهم هم كرجال.
فعلى الرغم من أن ترشيحه للجائزة هو قيمة مضافة للفيلم بوجهٍ عامٍ، إلا أنه مازال يحتفظ بامتياز ترشحه كرجل. وتلك درجة يصعب معها فهم استنكاره خارج حدود الامتيازات الممنوحة له من نفس اللجنة.
دموع بيضاء ودماء غزيّة
أما عن الاستنكار الأوسع لعدم الترشح، و”الصدمة” التي سببها، فإنه لا يمكن فهمه بمعزل عما يدور في العالم من حولنا، خصوصًا الإبادة الجماعية في غزة. في النهاية، صدمة عدم الترشح النابعة من الاستحقاق النسوي الأبيض، تقول أشياء كثيرة عن خطاب النسوية البيضاء.
فهذا الخطاب محدود الأفق لا يرى في العالم إلا نفسه، وكأن كل شيءٍ منفصلٍ عن غيره. كأن دعم النساء في حصد جائزة بيضاء معترف بأهميتها دوليًا، منفصلٌ عن دعم النساء اللواتي يتعرضن إلى إبادة ممنهجة في فلسطين. ففي الوقت الذي يتباكى فيه الجميع على الرسالة النسوية المزعومة للفيلم، ويشعرن/ون بالتحيز من لجنة الأوسكار، يتم تجاهل النساء في شتّى بقاع الأرض، وعلى رأسها غزة.
ففي غزة اليوم، تتعرض النساء إلى إبادة إنجابية بناءً على هوياتهن الاجتماعية كنساء. يُحرمن من رعاية صحية لهن ولمواليدهن اللواتي/الذين يقتلن/وا، إما بقصف المستشفيات أو بقطع الكهرباء والإمدادات الطبية عنها. وغيرهن لا يستطعن الوصول إلى أبسط منتجات العناية بالصحة الجنسية والإنجابية، كالفوط الصحية. بخلاف النزوح والاستشهاد والتشريد وإبادة العائلات عن بكرة أبيها، ولذوات الإعاقة وضعٌ أصعب.
View this post on Instagram
لن نناصر النسوية بالأوسكار
لعلنا اليوم نتذكر أنه مهما كان الخطاب النسوي الأبيض مائعًا وضحلًا، فإن هيكليات التهميش ستجد سبيلًا لقمعه وتنحيته عن الساحات. وذلك ليس لميوعته وضحالته، وإنما لأنها هيكليات راسخة لقرون لن يغيرها فيلمًا أو عرضًا سينمائيًا.
في ذلك السياق، نتذكر أن المساومة على الخطاب من أجل الشعبوية، لن تناصر النسوية. وكذلك لن تطأ قدمها مجالًا مبنيًا في الأصل على التحيز الجنسي والتهميش والإقصاء. ترشيحات الأوسكار لهذا العام هي درسٌ للجميع وتذكِرة أن القمع الهيكلي يتجاوز ضحالة خطابات النسوية الليبرالية. هذه النسوية التي جازفت خلال هذا الأسبوع بوصفها بالنسوية الإمبريالية، ليس فقط البيضاء أو الليبرالية.
يحتاج العالم اليوم إلى خطاب نسوي جذري لا يسعى لمكانة داخل دوائر الإقصاء. لكنه يسعى ويخلق لنفسه مكانة خارج هذه الحدود نفسها. يخرج بالخطاب وبالأدوات النسوية إلى حيز ونهجٍ سياسي يقف ضد كل ما هو أبوي وذكوري ورأسمالي واستعماري. ولا يعيش أوهام التغيير من الداخل، أو إعادة الهيكلة.