في كردستان.. ناجيات في خطر ونظام يحمي الجناة
يجعل النظام الأبوي الحياة اليومية للنساء والفئات الجندرية المضطهدة صراعًا مستمرًّا للبقاء، وتتحول الحياة والعلاقات الاجتماعية إلى ميدان من العنف الأبوي الذي يهدد حيوات هذه الفئات ويضعها تحت خطر الموت أو العيش في خطر مستمر.
هذا ما يعكسه واقع العديدات في المجتمعات الأبوية بما فيها معاناة الناجيات وضحايا العنف الأسري في إقليم كردستان في العراق.
وذلك بعد صدور شهادات للناجيات، في تقريرٍ أعدته منظمة العفو الدولية، حمل عنوان “نظام شاقّ ومزرٍ: الإفلات من العقاب ونقص تمويل المؤسسات يقوضان حماية النساء والفتيات من العنف الأسري في إقليم كردستان-العراق”، والذي يكشف كيف تواجه الناجيات، عقبات هائلة في الحصول على الحماية والوصول إلى سبل تحقيق العدالة في إقليم كردستان العراق.
ناجيات في خطر ونظام يحمي الجناة
سلط التقرير الضوء على تخاذل سلطات إقليم كردستان العراق عن ضمان محاسبة مرتكبي جرائم العنف الأسري، ومنها القضايا الموثقة للقتل والاغتصاب والضرب والحرق…
وتؤكد منظمة العفو الدولية أن الحكومة الكردية تفرض قيودًا تعسفية على حريات الناجيات اللواتي يطلبن الحماية في نظام الإيواء، بعد أن سنت قانون مكافحة العنف الأسري قبل 13 سنة والذي أثبت أنه مجرد حبر على ورق.
وقامت تمثلية عن المنظمة بزيارة لمكاتب الإبلاغ ومراكز الإيواء للناجيات من العنف الأسري التي تديرها الدولة في إقليم كردستان العراق. حيث استند التقرير حسب المنظمة “إلى رحلتين بحثيتين لتقصي الحقائق إلى إقليم كردستان العراق 2023 في مارس/آذار وسبتمبر/أيلول، وشمل كل من أربيل والسليمانية، بالإضافة إلى منطقة إدارة كرميان. وقد أُذِن لمنظمة العفو الدولية بالدخول إلى اثنين من مراكز الإيواء الثلاثة في إقليم كردستان العراق ذات الإقامة الدائمة، فضلا ً عن مركز الإيواء المؤقت الوحيد الذي يسمح بالإقامة فيه لمدة 72 ساعة”.
وأجرت المنظمة مقابلات مع مسؤولات ومسؤولين في المؤسسات المكلفة بالاستجابة للعنف الأسري، وتحدثت إلى أخصائيات ومحاميات/ين. كما قابلت 15 ناجية من العنف الأسري.
وشملت الحالات التي اطلعت عليها المنظمة عدة جرائم أبوية منها “القتل، والاغتصاب، بما في ذلك اغتصاب القصر، والضرب، والحرق، وبتر أجزاء من الجسم، والإذلال، والحلق القسري للشعر والحواجب. كما تناول البحث حالات انتحار، ومحاولات انتحار، وإشعال النار بالنفس”.
وخلص التحقيق إلى أن “القوانين التي تجرم أعمال العنف ضد النساء والفتيات في إقليم كردستان العراق لا تزال غير كافية على الإطلاق أو مجرد حبر على ورق بسبب الفجوات الكبيرة، وأن ضعف التنفيذ يقوّض الحماية الفعالة للنساء والفتيات من العنف القائم على النوع الاجتماعي”.
وأكدت المنظمة أنه “لا توجد لحدود اللحظة أي إحصائيات دقيقة حول حالات العنف القائم على النوع الاجتماعي وقتل النساء والفتيات في إقليم كردستان العراق. وذلك بسبب ضعف الإبلاغ من قبل النساء وأسرهن، وغياب آلية مراقبة مناسبة، إلا أن وسائل الإعلام في السنوات الأخيرة في الإقليم، وكذلك الهيئات الرسمية، أبلغت بشكل متزايد عن عمليات قتل النساء والفتيات، وخاصة على يد أفراد الأسرة”.
حيث سجل في عام 2023 مقتل ما لا يقل عن 30 امرأة، بينما قتلت 44 امرأة في سنة 2022. ومن المرجح أن يكون العدد أكبر من هذا بكثير وذلك لعدم توفر احصائيات دقيقة عن القضية.
العنف مؤلم والخذلان أشد
في محضر الحديث عن التهاون القضائي مع الجناة، تناول التقرير تحليلاً لبنية النظام القضائي في كردستان والعقبات التي يضعها أمام ضحايا العنف الأسري والعنف الأبوي، مما يجعل العديدات منهن يفضلن الصمت وعدم الخوض في تجربة التقاضي التي ستنتهي حتمًا بالخذلان وتعريضهن لمزيد من الخطر.
“فإذا أسقطت الناجيات التهم الموجهة ضد المعتدين عليهن إما نتيجة لعملية مصالحة إلزامية، أو ضغط الأسرة، أو للهروب من ظروف المأوى فإن الضمانة الوحيدة التي تتطلبها النيابة أو المحكمة هي أن يوقع المعتدي على تعهد بعد الإضرار عند حفظ القضية”.
في هذا الصدد وصفت إحدى الأخصائيات الاجتماعيات في أحد مراكز الإيواء التي زارتها منظمة العفو الدولية “المعاملة التي تعرضت لها فتاة قدمت شكوى جنائية بعد أن اغتصبها شقيقها، مما أدى إلى حملها”.
وقدمت الأخصائية الاجتماعية شهادتها للمنظمة بالقول “عندما رافقناها إلى قاضي التحقيق ألقى عليها نظرة وقال ’لماذا تغطّين شعرك؟ ما هذه الملابس المحترمة؟ لو كنت فتاة حسنة التصرف لما حدث لك هذا” فبكت الفتاة لساعات. وكانت تخدش وجهها ويسيل الدم”.
وتضيف “سجن شقيقها، لكن عائلتها أقنعتها بإسقاط التهم. لقد خرج من السجن وقال إنه سيعتني بها وبالطفل إذا غادرت مركز الإيواء، لكنها لا تصدق ذلك. لا ألومها. تم استدراج العديد من الفتيات إلى الموت بهذه الطريقة”.
وقالت أخصائية أخرى في مركز إيواء مختلف للمنظمة: “لا تريد النساء الذهاب إلى المحكمة لأنه سيتم سؤالهن ماذا فعلتِ له ليفعل ذلك بك؟ لا ينبغي سؤال الضحايا عما فعلن حتى يتعرضهن للضرب أو الطعن أو إطلاق النار”.
كما قُتلت العديد بعد وقت قصير من توقيع المعتدين عليهن على هذه التعهدات.
تعهدات للجناة وعنف للضحايا
وتناول التقرير عدة حالات لضحايا للعنف تعرضن للقتل أو العنف بسبب التعهدات التي تضعها المحكمة عقبة أمام إنفاذ آليات الحماية، والتي تضمن للجناة بأن يواصلوا العنف أو ينهوا حيوات الضحايا بسبب الانتقام من مقاضاتهن لهم.
ووصف مسؤولون ومسؤولات في المديرية العامة لمناهضة العنف ضد المرأة والأسرة، وإحدى أخصائيات الحالات في أحد مراكز الإيواء، ومحامٍ لمنظمة العفو الدولية “حالة مروعة تتعلق بشقيقتين، كان عمرهما آنذاك 17 و 19 عامًا، قُتلتا على يد والدهما في سبتمبر/أيلول 2020 بعد شهر واحد فقط من مغادرتهما أحد مراكز الإيواء. وتعرضت الفتاتان لضغوط من قبل أفراد الأسرة لإسقاط التهم الموجهة إلى والدهما، وقبلت المحكمة “تعهدًا بعدم الإضرار من الأب”.
وجدت منظمة العفو الدولية أن وحتى في الحالات التي “تُقتل فيها النساء تحت مسمى “الشرف الذكوري”، فإن مؤسسات الدولة وسلطات إنفاذ القانون غالبًا ما تقف إلى جانب أفراد عائلات الضحايا، أي الجناة، وتعطي الأولوية للخصوصية على تحقيق العدالة”.
ووصفت صحفية تحقق في مقتل فتاة أواخر عام 2022 في أربيل “كيف ثبطها المتحدث باسم سلطات إنفاذ القانون عن متابعة القصة: “قال لنا: ’لو كنت مكانك، لما تابعت هذه القصة. سيطلَق سراحه في وأوضح أن هذا سيكون محتملا ً لأن عائلة الضحية تسقط التهم عن الجاني عندما يكون من العائلة في غضون أسبوع”.
وبين التقرير أن أحد المحامين وصف لمنظمة العفو الدولية “حالة حكم فيها أحد القضاة على رجل بالسجن لمدة عامًا بتهمة قتل زوجته عمدًا، وهي جريمة يعاقب عليها عادة بالسجن مدى الحياة أو بالإعدام “وقف في المحكمة بوقاحة وقال أنه ربطها وطعنها، قال “نعم لقد قتلتها. كانت وقحة وردّت عليّ.. لقد اعترف بأنه طعنها وقطع رقبتها بشدة لدرجة أن رأسها بالكاد بقي معلقًا بجسدها”.
دور إيواء أم سجون؟
كما تناول التقرير الوضع المزري لدور الإيواء، وطرق التعامل التعسفية مع الضحايا بما فيها تقييد حرية التنقل والمنع من الحقوق الأساسية.
فبمجرد وصول النساء والفتيات إلى مراكز الإيواء، “يتم تقييد حريتهن في التنقل والوصول إلى الهواتف والإنترنت تقييدًا شديدًا، وهي عوامل تقيدية للنساء اللواتي يفكرن في النجاة من العنف.
ووجدت منظمة العفو الدولية أن “مراكز الإيواء بحاجة للإصلاح، ومكتظة، وتفتقر للموظفات/ين، وغير مجهزة بشكل مناسب لتلبية احتياجات الناجيات”.
وأضافت أن “مراكز الإيواء لا توفر أي تدريب مهني أو أي نوع آخر من التدريب، أو التعليم، أو الدعم النفسي والاجتماعي، مما يترك هؤلاء النساء والفتيات غير مجهزات لإعالة أنفسهن خارج مركز الإيواء إذا لم تستقبلهن أسرهن”.
وأعترف وزير العمل والشؤون الاجتماعية لمنظمة العفو الدولية “بمحدودية قدرة مراكز الإيواء وحاجتها للإصلاح، وقال مسؤولون آخرون إن مناهضة العنف القائم على النوع الاجتماعي تفتقر إلى الالتزام السياسي والإيمان بتحسين الحماية للناجيات”.
ووصفت إحدى الناجيات اللواتي أجرت منظمة العفو الدولية مقابلات معهن مراكز الإيواء بأنها “سجون فيها ضحايا”.
من جهة أخرى تضاف عدة عراقيل أمام فرص النساء في الحصول على حق الدخول لدور الإيواء، وتقول المنظمة أنه “لا يمكن إلا للنساء والفتيات المعرضات لخطر داهم بالقتل أو الإصابة الخطيرة الوصول إلى أحد مراكز الإيواء الثلاثة ذات الإقامة الدائمة في إقليم كردستان العراق، بالإضافة إلى مأوى مؤقت للطوارئ، إلا بأمر من المحكمة، ولا يمكن الحصول على هذا الأمر إلا إذا تقدمن بشكوى جنائية ضد المعتدين عليهن.
بالتالي، “يستبعد هذا الشرط الناجيات اللواتي يخشين تقديم شكاوى خوفًا من التعرض للانتقام والنبذ والعنف في المستقبل في مجتمع تهيمن عليه العقليات الذكورية والقبلية”.
وتضيف المنظمة أن نفس العراقيل تفرض على الخروج، حيث “لا يمكن إلا للمحكمة أن تأذن بالخروج من مركز الإيواء وذلك بعد حل القضية فقط. من الناحية العملية، يعطى إذن الخروج في أغلب الأحيان عندما تسقط الناجية التهم الموجهة ضد المعتدي عليها، وإذا رأت المحكمة وإدارة مركز الإيواء أن الناجية لم تعد عرضة للخطر”.
هذه الإجراءات المستهترة بحيوات الضحايا أدت لتأثيرات مأساوية منها “انتحار إحدى الناجيات في مركز الإيواء بالسليمانية عندما رفضت المحكمة
الموافقة على طلبها بالخروج الطوعي”.
نقص التمويل يقوض فعالية الحماية
تناول التقرير نقص التمويل الموجه لحماية النساء من العنف وتطوير دور الإيواء بما يضمن تحقيق ذلك، حيث أبلغت مسؤولات/ين في المديرية العامة لمكافحة العنف ضد المرأة، منظمة العفو الدولية عن النقص الحاد في ميزانيتهن/م، وتقاعس وزارة الداخلية في تخصيص ميزانية سنوية، على الرغم من أنها ملزَمة قانونيًا بذلك.
وتضيف المنظمة أن “نقص الدعم المالي، إلى جانب الكراهية المجتمعية تجاه المديرية، يعيث قدرتها على الاستجابة لشكاوى الناجيات ودعمهن من خلال إجراءات جنائية مطولة، مما يعرض الناجيات لضغوط مالية أكبر، ويضطرهن إلى خوض الإجراءات القضائية بمفردهن”.
توصيات المنظمة
خلص التقرير إلى أن يجب على حكومة إقليم كردستان ضمان أن يتبع التزامها بحماية النساء والفتيات من العنف الأسري، وتوفير الموارد المالية اللازمة لضمان عمل دور الإيواء بوتيرة ومعايير تتناسب وحجم المسؤولية التي تحملها هذه الدور.
كما تحدث التوصيات عن وجوب وضع آليات محاسبة قانونية للجناة بما يضمن حماية الضحايا/الناجيات، ورفع الوعي المجتمعي حول ظواهر العنف الأسري.