“هوارية”.. رواية جزائرية تتخطى حواجز الممنوع
أثارت رواية “هوارية” للكاتبة الجزائرية إنعام بيوض الصادرة عن دار ميم للنشر، جدلاً واسعًا في الجزائر. وذلك بسبب ما وصفوه بأنه “إساءة للأخلاق والقيم الجزائرية”، لتناول الرواية مواضيع مثل الجنس والعلاقات خارج إطار الزواج والكلام الغير منسجم من اللغة الاجتماعية النمطية.
تعتبر إنعام بيوض أكاديمية مرموقة وروائية وشاعرة، ساهمت لسنوات في إثراء المشهد الثقافي والأدبي الجزائري. وذلك من خلال الكتابات والروايات مثل “السمك لا يبالي” (2003)، ودواوين شعرية مثل “رسائل لم ترسل” (2003). بالإضافة إلى عملها كأستاذة جامعية تُدرّس الترجمة بشقيها التحريري والشفوي لأكثر من عقدين.
مَن هي هوارية؟ تجارب إنسانية رغم القيود
تروي الرواية قصة “هوارية”، وهي “قارئة كف” تعيش في مدينة وهران (غرب الجزائر). ذلك خلال فترة العشرية السوداء (1990-2000) التي شهدت فيها الجزائر هجمات إرهابية ومحاولة لسيطرة التطرف الديني على البلاد.
تتناول الرواية الظروف القاسية التي تواجهها “هوارية” والتي دفعتها لدخول العمل الجنسي. وتسلط الضوء على التجارب الإنسانية والاجتماعية بكل صدق ووضوح. هذا باستخدام لغة عامية تعكس واقع المجتمع والحياة اليومية، التي يتخللها كسر للقواعد الاجتماعية والقيود الأبوية على الجنسانية والجسد.
وتظهر الرواية الجوانب الثقافية والاجتماعية المتعددة التي تتضمن الكلام الخارج عن القواعد والممارسات التي تتسلل من بين ثنايا الأقنعة الأخلاقية، التي غالباً ما تخفي حقيقة رغبات الأشخاص وهوياتهن/م.
هوارية .. صورة حية عن حياة البسطاء
في حديثها للعربي الجديد، قالت إنعام بيوض أن الشخصية الرئيسية لرواية “هوارية” تعود لشخص عرفتها بالفعل في حياتها لكن باسم مختلف وبتفاصيل مختلفة. وبينت أن اختيار شخصية قارئة الكف لتكون المدخل لسرد القصص وإظهار الحياة اليومية للمجتمع، يأتي من حقيقة أنها تصادف أنواع مختلفة من الناس من خلفيات وفئات اجتماعية وطبقية متعددة. تنكشف لها أسرار وخبايا ومعاناة وطموحات كل شخص. مشيرة إلى أنها أرادت إيصال رسائل اجتماعية وتاريخية وثقافية متعددة الأبعاد.
فالرواية تتبع حياة سكان وهران، المدينة التاريخية التي عرفت تعاقب العديد من الحضارات والثقافات المختلفة، كما عرفت الفوارق الساحقة بين أصحاب الأموال والفساد والرشاوي والنفاق الاجتماعي، وبين المفقرين/ات والأحياء الشعبية التي تعرف وجود فئات تخرج عن سرب المسموح به. هناك حيث تتواجد عاملات الجنس، والشباب المحروم من فرص الحياة الكريمة، وتجار المخدرات، والعائلات التي تجمع بين السلفي واليساري والرجل الذي يبيع زوجته مقابل المال. بينما يستند لقيم النظام الأبوي ويحيط نفسه بالقداسة.
هي رواية تكشف عن صورة الإنسان عندما يكون متخلصًا من القيود. يتفوه بالكلمات النابية التي تخرج دون رقابة أو خوف من الوصم والسجن والملاحقة الاجتماعية والسياسية. تلك الصورة الجامحة التي تقمع في المجتمع أمام الأعين والمساطر الأبوية والدينية. لكنها تتجلى بكل صدق في دور العمل الجنسي وأمام العرّافات وفي الجلسات المغلقة التي يمسح فيها بالمحظور، وتطغى فيها الرغبة على القمع.
تسرد الرواية على لسان عاملات الجنس الحياة الخفية للمجتمع. إذ يدافع أفراده بشراسة عن طهرانية أبوية تربط الأخلاق بالجسد، والسمو بوضع أقنعة تكبح الرغبات والمشاعر. بينما تظهر في العلن صورة الالتزام بقواعد اجتماعية وسياسية تعلي من قيود النظام الأبوي، باعتبار أن الإنسان كائن يمكن تدجينه ووضعه ضمن قوالب تحكمه بشكل كلي.
دفاع عن زيف المجتمع
تعرضت الرواية لنقد وهجوم شديد على وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإخبارية. تمحور الهجوم نحو اعتبار أنها بعيدة عن الأدب وتروج “للانحلال والشذوذ”، وأن اللغة المستخدمة فيها “سوقية” ومنافية لأخلاق المجتمع الجزائري.
هذا الهجوم يأتي من منطلق الحفاظ على صورة مثالية وخيالية عن المجتمع الجزائري. مجتمع تسوده القواعد الصارمة للعلاقات الاجتماعية ويحافظ على التراتبيات الجندرية. ويكون الكلام موزونًا ومنسجمًا مع القواعد العامة للمنظومة السياسية والاجتماعية القائمة.
ويعارض هذا المنطلق الواقع المعيش حتى للعالم الذي تصفه الرواية. حيث يطالب منتقدوها بأن تصف عوالم العمل الجنسي والشبكات الاجتماعية الخارجة عن النمط والقواعد “بأدب” لا يعكس حقيقتها.
هجوم ذكوري وخوف من أصوات النساء
كما ذهب البعض لاستدعاء قيم النظام الأبوي وتعيير الكاتبة بهويتها كامرأة، وربطها بالنجاسة لأنها “تحيض”!
هذا الهجوم الذكوري الكاره للنساء لطالما كان الوسيلة الأولى للمجتمعات الأبوية عند تناول أي شيء يخص النساء.
فإنعام ليست كاتبة وأديبة في نظر هؤلاء، وإنما “مجرد امرأة” تفتقد للعقل والمنطق الرجولي الذي يتسم بالنقاء والسمو الأخلاقي. بينما ترتبط هي بهويتها البيولوجية والاجتماعية، ولا يمكن أن تنتج سوى “الإنحطاط” و”القذارة” وتهديد قيم المجتمع الأبوي.
هذا التهديد يرتبط عميقًا بالخوف من تجرؤ النساء على كسر القواعد الاجتماعية والخوض في المحظور، وإظهار أن قرون من الهيمنة الأبوية على النساء وعلى الأجساد وعلى جنسانية الأشخاص، لم يستطع ترويضها أو قمعها بشكل نهائي.
ما يزال الجميع يمارس اللذة والرغبة ويسب ويدخن، ويكتشف دروب الجسد والجنس ويفتت التراتبيات الاجتماعية. حتى وإن حصل ذلك في مكان مغلق يخرج منه الجميع لارتداء الأقنعة الاجتماعية التي تحافظ على سير النظام الأبوي.
إغلاق دار نشر رواية هوارية
إثر هذا الهجوم، تعرضت دار النشر “ميم” لردات فعل شرسة أدت لانسحابها بشكل نهائي من مشهد النشر والأدب في الجزائر.
ونقلت وكالة “فرانس بريس” بيانًا صادراً عن الدار تعلن فيه انسحابها. “نعلن انسحابنا تاركين الجمل بما حمل كما فعلنا دومًا. نعلن أن ميم أغلقت أبوابها منذ اللحظة في وجه الريح، وفي وجه النار. لم نكن إلا دعاة سلم ومحبة، ولم نسع لغير نشر ذلك”.
وأضافت الدار: “حافظوا على البلاد من التشتت وحافظوا على الكتّاب، لأن شعبًا يقرأ، شعب لا يستعبد ولا يجوع”.
تكريم رغمًا عن النقد والهجوم والذكورية
جدير بالذكر بأن السبب في اشتعال الهجوم على الرواية وكاتبتها إنعام بيوض هو فوز “هوارية” بجائزة “آسيا جبار” الكبرى للرواية باللغة العربية لعام 2024 التي تعتبر من الجوائز الأدبية المرموقة في الجزائر.
وتلقت لجنة تحكيم الجزائر الكثير من النقد باعتبار أن الرواية تشوه المجتمع الجزائري، ولا ترقى للإنتاج الأدبي الذي يفترض أن تكرمه الجائزة.
لكن اللجنة كان لها رأي مختلف وتمسكت بقرارها. حيث قالت أمينة بلعلي، عضوة لجنة تحكيم الجائزة، أن ماحدث هو شغب مجاني. وأن اختيار الرواية استند إلى “المعايير المُعلن عنها والتي تأخذ بعين الاعتبار الالتزام بالثوابت الوطنية، والتمكن من بناء العالم الروائي بلغة جيدة ومعبرة، ورؤية مختلفة وموقف يؤطر عناصر العمل الروائي”.