تجريم العمل الجنسي في لبنان.. تمييز وعنف ضد عاملات الجنس
العمل في الجنس التجاري لم يكن يوماً بالنسبة لـ”رويدة” (27 عاماً) مهنة اختارت القيام بها بمحض إرادتها. حيث تم إجبارها تحت وطأة الترهيب والتهديد وحثها على الشعور بالذنب. وكانت هذه هي الدوافع الأولى التي أرغمتها على مزاولة المهنة.
تقول رويدة، التي اختارت عدم الكشف عن هويتها الحقيقية، لـ”شريكة ولكن” : “كنتُ في السادسة عشر من العمر. تلاعب والدي بي نفسياً للموافقة على العمل في الجنس. استمر حوالى الشهر لإقناعي أنه الحل الوحيد للتخلص من حياة الفقر والعوز، وأنني سأكون سبباً في معاناة أخوايَ الصغيرين الذين تُركا لمصيرهما منذ وفاة أمي. استخدم العنف تدريجياً، ووجدتُ نفسي مُرغمة على تقديم خدمات جنسية مدفوعة للرجال، منهم مَن يفوقني أربعين عاماً”.
عدد الملاجئ في لبنان محدود، وغير قادر على استيعاب كل عاملات الجنس اللواتي يحتجن إلى مساعدة. كما أن الدولة لا توفر البدائل مثل السكن والتأهيل، لذلك يجدن صعوبة في الهروب أو التبليغ.
عمل بالجنس أم “دعارة”؟
رغم أن العمل في الجنس يوصف بـ”أقدم المهن في العالم”، إلا أن الحديث عنه، حتى في إطار التسمية، ما زال جدليًا. في الأوساط الحقوقية والنسوية والأكاديمية، مازالت المناقشات حوله تدور في فلك النظام الأبوي. حيث يتم ربط “شرف” المرأة بممارستها للجنس خارج إطار الزواج، ويسلب حقها التصرف بجسدها.
من جهة، هناك من يرى أن العمل في الجنس لا يكون فقط قسرياً. إنما يمكن أن ينتج عن قرار شخصي ويجب احترام حق المرأة بالتصرف في جسدها كيفما قررت. وهؤلاء يفضلن/ون عادةً استخدام مصطلح “عمالة الجنس” بوصفهم للنساء اللاتي اخترن امتهان العمل بالجنس التجاري. ويطالبن/ون بقوننة المهنة لحماية العاملات من الوقوع في شباك الاتجار بالبشر، الاستغلال الجنسي، والعنف القائم على النوع والمهنة.
في هذا السياق، ترى جمعية “دار الأمل” أنه رغم تعرض فئة كبيرة من النساء للاستغلال في هذا المجال إلا أن هناك من اخترن هذا العمل بكامل إرادتهن، ويفضلن الاستمرار به حتى لو أتيحت لهن فرص أخرى. من هنا، تأتي تسمية “عاملات الجنس”، لأن مواصفات العمل تنطبق عليه من حيث العرض والطلب والخدمة والدفع، ولو بشكل غير متكافئ.
في المقابل، البعض يستخدم مصطلح “دعارة”، الذي يأتي ضمن سياق قانوني، ويُقصد به “بيع وشراء جنس مقابل مال بشكل امتهاني ومتكرر”، بحسب المحامية موهانا اسحاق. يرفض هؤلاء وجود “دعارة طوعية”، ويطالبون بالقضاء عليها بصفتها نوع من أنواع الاتجار بالبشر، وتعتمد بالدرجة الأولى على استغلال أجساد النساء.
نذكر هنا جمعية “كفى” التي تنظر إلى النساء اللواتي يعملن في هذا المجال على أنهن مستغلات. إذ لم يخترن العمل بملئ إرادتهن، بل تدفعهن الأسباب الاقتصادية والاجتماعية إلى الانخراط فيه. وذلك بحسب الأخصائية الاجتماعية في الجمعية نورا مكارم التي ترى أن التسميات الأخرى للـ “دعارة“ لا يمكن أن تلغي العنف ضد النساء. وتعتبر أن الكثير من الفتيات القاصرات يتم استغلالهن بسبب هشاشة وضعهن الاجتماعي، وتعرضهن لعنف جسدي وجنسي داخل بيوتهن.
View this post on Instagram
واقع العمل الجنسي في لبنان
وفق لأرقام زودتنا بها قوى الأمن الداخلي، سُجل توقيف 88 شخصاً بتهمة “ممارسة الدعارة“ في 2023، و53 بتهمة تسهيلها. فيما تُشير أرقام العام 2024 حتى نهاية شهر أيار، إلى توقيف 17 شخصاً بتهمة “ممارسة الدعارة“، و6 أشخاص بتهمة تسهيلها. في الواقع، لا يمكن البناء على حجم توقيفات قوى الأمن لرصد عدد النساء اللواتي يمتهن العمل الجنسي في لبنان أو اللواتي يتم استغلالهن من خلاله.
تُشير الأخصائية نورا مكارم، في حديث مع “شريكة ولكن”، إلى أن عملية ضبط “شبكات الدعارة” صعبة لأنها تتسم بالسرية، وأحياناً يتم تغطيتها من قبل السلطة نفسها. ولا يمكن للأرقام أن تعبر عن الواقع، خصوصاً أن كثيرات يتعرضن للاستغلال ولا يمكنهن طلب المساعدة. يرجع ذلك أولاً لرفض المجتمع لهن ووصم مهنتهن اجتماعيًا، وثانياً بسبب الوضع القانوني وخوفهن من العقاب.
تتفاوت أعمار النساء اللواتي يلجأن إلى جمعية “كفى” لطلب المساعدة. فبحسب نورا، هناك من ينخرطن في المجال في عمر مُبكر 14 عامًا، أو في الأربعين. كذلك الأمر بالنسبة للجنسيات، فالنساء على اختلاف جنسياتهن معرضات للهشاشة الاقتصادية والاجتماعية.
بدورها، استطاعت جمعية “دار الأمل“ أن تصل الى 150 امرأة عملت في مجال العمل الجنسي منذ بداية العام 2024. جميعهن استفدن بشكل أو بآخر من خدماتها. تُوضح الأخصائية الاجتماعية في الجمعية، هبة ابو شقرا، في مقابلة مع “شريكة ولكن” أن عدد الملاجئ في لبنان محدود، وغير قادر على استيعاب كل عاملات الجنس اللواتي يحتجن إلى مساعدة. كما أن الدولة لا توفر البدائل مثل السكن والتأهيل، لذلك يجدن صعوبة في الهروب أو التبليغ.
وتُتابع: “الدولة اللبنانية لم يكن يوماً ضمن أولوياتها وضع استراتيجيات تلحظ احتياجات النساء المهمشات. أو حاولت دعمهن والحد من العنف الموجه ضدهن“.
من هنا، نرى كيف تساهم السلطة، في واقع يتميز بالعقلية البطريركية، بنبذ النساء المستغلات في العمل الجنسي عوضاً عن مساعدتهن وحمايتهن من الاستغلال. وتُصر على اعتبارهن أقل شأناً وتُلقي اللوم عليهن دون الأخذ بعين الاعتبار المعاناة النفسية والاجتماعية التي يمررن بها.
العنف في مجال العمل بالجنس
على الرغم من اختلاف ظروف الانخراط في مجال العمل الجنسي بين النساء، يبدو أن معظمهن يتعرضن لتبعات صحية ونفسية وخيمة. وذلك بسبب السلوك المجحف الذي يصدر بحقهن مثل العنف والإساءة.
تزيد النظرة الذكورية الأمر تعقيدًا، وتُعطي للرجال استحقاق ممارسة صور مختلفة من العنف ضد النساء. وتحدد علاقة سلطوية هرمية تتسم بفوقية الرجل حتى أثناء ممارسة الجنس، وتجعل من مهام النساء تلبية رغباتهم كيفما يشاؤون، فضلاً عن أن القوانين اللبنانية تزيد من خطر تعرض العاملات في الجنس لمضاعفات صحية.
ففي حالات الحمل، قد يلجأن إلى الاجهاض غير الآمن في ظل تجريم القانون لعمليات الإجهاض في لبنان. كما يواجهن خطر التعرض للعنف الجنسي والأمراض المنقولة جنسياً، لا سيما مع محدودية توفر خدمات الصحة الجنسية، وعدم وجود قانون ينظم المهنة ويحمي العاملات فيها.
بالعودة إلى رويدا، كان والدها هو من يقوم بدور المسهل. “كان يأخذني إلى أماكن السهر الفخمة والفنادق والبيوت ويعلمني الطرق المختلفة لجذب الرجال. ولم يكن يُعطيني إلا القليل من المال بحجة أنه يصرف على البيت”.
عانت رويدا من العنف والاستغلال، وتعرضت للشتم والإهانة على مدى سنوات من الرجال أثناء عملها، وكذلك من قبل والدها. “أذكر يوماً رفضت فيه ممارسة الجنس مع أحد الأشخاص، فقام أبي بضربي ضرباً مبرحاً انكسرت على إثره رجلي. ونُقلت إلى المستشفى، وتم تهديدي بالقتل بينما كنت أتلوى من الألم”.
وللوقوف عند المزيد من قصص النساء، تحكي لنا الأخصائية الاجتماعية في جمعية “كفى”، مايا قزيلي، عن بعض الحالات التي تلجأ إليها. نذكر منها: “هناك نساء يدخلن مجال «الدعارة» بتسهيل من الزوج. وهناك نساء يمتهن العمل بسبب حالتهن الاقتصادية المزرية وحاجتهن للمال، أو بسبب وضع صحي مثل إصابة أطفالهن بأمراض مزمنة.
نرى شابات يقررن دخول هذا المجال مقابل تأمين قسط الجامعة أو أقساط البيت. وبعضهن أتين إلى لبنان للعمل في فنادق أو تنظيف البيوت ليكتشفن أنهن وقعن ضحية اتجار بالبشر. هناك نساء يُجبرن على التدخين واستخدام المخدرات، وبعضهن يُحرقن بالسيجارة. وتواجه أخريات عنفاً حاداً”.
من جهتها، تتحدث الأخصائية هبة ابو شقرا من جمعية “دار الأمل” عن حالات لنساء رغبن في الاستمرار بممارسة العمل الجنسي ولكن تعرضن أيضا للاستغلال أو العنف. “هناك امرأة كان يُسمح لها بالوقوف في منطقة الدورة. حيث تستقطب الزبائن مقابل دفع المال لأحد الرجال الذي يقوم بفرض “الخوات” (إتاوات) على النساء. وهناك عاملة أخرى لجأت إلى الجمعية منذ أربعة أشهر. كانت قد تعرضت لضرب مبرح وسرقة كل ما كان بحوذتها من أحد الزبائن”.
تعليقاً على هذه النقطة، تقول: “العنف ضد هؤلاء النساء يمارس عليهن من مصادر متعددة، إن كان من خلال القواد، الزبون، المجتمع، القوانين، أو حتى من قبل القوى الأمنية”.
وعليه، يُنظر إلى قوننة العمل الجنسي على أنها أحد الوسائل المساعدة لحماية الراغبات بالعمل في المهنة من خلال كسر معادلة القوة بين الطرفين، ووضع حد للانتهاكات التي تحصل بحق النساء، وإعطائهن كامل حقوقهن العمالية دون تعرضهن لإدانة إجتماعية واعتبار عملهن “وصمة” تلتصق بهن وتحجم أدرواهن في الحياة العامة.
“الدعارة” في القانون اللبناني
كانت مهنة العمل الجنسي في لبنان مشرعة ومنظمة ضمن شروط عديدة من ضمنها إلزامية خضوع النساء لفحوصات طبية بانتظام. لكن توقف منح التراخيص بعد الحرب الأهلية اللبنانية، وأصبحت المهنة “مجرّمة” وفقاً لقانون العقوبات اللبناني في المادة 523.
تُشير المحامية موهانا اسحاق إلى أن عقوبة “الدعارة“ في لبنان تصل إلى مدة أقصاها ثلاثة سنوات، فيما تتراوح عقوبة الاتجار بالبشر بين 5 و 15 سنة ويُعدها القانون جناية.
وترى أن قانون الاتجار بالبشر يخلق جدلية. فهو يرى أن النساء اللواتي يتم استغلالهن في “الدعارة” ضحايا، إلا أنهن يخضعن للمحاكمة لإثبات ذلك.
بمعنى آخر، القانون غير منصف لهؤلاء النساء، خصوصًا (اللواتي يتعرضن منهن للاستغلال والاتجار). إذ يبقى العفو عنهن رهن تقديم أدلة لإثبات كونهن ضحايا أُرغمن بالإكراه على عمالة الجنس. هذا بجانب إرغامهن على الخضوع للمحاكمة، ما يزيد من فرص تعرضهن للإساءة والانتهاك خلال التحقيق والاستجواب والاحتجاز.
تُضيف المحامية: “هناك صعوبة في كشف «شبكات الدعارة»، لأنها عادة ما تكون منظمة. الأشخاص الفاعلين/ات فيها يستخدمن/ون أسماء وهمية، ويتمتعن/ون بنوع من الحماية بسبب الأرباح المادية الناتجة عن عمل الشبكات. وبالتالي، تتم حماية المسؤولين عنها من قبل أشخاص نافذين، ما يصعب من عملية توقيفهن/م ومقاضاتهن/م“.
“أذكر يوماً رفضت فيه ممارسة الجنس مع أحد الأشخاص، فقام أبي بضربي ضرباً مبرحاً انكسرت على إثره رجلي. ونُقلت إلى المستشفى، وتم تهديدي بالقتل بينما كنت أتلوى من الألم”.
نحو الحد من “ذكورية” القوانين
يقودنا واقع عاملات الجنس في لبنان إلى ضرورة البحث عن مقاربات قانونية وتنظيمية جديدة للقضية. فالقوانين اللبنانية المتعلقة بالعمل الجنسي تكرس العنف الممارس ضد النساء سواء اللواتي اخترن أو لم يخترن الانخراط في المهنة. وتعزز وصمة العار الذكورية المحيطة بهن.
تلك القوانين تُشكل عائقًا أمام النساء المستغلات في المجال اللواتي يترددن من الهروب خوفاً من تجريمهن. وتحرم الأخريات الحق في حصولهن على تعرفة منصفة، وكذلك على ضمانات صحية واجتماعية وشيخوخة آمنة.
تعتبر المحامية والحقوقية اللبنانية ديالا شحادة في حديث مع “شريكة ولكن” أنه يجب حماية عاملات الجنس والحرص على عدم تعرّضهن للانتهاك خلال التحقيقات والاحتجاز. وكذلك يجب تأمين أماكن آمنة للنساء المستغلات أو المُكرهات. وتُضيف: “لا بد أيضاً من تأهيل هؤلاء النساء نفسياً ومهنياً وتأمين فرص عمل لهن”.
وترى شحادة أن على الدولة حماية العاملات في العمل الجنسي والمستفيدين/ات فيها، دون تمكين الفئة الأخيرة من استغلال العاملات جنسيًا أو الاتجار بهن.
من جهتها، ترى المحامية موهانا اسحاق أنه من الضروري وضع رؤية تشريعية جديدة لحماية النساء فعليًا من الاستغلال ولتأمين العقوبة الحقيقية والردع الحقيقي الفعال للأشخاص الذين يستغلون النساء في “الدعارة“.
وتُتابع: “القوانين في هذا المجال غير متجانسة. فقانون العقوبات يجرم المرأة في أحد مواده، بينما تحمي مادة أخرى المرأة المستغلة بالاتجار وتجرم المتاجرين. هذا يصنع تضارباً بالاجتهادات وبالحماية الحقيقية. ولذلك، يجب تعديل القوانين للوصول إلى وحدة في الرؤية وتأمين الحماية الحقيقية للضحايا“.
نحو خطة استراتيجية للحماية
تقول الأخصائية مايا قزيلي في هذا السياق: “هناك نساء تراودهن أفكار انتحارية. نساء لديهن صور مشوهة عن أنفسهن، وأخريات يخفن من النوم ويعانين من تبول لاإرادي. تعاملنا مع حالات عديدة مثل الاكتئاب، اضطراب ما بعد الصدمة، القلق”. هذا الأمر يجعل من الأولوية توفير الدعم النفسي للنساء ضمن خطة الحماية.
وجهت “شريكة ولكن” سؤالاً لـ”ميليسا فارلي”، باحثة أميركية ومديرة منظمة “«الدعارة»، الأبحاث، والتعليم” حول السبل الممكنة لمكافحة استغلال النساء، فردت بالقول: “هناك الكثير من الحلول التي يمكن طرحها، من ضمنها التثقيف الجنسي من منظار نسوي، العدالة الاقتصادية، تعليم الرجال كيفية التعاطف مع النساء، وتعليم الناس بشكل عام كيفية التعاطف مع الآخرين”.
كما اعتبرت أن اعتقال وتجريم هذه الفئة من النساء في لبنان وغيرها من الدول “ظلم فظيع”، ويجب العمل لتغيير ذلك. هذا بالإضافة إلى مساعدتهن خلال الإجراءات القانونية، تأمين الخدمات الطبية، وتأمين دور رعاية آمنة لمَن تحتاج.
تحقيق: كلارا نبعة
“أُنتج هذا التقرير بالتعاون مع المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية DRI، ضمن مشروع الأصوات المستقلّة: دعم صناعة المحتوى المبتكر والمتمحور حول المواطنين والمواطنات في الإعلام اللبناني”.