تلوث نهر الليطاني.. نساء في مواجهة التلوث والفساد 

الليطاني، قضية تلوث وفساد طغت على الإعلام خلال السنوات الماضية. حيث تحول النهر البالغ طوله 170 كلم من منبعه في البقاع الشمالي إلى مصبه في البحر المتوسط إلى بؤرة أمراضٍ. وذلك بسبب إنشاء المصانع على أطرافه وتلوثه بالمبيدات الزراعية ومياه الصرف الصحي على مدار ثلاثين عامًا. 

ثلاثون عامًا من التلوث والفساد

بدأت قضية تلوث الليطاني في أوائل تسعينيات القرن الماضي. إذ أُنشأت مصانع ملوثة على ضفافه، ترافق مع توجيه مياه الصرف الصحي إلى النهر، وفرط استخدام المبيدات الزراعية التي تحتوي على المواد السامة. حصل كل ذلك بمباركة من البلديات المتعاقبة، وغياب تام للوزارات المعنية في السنوات الأولى بعد الحرب الأهلية.

يشرح دكتور سامي علوية، المدير العام للمصلحة الوطنية لنهر الليطاني في هذا الإطار أن “أول انتخابات بلديات بعد الحرب أقيمت سنة 1992. مع بداية نشاط البلديات، بدأت مشكلة الليطاني سنة 1994. المجالس البلدية الأولى المكونة بعد الحرب كانت ذات طابع سياسي وحزبي، خصوصًا في منطقة البقاع. وهي تتحمل جزءًا كبيرًا من مسؤولية تلوث النهر”.

ناهيك عن “القوانين التي تتقاعس البلديات عن تطبيقها، مثل قانون البلديات وقانون البيئة والمياه وإدارة النفايات الصلبة. حيث تفرض الحفاظ على النظافة والصحة العامة والنظام العام وحماية الأملاك العامة، وتطبيق القوانين ضمن البلديات وتنظيم الإدارة المتكاملة للنفايات الصلبة. كما يفرض قانون المياه على البلديات أن تكون مسؤولة عن نظافة النهر بالنطاق الجغرافي البلدي. فيما يتحمل رئيس البلدية وأعضاء المجلس البلدي مسؤولية إقامة المكبات والإدارة المتكاملة للنفايات”، بحسب علوية. 

وتطورت هذه المشكلة مع الوقت مع استمرار غياب البلديات وتقاعس مصالح المياه عن معالجة مياه الصرف الصحي. يشرح الباحث البيئي كمال سليم أن “خلال آخر 20 لـ25 سنة، المسبب الأول للتلوث هو الصرف الصحي من منبعه في البقاع الشمالي”. مشيرًا إلى وجود “نقص في محطات التكرير، بينما المحطات الموجودة غير فعالة أو صغيرة”.

رغم خطورة التقاعس عن معالجة الصرف الصحي في مناطق حوض الليطاني، إلا أن التقاعس يطال جميع الأراضي اللبنانية. إذ يظهر تقرير أعدّته “المفكرة القانونية” أن “فقط خمس محطات تكرير تعمل في لبنان من أصل 67 محطة ورفع منشأة”. وعلمًا بأن أكبر محطة تكرير في البقاع هي محطة زحلة، يظهر التقرير نفسه أنها “لا تعالج الحمأة (البراز) وهي النفايات الصلبة المتبقية من مياه المجاري والتي يتمّ تجميعها في برك مكشوفة بالقرب من المحطة”.

الضريبة الصحية لتلوث الليطاني

تحتوي مياه الليطاني على بكتيريا أثبتت الدراسات أنها قد تسبب سرطانات وأمراض جلدية ومشاكل بالصحة الجنسية والإنجابية.

أوضحت دراسة نشرها البنك الدولي هذا العام أن “90% من مياه المجارير في لبنان تصب إلى الأنهار بلا معالجة. للأسف، لم تكن هناك دراسات في لبنان لتقييم آثار تلوث مياه النهر على صحة الإنسان، وخاصة الأمراض المنقولة بالمياه”.

ويضيف البحث أن “45% من الأراضي المروية في لبنان تروى من مياه الأنهار”، ما قد يشكل خطرًا على صحة الأشخاص الذين/اللاتي يأكلن/ون المزروعات التي تزرع في هذه الأنهار.

أرسلنا عبر “مبادرة غربال” طلب حصول على المعلومات إلى وزارة الصحة (19091/2024) لمعرفة اختلاف عدد حالات السرطان في منطقة حوض الليطاني.

 

عدد حالات السرطان بين صفوف النساء في منطقة حوض الليطاني (المصدر: وزارة الصحة)

 

وتشير أرقام وزارة الصحة أن 3,847 شخصًا توفين/وا بسبب السرطان. منهم/ن 1,686 من النساء، في المناطق الأكثر تعرضًا لتلوث الليطاني. وهي زحلة، وبعلبك، والبقاع الغربي، ومرجعيون، وجزين، وبنت جبيل، والنبطية، من عام 2017 حتى عام 2023.

تقدّر الوفيات في كل لبنان من السرطان خلال الفترة ذاتها بـ 12,969، منها 5,909 من النساء. أي وفيات النساء بسبب السرطان في مناطق حوض الليطاني تشكل 28.5% من إجمالي وفيات النساء في لبنان بسبب السرطان.

تبين دراسة نشرتها “مصلحة الأبحاث العلمية الزراعية” التابعة لوزارة الزراعة سنة 2019 أن الخضار التي رويت بمياه الليطاني احتوت على 67% من الزئبق و17% من الكروم و100% من الرصاص. كما بينت الدراسة ذاتها أن النعنع المروي من مياه الليطاني يحتوي على نسبة رصاص أكثر بـ12.3 ضعفًا من النسبة المسموحة، و34 ضعفًا من النسبة المسموحة من الكروميوم.

تبين أبحاث لمنظمة الصحة العالمية ومنظمة الصحة للبلدان الأمريكية أن الزئبق “يشكل تهديدًا لنمو الأجنة والأطفال/الطفلات”. كما يشير المصدر ذاته إلى أن الرصاص “يمكن أن يؤثر على أجهزة الجسم المتعددة. وهو ضار بشكل خاص للأطفال/الطفلات، والنساء في سن الإنجاب”.

تلوث الليطاني والصحة الجنسية والإنجابية للنساء

رغم قلة البحث في العلاقة بين التلوث والأمراض في حالة تلوث مياه الليطاني، لا تقتصر آثار تلوث المياه على خطر الإصابة بالسرطان. بل للتلوث أيضًا تبعات سلبية على الصحة الجنسية والإنجابية للنساء.

يوضح دكتور الأمراض النسائية فيصل القاق أن “تلوث مياه الأنهار وتلوث التربة يؤثران على الصحة الإنجابية والجنسية. إذ قد يسبب التلوث تدني الخصوبة أو عدم القدرة على الإنجاب، لأنه يؤثر على هرمونات الإباضة. بالإضافة إلى مضاعفات صحة جنسية وإنجابية أخرى، مثل بطانة الرحم المهاجرة، وتكرار الإجهاض، ووجود تكيسات المبيض. كما يؤثر على البلوغ السليم، إما يسبب ولادات مبكرة، أو أجنة ذات حجم صغير”.

يشرح الدكتور حسين حسن، الباحث والخبير في سلامة الغذاء في الجامعة اللبنانية الأمريكية، أن “النساء المرضعات قد ينقلن مياه تحتوي على معادن ثقيلة في حليب الثدي للطفل/ة. يؤثر ذلك على النمو الذهني والجسدي وقد يصل إلى تشوه الأجنة. أما التلوث الجرثومي يؤدي إلى عوارض لدى الحوامل تتعلق بالجهاز الهضمي، مثل التجفيف. وهناك عوارض على المدى البعيد في ما يتعلق بالاضطرابات السلوكية وأمراض أخرى مثل الربو”. 

يكمل حسن أن “هناك أمراض متعلقة بالجهاز التناسلي والمسالك البولية التي قد تنتج عن التعرض لمياه ملوثة، مثل الالتهابات. كما تشير دراسات إلى أن هذا التلوث يؤدي إلى اضطرابات بالهورمونات قد تؤثر على الدورة الشهرية”.

سرطان الجسد وسرطان البيروقراطية

رغم التأثير الكبير الذي يحدثه تلوث النهر على الصحة، يبقى البحث العلمي ضئيلًا جدًّا في ما يتعلق بتلوث الليطاني. إذ لا يوجد دراسات تحدد  أعداد دقيقة أو تقريبية للمصابات/ين بالسرطان في المنطقة المتأثرة بتلوث النهر. وتقتصر المعلومات على ملاحظة الأطباء/الطبيبات فقط. 

يشرح الباحث والمحاضر في علوم الإيدرولوجيا ناجي كعدي أن “لا دراسة تثبت ارتفاع حالات السرطان في منطقة حوض الليطاني. هذا الارتفاع يرتكز على ملاحظة الأطباء/الطبيبات في المنطقة، ولا يوجد أرقام دقيقة تثبت هذه الملاحظات. كما تغيب الدراسات التي تثبت العلاقة بين التلوث وارتفاع حالات السرطان في منطقة الليطاني. يمكن أن ترتفع حالات السرطان لأسباب أخرى غير التلوث. في حالة لبنان، هناك عدة مسببات للأمراض”.

يشرح الدكتور عاصم عراجي، رئيس لجنة الصحة النيابية السابق من 2018 حتى 2022 ومقرر لجنة الصحة السابق من 2005 حتى 2018، أن “الجهاز الهضمي يتأثر بالتلوث الذي ينتج عن التلوث الكيميائي والصناعي من الزئبق ومجارير المياه. هذا بالإضافة إلى سرطان المعدة والقولون والبنكرياس”.

يشير الدكتور عراجي إلى تقصير وتقاعس الوزارات المعنية عن متابعة هذه الآثار الكارثية. يقول: “طلبنا من وزارة الصحة أو البيئة تأسيس مركز تسجيل مرضى/مريضات السرطان لإحصاء أعدادهن/م، بهدف معرفة النسب وتوزيعهن/م على المناطق. للأسف، لم نلق تجاوبًا، ولم يتم تأسيس المركز. بينما نلاحظ، نحن الأطباء، ارتفاعًا مستمرًا في الإصابة بالسرطان في المنطقة”.

هذا الاقتراح لم يكن الاقتراح الوحيد الذي قدمه عراجي. إنما سبقه تقديم مشروع لتنظيف مياه الليطاني، دخل في بازار المتاجرة بصحة المقيمات/ين، لحساب المكاسب الشخصية والحزيبة.

يشير الطبيب في هذا الخصوص إلى “موافقة مجلس النواب على اقتراح برنامج لرفع التلوث في 2014 أو 2015، ليطبق على مدة 7 سنوات. قدمناه مع مجلس الإنماء والإعمار. كان يجب على الحكومة تخصيص موازنة للبرنامج، وقدرنا الكلفة بـ 25 مليون دولار. بعدها، قرر نواب الجنوب استكمال المشروع ليمتد من بحيرة القرعون حتى البحر المتوسط. فأصبحت الكلفة 800 مليون دولار. دفعت الحكومة 100 مليون دولار سنة 2016 و150 مليون، لكل من السنتين 2017 و2018″.

وتابع موضحًا أن “العمل في هذا المشروع توقف بعد الانهيار الاقتصادي الذي ضرب البلد وتدهور سعر صرف الليرة اللبنانية”.

يعزي العرجاني سبب عدم استكمال المشروع الذي قدمه لوجود عدة وزارات ترفض التخلي عن أي من صلاحياتها لصالح وزارات أو جهات أخرى. فيقول إن “المشكلة أن هناك العديد من الوزارات المعنية بتنظيف مياه الليطاني، وزارة الصحة والطاقة والبيئة والزراعة. فيما لو تم تسليم المشروع لمؤسسة الليطاني، فسيكون هناك مسؤول محدد يوزع الصلاحيات وفق اختصاصات كل الوزارات. في حين لا يريد أي وزير التنازل عن أي من صلاحياته باعتبارها إما كانت مكاسب شخصية أو حزبية”.

النساء في مناطق حوض الليطاني: حصة من التلوث وتهميش في صنع القرارات

تغيب النساء من مراكز صنع القرارات في بلديات البقاع التي يبلغ عددها 103 بلدية، تترأس النساء سبعة منها فقط. تشرح لينا فرحات، رئيسة بلدية باب مارع، عن عملها رئيسة لبلدية في منطقة حوض الليطاني. “أصبحت رئيسة بلدية في بداية الأزمة الاقتصادية. حيث لم يكن في الصندوق البلدي سوى 50 ألف ليرة. دفعني ذلك للتشبيك مع جمعيات ومنظمات بيئية”.

تضيف فرحات: “خلال ولايتي، حولت مكب نفايات كان قد أُقيم على مشارف بحيرة القرعون إلى حرش. كما أنشأت حرشًا آخرًا على الطريق العام. وطورنا من قنوات المياه لمنع التسرب. قمت بذلك كله بدعم من جمعيات ومنظمات وبجباية رسوم من المنازل والمؤسسات التجارية. نجبي من كل منزل 200 ألف ليرة شهريًا، ومن المؤسسات التجارية 10 دولارات، لنستطيع المحافظة على النظافة العامة. إذ أن وزارة الداخلية تدفع ميزانية قليلة للبلدية، لأن الضيعة صغيرة. تدفع الوزارة بحسب ميزانية تحتسب الدولار بـ1,500 ليرة لبنانية متراكمات من 2020. كما أنها تدفع نصف المبلغ”.

رغم جهود لينا وغيرها من رؤساء ورئيسات البلديات، إلا أن غياب خطة تطبقها جميع البلديات تجعل الوصول إلى حل مستحيلاً. “يوجد محطة تكرير في قريتنا، ولا يوجد مصانع ملوثة ولا نوجه مياه المجارير إلى البحيرة. لكن مياه المجارير من القرى المجاورة ما زالت تصب بالبحيرة. وما زالت المصانع ترمي نفاياتها بها”، تختم فرحات. 

في هذا الخصوص، يشرح دكتور سامي علوية، المدير العام للمصلحة الوطنية لنهر الليطاني، أن “النساء هن الأكثر تعرضًا للمياه الملوثة. هذا بسبب عملهن في الزراعة والطبخ والأعمال المنزلية. رغم ذلك، قليلات منهن يترأسن البلديات. وبرأيي، هؤلاء النساء هن الأنشط والأكثر حرصًا على البيئة والأقل فسادًا. يبذلن جهدًا مضاعفًا لإثبات أنفسهن، خصوصًا في منطقة مثل البقاع. حيث الهدف هو إحداث الفرق. المؤسسات الصناعية التي تمتلكها أو تديرها النساء هي الأكثر التزامًا على المستوى البيئي”. 

يقابل غياب النساء عن ترؤس البلديات حضورهن الواضح في مجلس إدارة مصلحة الليطاني. إذ يوضح علوية أنه “رغم غياب كوتا النساء في مجلس الادارة، معظم الوظائف القيادية في الليطاني هي للنساء. وذلك حصل دون قصدٍ منّا. إذ أن النساء تقدن أربعة من خمسة مصالح أساسية تتولاها مصلحة الليطاني. وهي الضمان والمشاريع والمعلوماتية والمشتركين/ات”. وأكد “وجوب وجود ما ينص على هذه المشاركة، إلا أن الظروف التشريعية والمالية لا تسمح بالتفكير بظروف النساء”.

وفي إطار النشاط البلدي لعلاج مشكلة تلوث الليطاني، نظم أهالي منطقة حوض الليطاني مظاهرات عدة للمطالبة بوقف التعديات، وإيجاد حلول لمعالجة المشكلة البيئية. إلا أن هذه المظاهرات طغى عليها الرجال، من رؤساء البلديات وبعض الناشطين وشخصيات، إلى جانب قلة من النساء اللواتي تسمح لهن ظروفهن بالتظاهر، واللواتي تمكنّ من تبوء مناصب سياسية بظل العقبات التي تعيق وصولهن إلى مراكز السلطة، تحديدًا في القرى النائية. غيابٌ ظهرت انعكاساته السلبية في التغطية الإعلامية كما البحثية لقضية تلوث نهر الليطاني.

تشرح أسمى الحجل، باحثة بيئية درست تأثير تلوث نهر الليطاني على النساء، أنه “خلال إجراء البحث، اكتشفنا أن من يتقدّمون النقاشات حول القضية أغلبهم رجال”. ولفتت النظر إلى أن “هؤلاء الرجال هم الحاضرون اجتماعيًّا، رؤساء بلديات أو مهندسين. بينما تغيب سردية النساء كليّةً. وإن لم يتقصد الباحث/ة الوصول إلى النساء، لن يصل إليهن”.

تضيف أسمى أن “النساء اللواتي يتظاهرن هن النساء اللواتي يستمتعن برفاهية الخروج من المنزل خلال النهار لتوزيع المنشورات أو تسكير الطرقات. هن في أغلب الأحيان نساء لا يعملن وأطفالهن/طفلاتهن في المدارس، أو يهتم أحد بهم/ن، ما يخفف الأعباء الملقاة على عاتقهن”.

نحو منظور نسويّ تقاطعيّ لتلوث الليطاني

إن تركيز الأبحاث والإعلام على نقل قضية تلوث الليطاني من منظارٍ غير تقاطعي، وتجاهل تداخل العناصر المتعددة لدراسة ومتابعة ملف تلوث الليطاني، أدى إلى تهميش شرائح واسعة من قرى حوض الليطاني وسكانها. 

كلنا نعلم أن نهر الليطاني ملوثًا، لكننا لم نزر قط المناطق التي تعاني من التلوث. لم نزر من قبل حوش الرافقة أو قب الياس، أو مخيمات اللاجئات/ين السوريات/ين الذين/اللواتي لم يكن أمامهن/م سوى قطعتين من أطراف نهرٍ يطوف كل عام على خيامهن/م، بينما يُلاموا/يلمن على تلوث النهر.

يحدث كل ذلك بموازاة تهميش معاناة النساء مع تلوث الليطاني. ما يسبب تهميشًا مضاعفًا للاجئات أو اللواتي ينتمين إلى البدو.

تشرح حجل أهمية أخذ رأي النساء في  سياق أي دراسة تجرى، خصوصًا البيئية منها. وترجعها لأسباب عديدة أهمها الدور الذي يلعبنه بإدارة الموارد. “من المهم أن نتطلع على تجارب وآراء النساء في أي موضوع ندرسه، بالأخص المواضيع التي تؤثر على المجتمع، من وجهة نظر النساء. ذلك لأنهن غالبًا لسن في موقع سلطة، ولا يظهرن على الإعلام. يستعملن الموارد الطبيعية مثل المياه والأرض، دون أن يملكنها”.

تواجه النساء الصعوبات التي يفرضها تلوث الليطاني بطرق مختلفة بحسب طبقتهن الاجتماعية. تتجلى هنا الفروقات الطبقية بين اللبنانيات اللواتي ينتمين إلى أسر ميسورة وأخريات يواجهن صعوبات مادية. كما تظهر بين اللبنانيات والسوريات اللواتي أجبرن على العيش في مخيمات، بعد اندلاع الحرب في سوريا، ويتكلن على مساعدات الإنسانية.

توضح الحجل في هذا السياق أن “بعض أهالي المنطقة نجحن/وا في خلق البدائل وفق الامتيازات التي يتمتعن/ون بها. في حين تعجز مجموعة من النساء غير المتمكنات، مثل النازحات السوريات، عن توفير بديل عن منزلهن القائم على ضفاف النهر الملوث، ووضعهن المادي الذي لا يسمح بالتنقل أو إيجاد بدائل.  عندما لا تتكفل الجمعيات بتعبئة المياه النظيفة، تضطر النساء إلى الاعتماد على المياه التي تنبع من البئر في مناطقهن رغم إدراكهن أنها ملوثة”.

دراسة مسألة تلوث الليطاني من وجهة نظر نسوية تقاطعية موضوع هام. إذ يفكك تنميط دور النساء بالحفاظ على الحياة وليس فقط خلقها، عبر فرض أدوار اجتماعية تجعلهن مسؤولات عن صحة العائلة. كما أن تغييب النساء، في قضية الليطاني تحديدًا، يلقي الضوء على النقص بإجراء أبحاث من منظور حساس جندريًّا، خصوصًا أن مجتمعنا أبوي.

التلوث والفساد يحرمان النساء من الفضاء العام

أدى تلوث مياه الليطاني إلى منع النساء من مساحة نظيفة للنقاهة والتجمع. كما حرمهنّ أيضًا من متنفّسٍ لطالما شكّل مهربًا من ثقل الحياة اليومية والأدوار التقليدية الملقاة على عاتقهن.

ففي ظلّ غياب الخطط الإنمائية لإنعاش المنطقة، وتفشّي التلوّث الإداري الذي انعكس على ضفاف الليطاني وجواره، لا تمتلك النساء في المنطقة المحرومة من المساحات الترفيهية والأماكن العامة أي خيارٍ غير المكوث في المنزل، بعد حرمانهن من الجلوس على ضفاف النهر.

تقول هناء، إحدى سكان قرى حوض الليطاني: “كنا نجلس إلى جانب المياه ونذهب مع العائلات في رحلات إلى ضفافه. أصبح الأمر مستحيلاً. كنا مطمئنين/ات لوجود مياه نظيفة، والآن زال الاطمئنان. كنا نصطاد السمك من النهر ونأكله، والآن لا نستطيع. ناهيك عن تلوث المنظر وانتشار الروائح النتنة”.

بعد أن ازداد التلوث في النهر مهددًا الحياة في القرى حوله، عمدت الدولة إلى إنشاء محطات تكرير لمياه الليطاني. كان ذلك حلًا بديلًا عن معالجة أسباب التلوث وجذورها. إذ أُنشئت 10 محطات معالجة في الحوض الأعلى، و16 في الحوض الأدنى، بحسب المصلحة الوطنية لنهر الليطاني. رغم أن هذا الحل أمّن وصول المياه النظيفة إلى البيوت، إلا أن الحكومة لم تحل بذلك مشكلة غياب الأماكن العامة، أو أماكن تتيح للنساء أن تتجمع بها.

تخبرنا سحر كريم، إحدى سكان منطقة حوض الليطاني، عن تجربة نساء عائلتها في هذا الخصوص. “المياه التي تصل إلى بيوتنا مكررة، لكن طبعًا لا يمكننا الجلوس على النهر، لأن مياهه ملوثة بالصرف الصحي. والأسماك في النهر ماتت، بسبب المواد السامة”.

منح وقروض بقيمة 510 مليون دولار… أين ذهبت؟

حتى اليوم، ما زال النهر ملوثًا بسبب غياب التمويل. إذ قدّرت الدولة أنها تحتاج 750 مليون دولار لتنظيف النهر سنة 2016. بينما لم يتوفر سوى 50 مليون. 

يعتبر كمال سليم أن “لبنان يحتاج الى أكثر من 100 محطة تكرير، منها الصغيرة والمتوسطة والكبيرة. وفي الكثير من المناطق، يوجد محطات، لكن لا يوجد تمديدات لإيصال مياه المجاري إلى المحطة. وذلك لأن وزارة التصميم في السبعينات سمحت بإعطاء التراخيص مؤقتًا لمحطات التكرير، فأُنشئت محطات التكرير بلا إنشاء التمديدات”.

يضيف سليم أن “المسؤول الأول عن موضوع معالجة المياه هو مجلس الإنماء والإعمار الذي يتحجج دائمًا بغياب القروض.  فيبرر بذلك غياب تقدم ملف تلوث الليطاني منذ عشرين عامًا”. 

لكن الأرقام التي حصلت عليها “مؤسسة غربال” تشير إلى أن “مجلس الإنماء والإعمار حصل على قروض ومنح بمجموع 1.7 مليار دولار من سنة 2000 حتى 2022. منها قروض ومنح تفوق الـ412 مليون دولار، حصل عليها لإنجاز مشاريع متعلقة بالليطاني. آخرها منحتان حصل عليهما المجلس من الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي سنة 2020، بقيمة تفوق الـ117 مليون دولار. وذلك لتمويل إنشاء مرافق الصرف الصحي في مناطق حوض الليطاني”. 

وبحسب “غربال”، “يبلغ مجموع القروض والمنح التي حصلت عليها عدة إدارات ومؤسسات في الدولة اللبنانية لإنجاز مشاريع مرتبطة بالليطاني أكثر من 510 مليون دولار. وتوزعت هذه الاموال على كل من مجلس الإنماء والإعمار، والمديرية العامة لرئاسة مجلس الوزراء، والمصلحة الوطنية لنهر الليطاني التابعة لوزارة الطاقة والمياه”.

كتابة: نورهان شرف الدين

أُنتج هذا التقرير بالتعاون مع المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية DRI، ضمن مشروع الأصوات المستقلّة: دعم صناعة المحتوى المبتكر والمتمحور حول المواطنين والمواطنات في الإعلام اللبناني.

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد