صورتي التي أحببتها!

أحب الألوان الزاهية تعطيني شعورًا قويًا مفعمًا بالشغف والرغبة بالمضي قدماً. أتذكر أنني في العشرينات كتبت مقالة عن فستان أحمر أحببته جداً على واجهة المحل واشتريته. لطالما أحببت اللون الأحمر. وبسبب ذلك المثل السخيف المتنمر “لبس الأسمر أحمر وتضحك عليه”، كنت أخاف منه.

لكنني تجرأت بعد أن سمعت عبارة أعجبتني “لبس الأسمر أحمر واتغزل فيه”. شعرت أنني حققت انجازًا، عندما ارتديته. وكان شعور الرضى مسيطرًا على المشهد حينها.

لماذا بدأت مقالي عن الفستان؟ لأنني شابة سورية ومنذ 2011 مع بدء الحراك الثوري وانضمامي له وبعد الوحشية التي قوبل بها هذا الحراك وفقداني أخي برصاصة قناص وتهجيري قسرياً من منزلي، لم أرغب بالاحتفال الحقيقي. وبالنسبة لي سابقاً، أن أحتفل بأي مناسبة هو أن أشتري فستانًا مميزًا. لذلك، مرت الكثير من المناسبات الجميلة في حياتي دون أن أعيرها أي اهتمام، كنت مشغولة بمحاولات النجاة.

النجاة من الحرب والحب والاختيارات الخاطئة وانقطاع النفس والبحث عن سبيل للخروج من حفرة الفشل والصعود نحو النجاح. كل هذه حالت دون شعوري بالاستقرار. وفي كل سنة من تلك السنوات الطويلة، كان مفهوم الاستقرار يتغير بتغير واقعي وظروفي وأفكاري. كل هذه مجتمعة بالإضافة إلى الحرب، التي حرمتني أجمل سنوات عمري.

الآن، أنا في منتصف الثلاثين. مرت عليّ أعوام كثيرة، وفي كل عام مئة جرح واعتقال وموت وفرح وولادة وصديقة تذهب وأخرى تبقى. في كل عام، نزوح ولجوء ومحطات أقف عندها من هول الصدمة. أقرباء وغرباء ينصبون أنفسهم/ن أوصياء/وصيّات. لا حب يطفو في زمن الحرب. خيارات محدودة وإرادة مسلوبة في كثير من الأوقات. ضغوطات لا تعد ولا تحصى.

أسأل نفسي لماذا تجعلنا هذه الثقافة نعيش الحياة كأننا لسنا جزءًا منها؟

أكره وصايتهم/ن

في الحقيقة، أنا تغيرت كثيرًا. لم أعد كما كنت في السابق قادرة على مجاملة الآخرين/ات في آرائهم/ن حول شخصيتي ولبسي وأفكاري. لا أستطيع التساهل مع فرض السيطرة والوصاية على حياتي، بحجة أنهم/ن يبحثون/ن عن مصلحتي. كيف لهم/ن أن يعرفوا/ن مصلحتي أكثر مني؟ ما أحب وما أكره، ما أنا قادرة على فعله أو غير قادرة!

قبل أيام، شاركت صورتي بفستان أسود جميل. أحببت الصورة جدًا وعنت لي الكثير. عندما رأيتها وتمعنت بملامح وجهي فيها، مر أمامي شريط حياتي كاملًا بكل تحدياتها. رأيت في هذه الصورة قوتي وثباتي، وكل الظروف القاسية التي تجاوزتها والمواجهات التي أجبرت عليها، والمعارك التي خضتها والهزائم التي اخترتها. أدركت أنني تجاوزت أمورًا لم أعتقد أنني قادرة على تحمّلها أو تجاوزها.

ربما لن أتمكن من الحديث عن كل التجارب القاسية التي عشتها في حياتي. ولكن هذه الصورة جعلتني أشعر بالامتنان للمرأة القوية التي جابهت المجتمع وأحكامه المسبقة المتجردة من الرحمة والمنطق وأفكاره النمطية تجاه النساء. أدركت أنني لم أعد ضحية، وصدقوني فعلت الكثير، كيلا أبقى ضحية مدى الحياة.

ربما تشعرن/ون بهذا المقال أن هناك أمورًا مبهمة. نعم؛ هناك الكثير من الأشياء لا أرغب بالحديث عنها، لأنني حفرت لها حفرة عميقة في أعماق ذاكرتي وقلبي ودفنتها فيها. علّها تتحلل مع الأيام والذكريات الجديدة والجديدة والجديدة. هكذا حتى يأتي يوم وتتلاشى كليًا من ذاكرتي العميقة، ويتلاشى ألمها ويُمحى جرحها كأنه لم يكن يومًا ما.

لا أستطيع منع نفسي من التفكير بقصص النساء اللواتي تجمعني بهن ذكريات. بنات عمي وبنات خالاتي وأخوالي، وجاراتي وصديقاتي. كلهن كن يحكين لي عن أحلامهن في حياتهن. كثير منها بسيطة.

رغم كل هذه القوة التي شعرت بها، إلا أن مشاركة هذه الصورة كلفتني يومًا كاملًا مليئًا بالمعارك التي لم أرغب بها. عشت حالة من خيبة الأمل، وصدمتني بقدرة الآخرين/ات على فرض وصايتهم/ن وسيطرتهم/ن. أو بالأحرى، أن البعض ممَن هم/ن حولنا لا يقدمن/ون لنا إلا وصايتهم/ن، لأنهم/ن غير قادرين/ات على محبتنا كما نحن، ولا يعنيهم/ن الاهتمام بنا. فإما أن نكون ضمن السواد الأعظم “نُشبههم/ن”، أو سيقلبن/ون حياتنا لجحيم، أو يمارسن/ون علينا الابتزاز العاطفي!

بالنسبة لهم، كانت الصورة غير مناسبة، رغم أنها لم تظهر أجزاء من جسدي باستثناء ذراعي فقط. وصلتني رسالة من قريبة كتبت لي: “ياحيف لهون وصلتي.. إذا إيديكي مبينة شو خليتي لكان”. أعطتني درساً بالحشمة وأهمية مراعاة مظهر العائلة والأقارب من خلال لبسي وصوري على السوشيال ميديا.

لم يكن الشعور سهلاً. قبل أشهر، لم أكن أتقبل هذه الردود وكنت حريصة على إخراج أي شخص من حياتي حاول/ت فرض وصاية والتحكم في خيارتي بالحياة. ولكنني الآن لست غاضبة كالسابق. فأنا أحاول البحث عن تكتيكات أستطيع من خلالها إحداث تغيير من دون أن أجبر نفسي على المواجهة بشكل دائم. في المرحلة الحالية، لا أملك طاقة كافية للمواجهات.

لذلك، قررت حذف الصورة من السوشيال ميديا، لأنني منذ مدة طويلة أخذت عهدًا على نفسي باختيار معاركي. وبالتأكيد، ليست هذه المعركة التي أود خوضها الآن. حذفت الصورة، ولم أتوقف عن التفكير بالأدوات الجديدة التي يجب عليّ من خلالها مجابهة مَن يحاولن/ون سلب إرادتي وخياراتي منّي، بحجة واهية غير منطقة وغير محقة.

أن تستأذني لتحبي نفسك!

أكتب وأنا أتذكر محطاتي التي عبرتها وكل النساء اللواتي عرفتهن. كلهن، جميعهن دون استثناء، كن مجبرات على أخذ الموافقة والإذن ليحصلن على شيء أحببنه. قلم حمرة أو فستان أو رغبة بإكمال التعليم أو السفر أو العمل أو الزواج من رجل أحببنه. الانضمام للصديقات في مشوار أو عيد ميلاد أو زيارة الأهل بعد الزواج. وغيرها الكثير زادت أو قلت أولويته.

في أحد الأيام عندما كنت أدرس في الجامعة، خرجت وأنا أضع القليل من الكحل. عندما اكتشفت أمي ذلك، سارعت لتأليب أخي ضدي. كان سيمنعني من الذهاب للمحاضرة، لولا تدخّل والدي في الوقت المناسب. لا أقصد هنا أن ألوم أمي. فهي تعتقد أنها تفعل ما هو في مصلحتي، ما أمرها الله بفعله حتى تذهب إليه بسلام. هكذا أجابتني، عندما صارحتها بعد سنوات طويلة على المواقف التي انحفرت في ذاكرتي وأرهقتني.

ابنة عمي أحبَّت شابًا وسيماً وبادلها الحب وتقدم لخطبتها، رفضوه. حاول مرارًا وكما يُقال “دخل وجاهات العشيرة وباس الأيادي مشانها”. رفضوه، ليس لعيب فيه أو بعائلته، ولكنهم لم يتوقعوا أن تحب أختهم هكذا.

الآن، تكابد تلك المرأة وحدها في المحاكم للحصول على الطلاق من الرجل الذي زوجوها إياه. قام بضربها وإيذائها وجعلها تكره نفسها، حتى أنها لم تستطع أن ترفع دعوى الطلاق إلا بعد أن أخذت موافقة إخوتها وأعمامها. يا لسخافة هذه الحياة.. يجب أن نستأذن لننجو!

روان، تلك الفتاة التي تعرّفت عليها أثناء كتابتي مادة صحفية حول الأمهات والاعتقال والاختفاء القسري، أخبرتني أنها تزوجت ابن عمها عندما كان عمرها 18 سنة، واعتقل بعد زواجهما بشهرين عام 2011. فقدَ كل أفراد عائلتها الأمل من عودته، إلا أنهم حتى اللحظة منعوها من المضي بحياتها، خوفًا من ردة فعل المجتمع. حتى يرضى المجتمع، فقدت روان سنوات من عمرها، ضاعت فيها أحلامها وآمالها.

لا أستطيع منع نفسي من التفكير بقصص النساء اللواتي تجمعني بهن ذكريات. بنات عمي وبنات خالاتي وأخوالي، وجاراتي وصديقاتي. كلهن كن يحكين لي عن أحلامهن في حياتهن. كثير منها بسيطة.

أسأل نفسي لماذا تجعلنا هذه الثقافة نعيش الحياة كأننا لسنا جزءًا منها؟

في هذه الحياة المليئة بالأحلام والرغبات التي ربما لن تتحقق، نبقى عالقات في الأعماق المظلمة مجبرات غير مخيرات. نحاول البحث عن لحظات أقل تشويشًا، نعانق فيها محبة حقيقة بعيدة عن فرض السيطرة والوصاية.

سأخبركم/ن بأمر. سأقوم بمشاركة هذه الصورة تحديداً في وقت لاحق. سأختار الوقت المناسب لمشاركتها ومشاركة الكثير من الصور واللحظات والقضايا والهموم والنجاحات التي أحبها. سأبقى مثلما أنا، مع القليل من المرونة وقت الحاجة. فلا أنكر أنني ابنة هذه المجتمعات المليئة بالتحفظات والعقد والحسابات. ولكنني تمكنت من النجاة، نوعاً ما. ولعلّ البقية يفعلن/ون ذلك أيضًا. 

كتابة: آلاء محمد

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد