وفيات الأمهات في لبنان.. بين صعوبة الوصول لخدمات الرعاية الإنجابية وحصار القانون

يعرّف مصطلح وفيات الأمهات، بحسب منظمة الصحة العالمية، على أنه وفاة المرأة أثناء الحمل أو خلال فترة النفاس – تقريبًا 42 يومًا بعد الولادة، بغض النظر عن مدة أو موقع الحمل. وذلك لأي سبب عارض يزيد من مضاعفات الحمل أو إدارته.

وبحسب المنظمة، هناك الوفيات التوليدية المباشرة. وتحدث نتيجة مضاعفات ناتجة عن الحمل، مثل النزيف أو ارتفاع ضغط الدم، أو مضاعفات التخدير والولادة القيصرية. أما الوفيات التوليدية غير المباشرة، فهي التي تنتج عن تفاقم أمراض سابقة بسبب الحمل، مثل أمراض القلب أو الكلى.

” لا زيادة لأخصصها لذلك. والغلاء المعيشي إلى ارتفاع وهناك أولويات لعائلتي وأطفالي أهم. فالطبابة صعبة في لبنان لمن وضعو على قدّو”.

أرقام وإحصائيّات

بحسب إحصائيات وزارة الصحة اللبنانية حول أعداد وفيات الأمهات في لبنان، سجلت 4 حالات وفاة لأمهات لبنانيّات، و15 حالة وفاة لأمهات من الجنسية السوريّة في العام 2019. أما في 2020، فقد انخفضت حالات الوفيات إلى 9 حالات وفاة من الجنسية اللبنانية و9 حالات وفاة من الجنسية السورية. لترتفع في العام 2021 إلى 23 حالة وفاة لأمهات من الجنسية اللبنانية، و22 حالة وفاة لأمهات من الجنسية السورية.

خلال فترة جائحة كوفيد 19 ومتحور دلتا – وهو من أخطر المتحورات على صحة النساء والنساء الحوامل- ارتفع عدد الوفيات في كل دول العالم ومنها لبنان، وخصوصًا في ظل تدني معدلات اللقاحات الواقية من كوفيد 19 في ذلك الوقت.

في عام 2022، هناك انخفاض ملحوظ في عدد وفيات الأمهات المسجّلة. إذ سجلت 8 حالات وفاة أمهات لبنانيات و10 وفاة من الأمهات السوريات. في عام 2023، لم يتغير عدد وفيات الأمهات اللبنانيات عن العام السابق. لكن ارتفع عدد حالات وفيات الأمهات السوريات ارتفاعاً ملحوظًا إلى 16 حالة وفاة. وهذه هي الحالات التي تم التبليغ عنها فقط.

تؤكد رئيسة دائرة الإحصاءات الصحية والحيوية في وزارة الصحة اللبنانية، هيلدا حرب، أنه وبسبب الأزمة الاقتصادية التي يعيشها اللبنانيون/ات وعدم القدرة على تغطية تكاليف الولادة، يصعب تحديد عدد حالات وفيات الأمهات. وذلك خصوصًا اللواتي من غير الجنسية اللبنانية، بسبب التوليد خارج القطاع الصحي وخارج المستشفيات. هذا بالإضافة إلى تخفيض تغطية نفقات الولادة من الجهات المعنية بشؤون اللاجئات السوريات.

الأزمة الاقتصادية تفاقم معاناة النساء الحوامل

علياء (اسم مستعار)، 34 عامًا وأم لطفلين. تجسّد قصة علياء مدى صعوبة حصول النساء على خدمات الرعاية الإنجابية. وذلك بسبب الوضع الاقتصادي الصعب والظروف المادية القاسية التي تدفع بهن إلى وضع صحتهن في خانة ثانوية من أجل أساسيات الحياة.

في بداية الحمل الأول لعلياء، طلبت منها الطبيبة أن تقوم بزيارتها شهريًّا من أجل متابعة صحتّها. ولكن بسبب ظروفها الماديّة الصعبة، لم تستطع علياء القيام بذلك. فلجأت إلى تقليص زيارتها إلى ثلاث مرات فقط: بداية الحمل، منتصفه والزيارة الأخيرة لتحديد موعد الولادة. كما أنها لم تجرِ فحوصات دوريّة لمتابعة صحتّها أثناء الحمل.

وتجدر الإشارة إلى أنه، بحسب توصيات منظمة الصحة العالمية، يتعين على الحوامل الاتصال بالطبيب ثمان مرات خلال الحمل. تقول علياء: “كنت أؤجل زيارة الطبيبة، لأن هناك أساسيات ومتطلبات أخرى تُفرض علينا كل شهر. فأقوم بإعطاء الأولوية لتلك المتطلبات، لأن مدخولنا المادي قليل”.

بعد ارتفاع سعر صرف الدولار والغلاء المعيشي، أصبح الحمل الثاني على علياء أصعب. فكان من المفترض أن تحصل على علاجات ومقويات لها أثناء الحمل، بالإضافة إلى التغذية المناسبة. لكن لم يتوفر لها ذلك، ما انعكس على صحتها سلبًا. واليوم تعيش الآثار المترتبة عن ذلك، من نقص كالسيوم وحديد وضرر في أسنانها وآلام مستمرة في العظام والظهر.

الولادة الأخيرة لعلياء كانت ولادة طبيعية. وبالرغم من ذلك، لم تحصل على “إبرة الظهر”، بسبب سعرها المرتفع وعدم قدرتها على تأمين المبلغ .

لم تراجع علياء طبيبتها منذ ثلاث سنوات لأنه: “لا زيادة لأخصصها لذلك. والغلاء المعيشي إلى ارتفاع وهناك أولويات لعائلتي وأطفالي أهم. فالطبابة صعبة في لبنان لمن وضعو على قدّو”.

يقول الدكتور فيصل القاق، منسق اللجنة الوطنية للأمومة المأمونة في لبنان، أن الأسباب المادية تُعيق وصول النساء إلى خدمات الرعاية الصحية الإنجابية. كما تدفع بهن إلى خفض عدد زياراتهن للأطباء/الطبيبات. وهو ما يرفع من نسبة الخطر على صحة المرأة الحامل، لتأخّر التشخيص إذا ما كان هناك مشكلة صحية من بداية الحمل. وقد يؤدي إلى مخاطر جسيمة تصل إلى الوفاة.

تأمين الدواء “ترف” عند اللاجئات السوريّات

أم وليد، 29 سنة لاجئة سورية، يعاني زوجها من ظروف صحية صعبة، ولا تتلقى العائلة مساعدة من المفوضية السامية لشؤون اللاجئين/ات في لبنان لمعالجة الزوج. وبالتالي، تبقى صحة الأم في مرتبة ثانوية من الأولويات، بسبب الاعتقاد الأبوي أن صحة النساء غير ذات أولوية مقارنةً بالأزواج والعائلة. 

خلال حملها، زارت أم وليد الطبيبة فقط ثلاث مرات، أجرت خلالها فحوصات عامة لمرة واحدة فقط بداية فترة حملها. وقد حصلت على علبة مكملات الحديد، بالإضافة إلى علبة واحدة من الماغنسيوم.

تعاني أم وليد من نقص في الحديد منذ بداية فترة حملها. وهذا ما أثّر على صحتها بانعكاسات سلبية، مثل الدوّار والغياب عن الوعي. وهي أعراض ما زالت مستمرة إلى اليوم منذ بداية حملها، بالإضافة إلى أوجاع في العظام والظهر.

بين الأزمة الاقتصادية وصعوبة وصول النساء الحوامل إلى خدمات الرعاية الإنجابية، وبين اللجوء والقانون، تبقى حيوات النساء معرّضة للخطر.

أسباب وفيات الأمهات

من المفترض أنه خلال فترة التخطيط للحمل وخلال الحمل أن تتابع النساء الحوامل طبيب/ة معالج/ة. وذلك خصوصًا إذا كان هناك تاريخ سابق لأمراض صحية مثل الضغط، السكري، مشاكل في الغدة الدرقية وغيرها. ولكن تعاني نساء كثيرات من صعوبة في الوصول للفحص الطبي، بسبب الأوضاع المادية، وأحيانًا بسبب النقص في التوعية.

بحسب الطبيبة خولا الشيخ علي، المتخصصّة في الجراحة النسائيّة والتوليد، في فترة الأشهر الثلاثة الأولى من الحمل، قد يتسبب الحمل خارج الرحم في نزيفٍ إذا ما تمّ تشخيصه مبكرًا. ومن الممكن أن يؤدّي النزيف إلى وفاة الأم، إذا ما تم الوصول للعلاج المناسب.

في الثلث الثاني من الحمل، يعدّ تسمم الحمل، الذي يؤدي إلى ارتفاع ضغط الدم وظهور مشاكل في الدم، من الأسباب المؤدية أيضًا إلى وفيات الأمهات. بالإضافة إلى مرض السكري أو أي مرض مزمن، إذا ما تمت مراقبة الوضع الصحي للحامل.

وفي الأشهر الأخيرة من الحمل، تسبّب مشاكل الخلاص والتصاق الخلاص بالرحم عوارض صحية تؤدي إلى الوفاة، إذا ما تمت المعالجة الصحيحة.

حياة النساء ما بين القانون والحق في الإجهاض الآمن

تقول ريم (اسم مستعار) 32 عامًا: “علمت أنني حامل بعد طلاقي بشهر، وكان الحمل في بدايته. زرت طبيبة في مستوصف، فأخبرتني أنها لن تقدر على إجراء إجهاض لي، وأن أدوية الإجهاض ممنوعة في الصيدليات بقرار من وزارة الصحة.

زرت طبيبًا آخرًا، فرفض أيضاً إجراء الإجهاض ونصحني بالتوجّه للسوق السوداء للحصول على الدواء، أو أن ألجأ لصيدلية وأعطي صاحبها رشوة مقابل الحصول على الدواء. لكنني رفضت”. حاولت ريم الحصول على الدواء من سوريا.

بالرغم من تجريم الإجهاض في سوريا، إلا أن أسعار الأدوية هناك أرخص مقارنة بلبنان. تراجعت ريم عن هذه الخطوة بعد نصيحة المقربات منها بعدم فعل ذلك، لأن الأدوية المستوردة من سوريا والمخصصة للإجهاض قد تنعكس على صحتها بشكل خطير بسبب “جودتها”. وهو ما قد يؤدي إلى نزيف حاد أو الوفاة أو فشل الإجهاض.

لجأت ريم إلى جمعيات في لبنان تقدّم المساعدات المتعلقة بالصحة الإنجابية للنساء. أكدت لها إحدى الجمعيات قرار وزارة الصحة بمنع بيع أدوية الإجهاض. إلا أنه أخيرًا قدمت الجمعية المساعدة لريم، وأمّنت لها الدواء عن طريق إحدى النساء التي حصلت عليه من خارج لبنان. 

بحسب القاق، “يعتبر الإجهاض غير الآمن مسؤول عن نسبة عالية من وفيات الأمهات. فهو يشكّل ربع أسباب وفيّات الأمهات في العالم. ويرتفع هذا الرقم في البلدان التي تجرّم الإجهاض”. فعندما يُجرى الإجهاض في بيئة غير آمنة يزيد من الخطر على صحّة النساء. وذلك بسبب مضاعفات تتعلق بعملية الإجهاض من التهابات وتسمم بالدم ومضاعفات نفسية.

تعاقب المادة 541 من قانون العقوبات اللبناني المرأة بالحبس من 6 أشهر إلى 3 سنوات، إذا ما أنهَت حملها قبل الولادة برضاها، بوسائل تستخدمها هي أو يستخدمها غيرها مساعدًا إيّاها على بلوغ غايتها. ولا يُعتبر الإجهاض جرمًا، إذا ما سقط الجنين وحده لأسباب خارجة عن إرادة الحامل.

كما تعاقب المادة 542 بالسجن من سنة إلى 3 سنوات لكل من يُقدم بأي وسيلة على إجهاض امرأة برضاها. أما إذا أدى الإجهاض إلى موت الحامل، فيُعاقب مجهضها بالأشغال الشاقة من 4 إلى 7 سنوات. 

إجراءات متابعة وفيات الأمهات

يصدر تقرير سنوي رسمي حول وفيات الأمهات في لبنان. تتبع وزارة الصحة والجهات المعنية في القطاع الصحي آلية محددة لمتابعة حالات وفيات الأمهات. يتم الإبلاغ عن أي حالة وفاة تحدث في أي مستشفى. ووفق الإبلاغ، يقوم أطباء/طبيبات من فريق متخصص بالتوليد والجراحة النسائية بتقييم الحالة وأسباب الوفاة من وجهة نظر طبية وسريرية. ثم تتم مناقشة كل حالة على حدى، وصولًا لوضع توصيات ناتجة عن هذا النقاش لتفادي حدوث حالات مشابهة.

يشير القاق إلى أنه يجب أن يتم التركيز على تعزيز الوصول لخدمات الرعاية الصحية من بداية الحمل، وسهولة الوصول لمراكز الرعاية الأوليّة – فهي شبه مجانيّة. ويؤكد أن: “هناك تحسنّ في هذه المراكز. إذ تبذل وزارة الصحة مجهودًا لتعزيز شبكة الرعاية الأوليّة في هذا الإطار، بالإضافة إلى أهميّة زيادة التوعية. كما يجب العمل على سلّة متكاملة للتخطيط للحمل ورعاية ما قبل الحمل والمباعدة بين الحمل.

هذا بالإضافة إلى وجوب وجود فرز رئيسي للحوامل بمختلف حالاتهن الصحية والطبية، واستكمال آلية التقييم وإحصاء عدد الحالات. وذلك لأنه بالإمكان تقليل عدد حالات الوفيات عما هي عليه اليوم، بتصنيف كل حمل بخصوصيّته في المكان المناسب لعلاجه”.

وأضاف: “ما يحدث اليوم أن حالات الحمل ليست في المكان الصحيح من حيث الرعاية. وبالتالي، إذا ما قدرنا على تقييم حالة المرأة الحامل والمركز المخصّص لها للمتابعة، يمكن لنا تخفيض حالات الوفيّات أكثر”.

كما تؤكّد هيلدا حرب على أهمية زيارة ومتابعة النساء الحوامل لمراكز الرعاية الصحيّة. تقول: “من المفترض أن تكون زيارة المرأة الحامل لمراكز الرعاية الصحية ضمن برامج الأمومة المأمونة ما يقارب أربعة زيارات لمتابعة حملها وصحتها. أما بالنسبة للنساء اللواتي لا يملكن تغطية صحية، تغطي وزارة الصحة التكاليف المترتبة عن ذلك”.

بحسب حرب، تركز وزارة الصحة على عامل الوقاية وتؤمّن تدريبات للعاملين/ات في القطاع الصحي المعنيين/ات بقسم الولادة وخدماتها. لكن في الآونة الأخيرة وبسبب الأزمة الاقتصادية التي يمر بها لبنان ومقارنة بارتفاع سعر الدولار، تعدّ تغطية التكلفة التي تؤمنها وزراة الصحة هي «الحدّ الأدنى». وهذه من الصعوبات التي تواجهها النساء الحوامل، ما يدفعهن إلى الولادة خارج القطاع الصحي، خاصة اللاجئات السوريات.

بين الأزمة الاقتصادية وصعوبة وصول النساء الحوامل إلى خدمات الرعاية الإنجابية، وبين اللجوء والقانون، تبقى حيوات النساء معرّضة للخطر. وفي ظل الأوضاع الاقتصادية المتدهورة والقيود القانونية المفروضة، تبقى حيوات الأمهات في لبنان، سواء من اللبنانيات أو السوريات، مهدّدة.

فالصعوبة المتزايدة في الوصول إلى خدمات الرعاية الصحية الإنجابية ترفع من العوارض الصحية السلبية المهددة لصحة النساء. وعند غير القادرات على الوصول إلى الخدمات الصحية، قد نرى ارتفاع  معدلات وفيات الأمهات. تحاول الجهات المعنية تقليل عدد وفيات الأمهات في لبنان، لكن في ظلّ الأزمة الاقتصادية واللجوء والقوانين المجحفة، خصوصًا قانون تجريم الإجهاض، تبقى حياة النساء في خطر. 

تحقيق: غوى كنعان

“أُنتج هذا التقرير بالتعاون مع المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية DRI، ضمن مشروع الأصوات المستقلّة: دعم صناعة المحتوى المبتكر والمتمحور حول المواطنين والمواطنات في الإعلام اللبناني”.

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد