النساء في ريف مصر.. عمل بدون أجر مقابل “اللقمة”

تعاني النساء في الريف المصري على عدة أصعدة. فبسبب بعدهن عن العاصمة، يتعرضن للتهميش بسبب الموقع الجغرافي والنوع الاجتماعي والطبقة.

تتآلف هذه العوامل لتشكّل تجارب حياتية لهؤلاء النساء، يفتقدن فيها أولًا حق عيش حياة كريمة لا يتم ابتزازهن فيها أو استغلال قوة عملهن. حيث أن الغالبية العظمى من العائلات الريفية تعتمد على عمالة النساء غير مدفوعة الأجر داخل الأسرة. كما يتم اعتبار عملهن “واجبًا” عليهن تجاه أفراد العائلة، سواء كان السبب أنهن المعيلات لها، أو يساهم عملهن في تراكم ثروة العائلة.

نشأة تُجرِّد النساء من الحقوق

يتم ابتزاز النساء وتبرمج عقولهن منذ الصغر بأن عدم تقاضيهن أجور أمر “طبيعي”. فهى تساعد أفراد أسرتها ولا يحق لها المطالبة بأي حقوق، وإلا تعرّضت للوصم والعنف. فيتم استغلالهن ليكبر رأس مال العائلة دون مقابل.

وبعد يأسهن من الحصول على حقوق أو حتى اعتراف بأهمية عملهن اقتصاديًا واجتماعيًا للأسرة، يستسلمن. يصبحن بعقليات أمهاتهن اللواتى تعرضن لنفس العنف الاقتصادي، ويتم تجنيدهن فزْاعات لمَن تسوّل لها نفسها المطالبة بحقوق. 

تقول سمية، 36 سنة: “مش بشتغل. بسرح كل يوم مع جوزى من 7 الصبح للمغرب. أأكل البهايم وأفلح في الأرض. مباخدش حاجة في شغل الأرض، ده لبيتي. بنتي لما تتجوز، تشتغل من غير مقابل. هقولها زي ما أنا بعمل، تعملي. زي ما أنا بشقى، تعمل زيي”.

تكبر الفتيات على أن العمل دون أجر هو شكل من أشكال الحب غير المشروط الذى يقدمنه للعائلة، كسبًا للرضا أو تجنبًا للعنف. ومن المحزن أننا لا نستطيع تقدير نسبة عملهن، لعدم اعتراف القوانين به. تقول أ، 24 سنة: “بشتغل في الدار. بقوم الصبح أكنس الزريبة، وأحلب البهايم وأراعي الطيور. بعمل شغل البيت مقابل أنهم يعاملوني حلو”.

وتقول بدرية، 42 سنة من الدروية: “بروح الغيط مع جوزى. بجمع خضار وأشق معاه فى الغيط، وبساعده فى الري. بشتغل لحد المغرب، وأنا اللى بعمل شغل البيت لوحدي”.

غالبًا لا تستطيع النساء التعبير عن الشعور بالظلم و رفض الاستغلال. وبالتالي، ينعكس الظلم والتمييز داخل المجال الخاص (العائلة)، على المجال العام (العمل خارج نطاق الأسرة). فيرضين بأقل أجر لا يناسب تعبهن ومجهودهن، ولا يستطعن طلب حقوقهن.

تقول هالة: “بشتغل فى الغيط باليومية، وجوزي مبيشتغلش، ومعنديش تأمين. كان فيه واحد جايب لي بقرة بحلبها. وفجأة، باعها من غير ما يقولي”.

النساء أكثر عرضة للعنف الاقتصادي والإفقار

60% من المُفقرات/ين داخل مصر يعيشن/ون في المناطق الريفية، وتمثل النساء 30% من إجمالي المُفقرات/ين. حيث هناك 3.4 مليون امرأة يمثلن قوة عمل النساء فى الريف، منهن 42.8% يعملن فى القطاع الزراعي و62.6% يعملن داخل الأسرة في الصناعة اليدوية والتجارة دون أجرٍ. ونتيجة لافتقار النساء فرص التعليم وتنمية الوعي بفعل التهميش والتمييز وعدم امتلاكهن للأراضي الزراعية، يتم استغلالهن اقتصاديًا. 

تقول حنان، 60 سنة من الدروية: “إحنا فلاحين بنشتغل في أرض أخويا. إحنا ما بناخدوش حاجة. لما بعوز حاجة لنفسي بجيبها من الأرض”، (أي من المحصول).

وتقول خالدة، 28 عامًا من بني هلال: “بساعد حماتي وجوزها في بيع الخضار، ومش باخد مرتب. بس هى بتأكلنا وتشربنا. أنا قاعدة معاها بعمل شغل البيت. بنزل من 9 وأروح العصر أعمل الغدا، وأنزل أساعدها. واللى عيالي عايزينه هي بتجيبه”.

وتقول منى، من إفلاقة وتعمل مع زوجها فى تجارة الفاكهة: “أنا طول النهار قاعدة تعبانة. أروح أنام شوية وأقوم 5 الفجر أعمل الطبيخ والخبيز وأفضل قاعدة فى التجارة. بنقسم المكسب بالنص، وساعات أنا أكتر شوية، لأني بصرف على البيت والعيال وعيالهم”.

يعتبر اقتسام زوج منى المكسب معها استثناءً لقاعدة شعور الرجال بأن بعض العمل اليومي لا يتناسب مع مفهوم الرجولة. ويكون ذلك بسبب الاعتقاد الأبوي أن الرجال يجب أن يمتهنوا وظائف ذات أجورٍ مرتفعة مقارنةً بالنساء. ويترتب على ذلك أن بعضهم يقررون الامتناع عن العمل كليةً والاعتماد على الزوجة ماليًا.

هذا رغم أن هناك وصمة أبوية ذكورية في الاعتماد المالي على الزوجة، إلا أنها ليست بقوة وصمة العمل في مهنة ذات أجرٍ زهيد. وذلك نظرًا لأن في الحالة الأولى لا يخرج الرجال من المنزل، فيتجنبون الوصم ويعتمدون على أنه شأنٌ خاصٌ بالأسرة. أما في الحالة الثانية، فهم يخرجون إلى العمل خارج المنزل ويشاهدهم آخرين/أخريات يعملون في مهام يعتبرها الجميع نسائية لأن أجورها منخفضة. هذا الفرق الجندري يُضاعف أعباء النساء في العمل خارج المنزل وداخله في أعمال الرعاية.

تقول ميادة، 47 عامًا من عزبة الجرن: “جوزي قاعد في البيت. مكسوف يطلع معايا السوق. ولما بروح بشتغل في البيت بخبز وبغسل. هو ساعات بيشتغل وبساعده في شغله وبيستنانى لما بروح أأكله”.

من جانبها ترى مي صالح، استشارية النوع الاجتماعي والاقتصاد النسوي، أن كل الأعمال التي تقوم بها النساء دون أجر لها أثر في الدخل القومي. وتعتبر مصر من أواخر الدول عالميًا في مؤشر المساواة الجندرية من حيث المشاركة الاقتصادية للنساء.

فتحتاج النساء إلى رفع وعيهن من أجل تغيير موازين القوى المتعلقة بفهم المشاركة الاقتصادية. وذلك فيما يتعلق بالذمة المالية المنفصلة لعملهن، و أهمية عملهن مع بعضهن داخل الاقتصاد التضامني والتعاوني. حيث هناك محاسبة مالية، وهذه المسؤولية تغير من فكر النساء حول حقوقهن وواجباتهن.

لذلك، على جمعية تنمية المرأة الريفية وجمعيات صغار المزارعات رفع وعي النساء بحقوقهن، خصوصًا مسألة الأصول والملكية. كما يجب على جمعيات الإقراض المتابعة المباشرة لكيفية إدارة المرأة بنفسها للمشروعات، بدلًا من استحواذ أحد رجال العائلة على القرض و/أو المشروع. فحينما تعتاد النساء إدارة الماليات، يطالبن بأجر عن العمل، حتى لو داخل الأسرة.

تقول عليّة، 60 سنة من ديمتيوه بائعة خضار: “كل اللي أنا عايزاه إن يكون لي معاش”.

صحة النساء ليست ضمن أولويات الأسر وصانعي السياسات

تقع النساء ضحايا العمل دون أجر. إذ عادةً لا يجرؤن على طلب إجراء فحوصات طبية من العائلة أو صاحب العمل، في حال مرضهن. فتتحول أمراضهن العَرَضية إلى مزمنة، علاوة على أنهن مَن يُدبرن أمر رعاية أنفسهن وعلاجهن.

تقول عديلة، 60 سنة من كوم القناطر: “إحنا فلاحين، بنشتغل في البيت وفي غيط أخويا. هناخد مرتب من أهلنا؟ أنا بعالج نفسي بنفسي. ماحدش بيعالجني. سناني متخلّعة ومش عارفة أعالجها”.

نظرًا لاستثناء العاملات اليوميات من قوانين العمل في مصر، لا يوجد تأمين صحّي يسمح لهن بالعلاج مجانًا على نفقة الدولة. وبالنسبة للدولة، هن “غير عاملات”، لأنهن إما يعملن داخل الأسرة، أو لكونهن عمالة غير منتظمة ولا تتبع نقابة أو كيان مُسجّل رسميًا، مثل الشركات أو المؤسسات الخاصة والعامة. بناءً عليه، تتحمل النساء نفقات العلاج، وتتضاعف أمراض اللواتي يأتين من خلفيات أكثر إفقارًا ويعملن لدى الغير.

تقول فوزية، 48 عامًا من دمنهور: “وأنا حامل كنت بنزل الشغل. في الشهر الثامن، شلت عدايات العنب وحسيت بمغص. كتمت المغص في بطني لأني مينفعش أتكلم، وفضلت مستنية لحد ما جوزى رجع. روحنا عيادة الجامع (مستوصف صحي خيري لغير القادرات/ين داخل القرى)، قالوا لي أنتى بتسقطي (بتجهضي). ركبت تاكسي عشان أروح المستشفى، البنت نزلت فى التاكسي. ولما وصلت، قالوا لي ماتت. نزلت الشغل بعد أيام، وحملت مرتين وحصل نفس الموضوع. وبعدها، شلت الرحم وبرضو نزلت الشغل”.

في سياقٍ متصل، يستثني العمل الموحد رقم 12 لسنة 2003 إلى وقتنا هذا العاملات دون أجر. أوضحت لمياء لطفي، استشارية النوع الاجتماعي ومؤسسة مبادرة “المرأة الريفية”، أن هذه الملفات تعتبر ضخمة.

فهذه العمالة حين يتم تقنينها، سيترتب عليها مطالبة النساء بحقوقهن من أصحاب العمل. كما سيطالبن الدولة بتنظيم ذلك وتوفير تأمين صحي ومعاشات، وطرق ووسائل مواصلات لائقة، وعدد محدد لساعات العمل. أما الآن، لا يوجد أي نوع من أنواع الحماية القانونية، ولا حتى العرفية، علاوة على عمل الطفلات دون وجود مانع لذلك، بسبب الاحتياج الاقتصادي. فهن معرّضات لنفس المخاطر التي تتعرض لها النساء البالغات، مُضافًا إليها هشاشة عامل السن.

تقول هناء من محلة كيل: “أنا معنديش شغل. كله رعاية بهايم وفلاحة. باخد مرتبي رز وغلة وممكن شوية لبن. ولو فيه فلوس بنديها للراجل. وعلاجي بجيبه من باب الله (تبرعات). الرحمة حلوة”.

مواصلات غير لائقة وطرق غير أمنة 

كل صباح، تأتي النساء العاملات سفرًا من قراهن إلى الأسواق في ظروف صعبة. يقضين ساعاتٍ سيرًا على الأقدام أو التنقّل بين أكثر من وسيلة مواصلات. كل ذلك وهن حاملات بضائعهن وطفلاتهن/أطفالهن.

تقول سنيّة، 47 سنة من أبو حمص، “بشتغل مع جوزي في السوق. مباخدش حاجة. بساعده وأنا اللي بعمل شغل البيت لما نرجع. هو مالوش دعوة بالعيال والبيت. كل يوم وأنا جاية، باخد عيلين معايا الشغل. مفيش حد يرعاهم”.

بينما ينتج عن التهميش إفقارًا اقتصاديًا للنساء، يلعب النوع الاجتماعي دورًا في تعميق هذا التمييز. فأغلب المزارعات والعاملات اليوميات يتحملن بمفردهن عبء العمل الرعائي داخل الأسرة. هذا بغض النظر عن إن كان عملهن لصالح العائلة، أو لصالح أرباب عمل خارجها من مزارعين وتجّار رجال.

وتقول سعدية، 36 سنة من كفر الشيخ: :أنا كل يوم في السوق. المواصلات العادية صعبة، بناخد عربية. بسيب العيال مع أبوهم. هو مبيشتغلش، أنا اللي بشتغل وبروح بديله الفلوس وكله للدار. بجيب مطالب البيت كلها. تصدقي أنا اللي بجري وبتعب وبرضو مباخدش حاجة لنفسي. ولو عايزة علاج، بستلف لحد ما أطلع أشتغل وأدفعهم. أدي عيشتنا.. أيه رأيك فيها؟”.

لا يقتصر أمر المواصلات والطرق غير الممهدة على عدد ساعاتٍ أطول تقضيها النساء أو وقوعهن ضحايا الحوادث والكسور وتلف البضائع. إنما يتعداه إلى تعرّضهن إلى العنف الجنسي أثناء رحلات عملهن اليومية. فمعظمهن يتعرضن للتحرش الجنسي من السائقين ومن الرجال في الأسواق.

وبسبب التهميش الجغرافي وقلة موارد الجمعيات النسوية التي تعيق الوصول إلى هؤلاء النساء المهمّشات، ما زالت الأفكار الأبوية مُستدمجة في أذهانهن. غالبيتهن مقتنعات أنهن سبب العنف الجنسي الذي يتعرضن له. يعتقدن أن التحرش اللفظي يكون للنساء “الجميلات”، بدلًا من اعتباره تعديًا وانتهاكًا أو إدانة المتحرشين والجناة.

تقول ماجدة، بائعة فاكهة من إفلاقة: “الستات الحلوة هى اللى بتتعاكس. الوحشة لا. أنا لما بتعاكس، بتعامل بجد ومش بهزر. الشغل عايز جد”.

*أسماء النساء مستعارة حفاظًا على الخصوصية.

كتابة: سارة كحلة

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد