القطيعة مع إعلام التطبيع وتقويض سرديات الاستعمار
أظهرت مقاطع مصورة انتشرت على شبكات التواصل الاجتماعي يوم 19 تشرين الأول/أكتوبر الجاري، اقتحام حشود غاضبة لمقر قناة MBC السعودية في العاصمة العراقية بغداد وتدميره وإضرام النار فيه.
وذلك عقب بث القناة لتقرير مسيء لقيادات المقاومة الفلسطينية ووصفها بالإرهاب، والثناء على قيام الاحتلال باغتيال قيادات المقاومة مثل يحيى السنوار.
كان لهذا الحدث أثر كبير في نقل ردات الفعل الغاضبة تجاه الإعلام المطبع. وهذا نحو القطيعة السياسية المتبوعة بأفعال جذرية ترفض وجوده من الأساس، خصوصاً بعد أن أسهم الضغط الشعبي في إقفال مقر قناة mbc في العراق بأمر حكومي.
إعلام مأجور.. صوت مخنوق
خلال عقود من هيمنة الأنظمة الديكتاتورية والمتحالفة مع الاستعمار الصهيوني والأمريكي، تم الاستثمار في تحويل الإعلام إلى بوق للسلطة، يساهم في روايتها المضللة ويحمي سردياتها القمعية، ويشوه حركات التحرر والمقاومة.
فمنذ أن أحكمت هذه الأنظمة قبضتها باستخدام السجن والاغتيال لتصفية كل صوت معارض، ومع خفوت الصوت النقدي الذي ساد خلال سنوات التحرر الوطني وما تلاها، تم تطويع أغلب الإعلام المكتوب والمسموع والمرئي ليكون رافدًا من روافد السلطة.
ذلك بالأخص بعد ظهور القنوات الإخبارية واتجاه الإعلام في طريق الربح السريع وإنتاج المحتوى الذي يضمن الاستفادة المادية والانحياز للسلطة.
سيطر هذا النوع من الإعلام بشكل أكبر قبل أن تظهر وسائل التواصل الاجتماعي. حيث شكلت البرامج التلفزيونية ونشرات الأخبار والجرائد والمجلات مصادر المعلومة الوحيدة المتاحة أمام شعوب المنطقة، تحديداً مع واقع أن الأنظمة القمعية في تلك الفترة فرضت رقابة صارمة على جميع وسائل الإعلام.
ساهم في هذه السيطرة على حرية التعبير وقولبتها وفق ما تريده الأنظمة القائمة، تسخير موارد اقتصادية هائلة. ضُخت الأخيرة في صناعة المحتوى الإعلامي الترفيهي، وصياغة خطاب مهادن للاحتلال، لا يخلو من الاستشراق، وتجريم أي خطاب أو فعل يقاومه.
رغم ذلك، لا يمكن القول أن الخضوع كان مطلقًا. ظلت هناك أصوات صمدت في وجه آلة القمع والقولبة، وحافظت على استقلالية الإعلام وإن كانت قليلة.
تقوية الاستبداد.. إضعاف الوعي الحر
كانت ولا تزال أهداف الأنظمة القمعية في المنطقة أن تسيطر على وعي الشعوب وتدجنها، كيلا تحتج أو تسعى للتحرر. وفي ذلك استخدمت إعلاماً يكتب الكلمة وينطقها كما تشاء هذه الأنظمة. حتى أصبحت لغة الإعلام هي لغة الإمبريالية وتمجيد الحكام وتوجيه الرأي العام حسب مصالحهم.
وساهمت العديد من القنوات الإخبارية والجرائد والمواقع الالكترونية في اختراق الوعي الشعبي، ونشر الأخبار والمعلومات المضللة أو الموجهة لصالح النظام القائم.
وذلك من خلال برامج تلفزيونية وتحليلات وتقارير صحافية اقتربت هذه الوسائل الإعلامية من الأنظمة وخدمتها بشكل كبير. بل يمكن القول أن الإعلام ساهم في تقوية سطوة هذه الأنظمة بتحييد نقدها وتسليط الضوء على قضايا ومعاناة الشعوب، تحديداً المشاكل الاقتصادية والسياسية التي تعيشها المجتمعات.
فشل بناء الوعي المعادي
كانت مهمة هذا الإعلام المُضلل هي تشكيل وعي أجيال كاملة، وعزلها عن تاريخها وقضاياها المصيرية، وصرف نظرها عن قضية تصفية الاستعمار من فلسطين. وهو ما وصل ذروته بعد نشر mbc لتقريرها المعادي للمقاومة.
هذا التقرير الذي وصفه البعض بأنه تخطى في وقاحته وهجومه على المقاومة إعلام العدو الصهيوني نفسه، فتح الباب أمام مراجعة حقيقية لدور العديد من وسائل الإعلام الناطقة بالعربية في تقوية خطاب الاستعمار وتطبيعه.
رغم الانتقادات التي وجهت هنا وهناك خلال العقد الماضي للعديد من المحطات والقنوات الإخبارية، ودورها في خدمة الأنظمة القائمة وتقويض الأصوات المعارضة لها، ظل الأمر حبيس ردات فعلٍ معزولة لم تصل لمستوى المقاطعة والمحاسبة الفعلية.
لكن جرائم الاحتلال الصهيوني والإبادة المستمرة في غزة منذ عام، غيرت مسار نظر الشعوب في المنطقة للإعلام. حيث أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي كفيلة بكشف الحقيقة ونقل الواقع بصوت الشعب الفلسطيني. كما نقلت الجرائم الاستعمارية بشكل مباشر. وعلى وحشيتها، فقد أظهرت أن معظم الإعلام في هذه المنطقة غير قادر على التعبير الملتزم بمناهضة الاستعمار.
فشل تحقيق mbc، كما كل خطابات التطبيع مع الكيان الصهيوني إعلامياً، في تحقيق مسعاه. إذ أصبحت الشعوب متسيدة لوعيها وسردياتها بفعل استخدام الإنترنت وامتلاك مساحة التعبير.
القطيعة…هل هي بداية النهاية؟
عطفاً على ذلك، عزز موقف حرق مقر mbc في بغداد دعوات المقاطعة لقنوات ظلت مفتوحة لسردية الاحتلال دون خجل، منها العربية وسكاي نيوز عربية وmtv وغيرها.
حيث انتشرت دعوات مقاطعة القنوات المطبعة بشكل على وسائل التواصل الاجتماعي. في دعوة وصلت لحدود المطالبة بإغلاق مقرات هذه القنوات وغيرها. والقطيعة التامة مع أي محطة أو موقع يعزز من روايات الاحتلال، ويطعن في شرعية المقاومة الفلسطينية.
كما يمكن القول أنه يشكل بداية لأخذ الشعوب لزمام الكلمة، ورفض الانقياد وراء رواية الأنظمة. وهو ما يمكن أن ينعكس على قضايا كثيرة تبدأ بالاستعمار ولن تنتهي عنده.