الفضفاض يخنق.. حول قانون الجرائم الإلكترونية الجديد بالأردن
لم يكن الفضاء الإلكتروني الأردني فسحةً تحفظ حرية التعبير قبل قانون الجرائم الإلكترونية الجديد، لكنه كان أقل خنقًا.
ففي ظل قانون الجرائم الإلكترونية السابق والذي حمل الرقم 27 لسنة 2015، كانت أكثر الأفعال المجرمة في القانون الجديد مُجرّمَة بالفعل. ولكن التوجه العقابي كان أكثر معقولية واتساقًا مع المدارس العقابية في علم القانون عما هو عليه الآن مع القانون الجديد. وكذلك كان القانون السابق أوضح في دائرته العقابية.
الفضفاض يخنق. النصوص القانونية الفضفاضة التي تتسع للحماية والاعتداء على الحريات في آنٍ واحد، كثيرًا ما تجعل من التكييف القضائي عملية هوائية. فالقاضي/ة يكيف/ تكيف الواقعة بمساحة أكبر من التقدير الذي يحكمه توجه القاضي/ة أكثر مما يفعل النص القانوني. وهكذا يجد المتهمات/المتهمون أنفسهم/ن في حضرة خياط سيُكيّف التهمة ربما على ما هو أكبر أو أصغر من مقاس فعلهم/ن الجرمي.
قانون الجرائم الإلكترونية هو سلاح ذو حدين. فهو مهم لحماية المجتمع والمواطنين/ات من المجرمين، ولكنه في الوقت ذاته، يتناقض مع حرية التعبير
عينٌ على قانون الجرائم الإلكترونية الجديد
فالمواد 15/ 16/ 17/ 19/ 25 من قانون الجرائم الإلكترونية الجديد رقم (17) لسنة 2023 والذي يقع في 41 مادة، جاءت متّسعة بطريقةٍ تتعارض مع المدارس العقابية الحديثة. فالجرائم في المواد المذكورة جميعها ترتبت عليها عقوبات حديّة، تراوحت غرامتها بين خمسة آلاف دينار وحتى العشرين ألف دينار. وبين البينين فرق شاسع، ثم إن مثل هكذا عقوبة لا تتناسب ومقدار متوسط الدخول في الأردن ولا مع الوضع الاقتصادي المتهالك للمواطنات/المواطنين. وهو ما يجعل شكل العقاب أقرب للانتقام والجباية.
المادة 15 عالجت نشر الأخبار الكاذبة التي تستهدف الأمن الوطني والسلم المجتمعي. وكذلك عالجت الذم والقدح والتحقير بذات العقوبة. وفي هذا الخلط في التجريم بين فعلين لا صلة بينهما سوى وسيلة الإرتكاب المتمثلة في الوسائل الإلكترونية، نجد أن المشرع وسع دائرة العقاب. فجرائم الأمن الوطني قد تصل حدّ التحريض للانقلاب على النظام بالوسائل الإلكترونية. وفي الذم والقدح والتحقير، قد لا يتجاوز أي من تلك الأفعال شتم شخص في خصومة إلكترونية.
الفقرة (ب) من ذات المادة عاظمت من نهج تكميم الأفواه. فلم تُعلَّق الأفعال الموصوفة في الفقرة (أ) من ذات المادة على شكوى أو على اتخاذ صفة الادعاء بالحق الشخصي لتحريك الدعوى، إذا ما كانت تلك الأفعال موجهة إلى سلطات الدولة أو الهيئات الرسمية أو الإدارات العامة.
والراسخ في الحياة العامة أن الأشخاص سواء كانوا أشخاصًا طبيعين/ات أو اعتباريين/ات طالما ارتضوا/ين الدخول في معترك الحياة العامة، فإن خضوع أفعالهم/ن للتقييم والمساءلة المجتمعية والانتقاد هو ضمناً جزءٌ من سيرورة عملهم/ن في مفاصل الحياة العامة التي تمس الناس.
وحول اتساع النص التجريمي بما يتعلق بالذم والقدح والتحقير تحديدًا والانتقادات الحادة التي سادت الشارع الأردني، عقّب رئيس الوزراء، بشر الخصاونة، تحت قبة البرلمان في سؤال وجهه أحد النواب للحكومة. فشرح آنذاك أن تسمية سياسة الحكومة بسياسة الجباية لا يكون من قبيل الذم والقدح والتحقير. ولكن وسمها بأنها حكومة عملاء، قد يرقى لتفعيل النص العقابي.
وهذا شرح لا يحكمه سوى فهم رئيس وزراء الحكومة. فليس ثمة ما يوضح هذه الحدود للقضاة، والأمر متروك للقناعة الذاتية للقضاة/القاضيات. فقد يجد قاضي/ة أن وسم الجباية ذم يشير إلى سرقة أموال الناس. وقد يرى قاضي/ة آخر/ أخرى أن وصف العمالة لا يتجاوز كونه رأيًا سياسيًا وموقفًا من تحركات وعلاقات الدولة الأردنية مع العواصم الغربية.
View this post on Instagram
فضفاض يخنق وحريّات تحت التهديد
ورغم الانتقاد الشديد للقانون، يعتقد الكثير من المشتغلين والمشتغلات في الحقل الحقوقي أن ثمة حاجة ماسة لهذا القانون. فقانون الجرائم الإلكترونية القديم رقم (27) لسنة 2015 يحتاج لهيكلة جديدة تواكب الواقع. وذلك وفقًا لـ أ.وئام عبيد، محامية أردنية، تحدثت لنا عن الحاجة الملحة للقانون المعدل. تقول: “في السنوات الأخيرة، شهدت المملكة الأردنية الهاشمية زيادة ملحوظة في عدد الجرائم الإلكترونية، مثل الاحتيال والتلاعب المالي وانتحال الشخصية والابتزاز. لذا، كان من الضروري سنُّ قانون رادع لهذه الجرائم ولحماية حقوق الأفراد واستعادتها”.
وتثني أ.وئام عبيد على اتخاذ دعاوى الجرائم الإلكترونية المنصوص عليها في القانون الخاص صفة الاستعجال. فتقول: “وفقاً لقانون الجرائم الإلكترونية المعدل، يُسمح للمواطنين/ات بتقديم دعاوى الحق الشخصي، بالإضافة إلى دعاوى الحق العام. حيث يمكن تقديم الدعوى شخصياً أمام المحكمة في القضايا الجزائية. ويجب أن تُعقد جلسات المحكمة مرة واحدة على الأقل في الأسبوع، وأن تُفصل القضية خلال مدة لا تتجاوز 3 شهور، وفقاً لنص المادة 34 من القانون”.
لكنها تعود لتشارك معنا عدم رضاها عن السياسة العقابية. “ومع ذلك، فإن العقوبات والغرامات التي أُدرجت في القانون المعدل زادت بشكل كبير. حيث تضاعفت الغرامات مقارنة بالقانون السابق، ما أثار مخاوف حول تجاوز هذه العقوبات مفهوم الردع، وتصل إلى التأثير على حرية التعبير”.
وتشاركنا مخاوفها من تغوُّل القانون على الدستور ومن إهدار قيمة عليا في سبيل الحفاظ عليها. فتضيف: “إن القوانين العقابية يجب ألا تتعارض مع حرية التعبير المنصوص عليها في الدستور، وإلا فإنها تعد غير دستورية. قد يُنظر إلى القانون الجديد، بسبب الجدل الشعبي حوله، على أنه يحدّ من حرية الرأي ويعكس تجاهلاً للإرادة الشعبية، ويعد انتهاكاً للحق الدستوري في حرية التعبير. إذ تتسبب القوانين الغامضة وغير المحددة في تقييد النقد البنّاء للمؤسسات الحكومية والأفراد، وهو ما يؤدي إلى تكميم الأفواه”.
وتلاحظ أ.وئام عبيد أن قانون الجرائم الإلكترونية أثر على التعبير ومشاركة الآراء في الفضاء الإلكتروني بمجرد دخوله حيز التنفيذ. فتقول: “شهدنا انسحاب العديد من الأشخاص من منصات التواصل الاجتماعي أو تقليص نشاطاتهن/م، خوفاً من العقوبات المُبالَغ فيها. لذا، يمكن القول إن قانون الجرائم الإلكترونية هو سلاح ذو حدين. فهو مهم لحماية المجتمع والمواطنين/ات من المجرمين، ولكنه في الوقت ذاته، يتناقض مع حرية التعبير المصونة وفقاً للدستور”.
التطويع السياسي للقانون
خرج مشروع القانون للضوء وأُقرّ رسميًا عبر نشره بالجريدة الرسمية في 13/8/2023. كانت الأحداث في المنطقة ساخنة، وتدفع الناس للتعبير عن آرائهن/م في القضايا المصيرية. وكانت الإبادة في غزة أبرز تلك القضايا الملحة.
تحولت المنصات من مكان لمشاركة الرأي إلى مساحة للتضامن ومناصرة الضحايا والاصطفاف إلى جانب المقاومة ودعمها. كان هذا خيار أكثر الأردنيات والأردنيين. وكان هذا مسوّغ اعتقال الكثير من الناشطات/الناشطين والمتضامنات/المتضامنين، اللاتي/والذين أُخذن/وا وسُحِلن/وا من ساحات التظاهر. وذلك على خلفية منشوراتهن/م على حساباتهن/م الرقمية.
هكذا يكون ترتيب الأحداث: منشورات تنتقد استمرار تطبيع الحكومة مع الكيان المستمر في إبادة الشعب الفلسطيني في غزة، أو منشورات تنتقد الجسر البري، أو منشورات تنتقد تصدير الخضروات من المزارع الأردنية نحو تل أبيب وضواحيها، أو منشورات مستاءة من القبضة الأمنية واعتقال المتظاهرات/المتظاهرين في شوارع عمان. تاليًا، يخرج كاتبات وكتاب تلك المنشورات إلى ساحات التظاهر في محيط سفارة الاحتلال في منطقة الكالوتي، أو محيط السفارة الأمريكية، فيتم اعتقالهن/هم. هل يحفظ الأمن منشورات الناشطات والناشطين؟ هل يحفظ وجوههن/م حد اعتقالهن/م من بين الآلاف؟ يبدو أنه يحفظ!
في أحيان أخرى، يختلف ترتيب الأحداث، كما صار مع لانا ثائر، طالبة جامعية وناشطة نسوية مستقلة لم تعتقلها الأجهزة الأمنية. كان حظها من القمع هو التلويح باستخدام قانون الجرائم الإلكترونية. حدث ذلك عندما ورد إليها اتصال هاتفي من مكتب عميد كليتها. ظنّت أول الأمر أن مراجعة مكتب العميد التي أخبرها بها السكرتير تتعلق بتكرار الغياب عن الجامعة. تكرر الاتصال خلال أقل من خمس دقائق. هذه المرة، العميد شخصيًا يتصل بطالبة على رقمها الخاص يطلب حضورها للكلية على وجه السرعة.
تقول لانا: “رحت على المكتب. حكالي العميد: شو دخلك بالسياسة! أنتِ شو إلك بالسياسة من قريب ولا من بعيد؟” فهمت لانا أن العميد يقصد منشوراتها حول الدعوة إلى التظاهر للتضامن مع غزة. وهي دعوة لم تصممها لانا، وإنما شاركتها كناشطة لتحشد الناس وزملائها/زميلاتها للحراك.
عرفت لانا تاليًا أن الشخص الذي نقل منشوراتها إلى العمادة من خارج الجامعة. استطاع هذا الشخص، دون أن يكون جزءاً من مؤسسة التعليم، أن يورد للجامعة منشور إحدى الطالبات. لتقوم الجامعة بالتلويح للطالبة بتحويلها إلى وحدة الجرائم الإلكترونية التابعة للأمن العام، وفصلها من الجامعة في مرات لاحقة إن مارست التعبير عن رأي سياسي أو دعوة للتظاهر عبر منصات التواصل الاجتماعي.
تضاعفت الغرامات مقارنة بالقانون السابق، ما أثار مخاوف حول تجاوز هذه العقوبات مفهوم الردع، وتصل إلى التأثير على حرية التعبير
العمل الحزبي مقموع باسم القانون
ليس فقط الطلبة، الحزبيّات والحزبيون أيضًا حدّ قانون الجرائم الإلكترونية من نشاطهم/ن الحزبي والسياسي الذي يقوم في أساسه على التعبير عن الرأي. والمألوف أن إحدى وسائل ذلك التعبير هي الوجود في المنصات لضمان الوصول لكل الناس وحشدهن/م في الحراك وفي الفعل السياسي.
تقول عدن، عضوة حزب الوحدة الشعبية، أن قانون الجرائم الإلكترونية يحدّ من نشاطها الحزبيّ والسياسيّ ويحدُّ من حرية التعبير السياسية لديها. وتضيف: “نحن وإن كنا حزبيات وحزبيين، فإننا عُرضة للمساءلة القانونية طوال الوقت. ذلك لأن قانون الجرائم الإلكترونية فضفاض. وهذا يناقض الدولة ذاتها حين تشجع الشابات والشباب على الانخراط في الحياة الحزبية”.
سعت الدولة قولًا وسلوكًا إلى التشجيع على الانخراط في الأحزاب، وذلك قبل ولادة قانون الجرائم الإلكترونية ذاته. فالخطابات لم تخلُ من الإشارة للحياة الحزبية وتنشيطها، من رأس الدولة وحتى رؤساء الجامعات. وسلوكًا، ترجمت تلك الخطابات عبر اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية والتي عملت على صياغة مشروع قانون الأحزاب وصياغة مشروع قانون الانتخاب.
تعبر عدن عن موقفها وموقف حزبها القَلِق من هذا القانون ومن التوقيف الإداري الذي تعرَّض له الحزبيات/الحزبيون على خلفية منشورات في المنصات الرقمية. وتقول في هذا الصدد: “من غير المنطق أو المعقول أن يُحاسَب ويحاكَم الصحافيون/ات، والناشطون/ات السياسيون/ات والحزبيون/ات بسبب رأي أو منشور رقمي أو مقال أو تقرير صحفي، وبالأخص حين تكون فحوى هذه المواد مناهضة للتطبيع أو داعمة للمقاومة”.
قانون الجرائم الإلكترونية والحرب على الصحافة
ربما يظهر تأثر الصحافيات والصحافيين أكثر، لأن الكتابة صنعتهم/ن، ولأن الوسائل الرقمية لا انفكاك عنها في صحافة اليوم. كما أن في تقييد نشاطهم/ن حداً من مورد أرزاقهم/ن، وليس فقط قمع حرية التعبير لديهم/ن.
روان نخلة، صحافية وناشطة، قبل عام، حين كان قانون الجرائم الإلكترونية يبصر النور للتو، كانت تُسأل كثيرًا عن تأثير القانون على عملها إيجابًا وسلبًا. وكانت تجيب أنها عبر تجربتها الشخصية، لم تلمس تأثيرات مباشرة على عملها. وإنما تأثيرات غير مباشرة مثل تدقيق المواد الصحفية أكثر مما تتطلب طبيعة العمل. هذا بالإضافة إلى وضع القانون ومواده نصب العين، حتى لا يُصار إلى أي تصادم معه يُعرِّضُها للمساءلة.
ولكن بعد عام، ولا سيما في الأشهر الأخيرة، تغير الوضع. أصبح التأثير غير المباشر مباشرًا في تجربة روان، وتُعزي السبب في ذلك كما تخبرنا: “إلى أن حالات تحريك القضايا ضد الناشطات/ين بأعداد مهولة، أو التلويح بإمكانية رفع القضايا ضدهم/ن صارت أمرًا مقلقًا”.
التدقيق في المادة الصحفية من قبل الصحافيات/ين والذي زاد بعد دخول هذا القانون حيز التنفيذ، عاد وازداد عما كان عليه في الأشهر الأخيرة. وهي الأشهر التي انخرط فيها الشارع الأردني والحراك الشعبي في دعم المقاومة والتضامن مع غزة. كذلك ازدادت مساحة القلق من الاصطدام بقانون الجرائم الإلكترونية للمشتغلات/ين في حقل الصحافة والنشر، لا سيما أن مواد القانون فضفاضة.
وفي هذا الصدد، تخبرنا روان عن الاختلاف الذي صارت تلمسه حول تأثير قانون الجرائم الإلكترونية على طبيعة عملها خلال الأشهر الأخيرة. فتقول: “كصحافية أصبحت أمارس المزيد من الرقابة الذاتية على موادي. كذلك صارت المؤسسات الإعلامية تعتذر عن نشر المواد الصحفية حول القضايا الحقوقية الملحة وذات الأولوية. وهو سلوك مفهوم للأسف. فالمؤسسات قلقة من قانون الجرائم الإلكترونية”. وتوضح روان أن المؤسسات هنا على درجة واحدة من القلق من القانون، سواء كانت مؤسسات محلية أردنية، أو مؤسسات أجنبية معنيّة باستمرار عملها في الأردن”.
وتضيف: “أن الخيار الثالث أمام الصحافيات/ين، وهو العمل الصحفي المستقل، لا يحقق للصحافة دورها ولا يقدم ضمانات كافية للوقوف خلف الصحافي/ة، سواء من جانب مهني أو قانوني”.
وتعبّر روان عن انعدام الأمان أثناء ممارسة المهنة بقولها: “أتجنب هذه المؤسسات. فأنا لست عضوةً في النقابة، ومع عدم الاستناد على مؤسسة ضامنة لحقوقي، سأُترَك وحيدة. وهذه مشكلة حقيقية، وتتعمق بسبب قانون الجرائم الإلكترونية”.
تختم روان أن مثل هكذا مواد فضفاضة أثرت على المنتوج الصحفي من حيث قلة المواد وضعف التغطيات. وتخبرنا حول تكتيكاتها في التعامل مع الواقع المفروض على السلطة الرابعة بقوة القانون، فتقول: “تحولتُ من صحافية إلى مُوثِّقة ومُراقِبة للمرحلة”.
تفعل ذلك عبر التعامل مع نفسها على أنها شاهدة عيان على الأحداث، خصوصًا المتعلقة بالقضايا الملحة. وتعمل على حصر المعلومات حول كل حدث. وتضيف أنها تفعل ذلك حتى لا تنقطع عن المستجدات، ولتبقى مُطّلعة بما يُمكِّنُها من امتلاك عينٍ ناقدة في مواجهة كل الأحداث التي قد تغطيها في موادٍ لاحقة.
حينها ستفتح روان الصحافية صندوق مدخرات روان المُوَثِّقة، لتتحدّث بأثرٍ رجعيّ عمّا أجَّلت الحديث عنه والكتابة حوله ضمن مهنتها كصحافية في مرحلةٍ كان القانون فيها يجعل السلطة الرابعة قلقةً من الكتابة. رغم أن الكتابة جوهر عمل الصحافة، لا سيما أن كل كتابةٍ صحفيّة تعني التواجد والمشاركة عبر المنصات الرقمية. وبالتالي، الوقوع تحت ضغط أكبر في مواجهة القانون كما هو حال مستخدمات/ي مواقع التواصل الاجتماعي. ربما حينها ستنجز روان موادها الصحفية دون أن تشعر أنها تُركت وحيدة.
كيف أثّر قانون الجرائم الإلكترونية الجديد على اللاجئات/ين؟
أيضا، يتقاطع قلق مركب على اللاجئات/ين المقيمات/ين في الأردن في مواجهة قانون الجرائم الإلكترونية. حدثتنا يارا زهير، وهي لاجئة سورية تقيم في الأردن منذ 11 عام، عن تأثير هذا القانون على مساحتها في الفضاء الإلكتروني. تقول: “أنا لاجئة موجودة بالأردن. بخاف من أي كلمة بدي احكيها لأنو بظل غريبة وبين قوسين (لاجئة) معرضة للترحيل لسوريا أو للمخيمات على أقل كلمة بحكيها. لهيك بكون عم بختصر أي تعبير عن رأيي، خوفاً من أي تعرض للمساءلة القانونية”.
حين تتحدث يارا عن التعبير، فإن القلق المحيط به ليس في المواضيع السياسية وحسب. وإنما في التعبير عن رأيها تجاه الأوضاع الخدماتية والاجتماعية والاقتصادية المحيطة بها والماسة بيومياتها كمقيمة على الأراضي الأردنية. “حتى لو بدي أعلق ع بوست عم يحكوا فيه عن غلاء الأسعار، أو سوء المواصلات العامة، أو الشوارع العامة والفرعية، بكتب التعليق وبحكي رأيي وبرجع بمسحه خوفاً من إنو اتعرض لأي شي قانوني كوني لاجئة”.
حين نخاف الأقل، نخاف الأكثر بالضرورة. وحين نخاف التعبير في الفضاء الافتراضي نخاف التعبير في الفضاء الواقعي تاليًا. هكذا وجدت يارا نفسها مضطرة للصمت إزاء الإبادة في غزة، وما رافقها من مواقف عربية متخاذلة شملت استمرار التطبيع العربي مع الاحتلال بما في ذلك الأردني. تقول: “حتى الحكي عن القضية الفلسطينية ويلي عم بيصير بغزة والتطبيع الموجود، بخاف أحكي عنه قدام أي حدا وبأي مكان”.
وتختم: “طول ما الوحدة برا بلدها بتخاف من أي كلمة”. أُكملُ عنها الجملة: “يا غريب كون أديب؟” تجيب: “نعم”.
وأود أن أخبرها أننا كلنا غريبات وغرباء في مضمار الحريات، وأننا نصير غريبات وغرباء، بمجرد تبني رأي ما، سواءً كان حول موسم الزيتون أو حول القواعد الأمريكية والفرنسية في البلاد.
عين القانون تغمض في بعض الأحيان
ذات القانون الذي زجر الناشطات/ين بالاعتقال والتهديد بخطر الاعتقال، أغمض عينيه حين تمت شيطنة الحراك الداعم لغزة. حين أغمضت الضابطة العدلية عينها عن تلك المنشورات المُحرّضة على الناشطات/ين. منشورات كتبها مواطنون/ات ضد مواطنين/ات.
وكانت حصة النساء والفتيات هي الأكبر من الشتم والشيطنة والوصم الأخلاقي. أما الناشطات اللاتي انتشرت لهن مقاطع في الحراك بشكل أكبر، كان مقدار الهجوم عليهنّ أكبر. لم يلوِّح أحد بقانون الجرائم الإلكترونية وقتذاك. القانون ذاته الذي استُخدم لقمع الرأي السياسي، لم يُسعف الناشطات لإيقاف إساءة المسيئين في حقهن.
ربما لأن في الدول السلطوية، وإن كانت دول قانون، الكل يريد سلته بلا عنب فيها! فالناشطات لم يلجأن في الغالب للاستناد إلى قانون الجرائم الإلكترونية، لملاحقة المسيئين، لأنه يُشرعُ سلاحًا في وجه حراكهنّ. ببساطة، ستكون الواحدة منهن عرضةً للمساءلة، حول منشورات تدعم نشاطها وحراكَها.
قيمٌ مهمة ستُهدَر
أنا أيضًا حدَّ قانون الجرائم الإلكترونية من حريتي. حدَّ من قدرتي على التعبير فور ولادته. كنتُ في قاعة عمل مع زميلاتي وزملائي الحقوقيين/ات والمحامين/ات، نحضِّر للاستعراض الدوري الشامل للدولة الأردنية في الأمم المتحدة. وهو استعراض يقيس موقعية الدول من سجل حقوق الإنسان ومدى مراعاته في نهجها وقوانينها وجميع أذرعها.
نقلت لنا إحدى الزميلات فحوى الخبر العاجل الذي تقرؤه: “الملك صادق على القانون”. كلنا عرفنا أي قانون تقصد، فولادة هذا القانون سبقتها زوبعة رفض ونقد، لكنه مَرّ. زميلةٌ ثانية أمسكت هاتفها وأغلقت حسابها في تويتر على الفور، زميلةٌ ثالثة قالت: “مستحيل أسكر حسابي. وبالعكس، هلأ راح انزل بوست نقد، وحبلشها بالقانون نفسه. بدي يتم تحريك دعوى ضدي، وأنا لها. بتكون أول فرصة للدفع بعدم دستورية القانون”.
شعرت حينها أنني أنا أيضًا أتحدث مثلهن، ولا صوت لي. أتحدث داخل ضميري. هل حوّلني الخبر لإيموجي؟
عُدنا من استراحة النقاش نحو عمل المجموعات على الاستعراض الدوري الشامل. كان عليّ عرض عمل مجموعتي. تحدثتُ عمّا نراه كحقوقيّات مُنخرِطات في العمل مع مؤسسات المجتمع المدني. تحدثتُ عن موقع الأردن في سجل حقوق الإنسان في السنوات المُراد استعراضها في التقرير.
وعرفت أن قيمًا مهمة ستهدر على يد القانون الوليد: الحرية والتعبير والمساءلة. وعرفتُ أنّ أوّل مشتملات الاستعراض الدوري الشامل بعد أربع سنوات، أي بعد الذي كنا نعمل عليه، سيكون حول قانون الجرائم الإلكترونية وآثاره على موقعية الأردن من حقوق الإنسان.