صانعات المحتوى في تونس.. من الصوت إلى السوط

أصدرت وزارة العدل التونسية يوم 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2024 بلاغًا أذنت فيه وزيرة العدل للنيابة العمومية باتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة للتصدي لكل ما يُخلّ بـ”الأخلاق الحميدة” أو ينافي “القيم الاجتماعية”، خصوصًا على تطبيقي “تيك توك” و”انستغرام”.

هذه صانعة محتوى أعلنت توبتها عن “الكلام البذيء”، وحُكم عليها، وهي حامل في الشهر الخامس، بأربعة سنوات وشهرين سجنًا. وأخرى أعلنت تنازلها عن الجنسية التونسية، والبقية تحاولن الفرار من مركب “الرداءة”، خوفًا من المحاكمات الأخلاقية.

هذه الرقابة الرقمية جاءت بعد تدرّج سلطوي في سياسة إصدار المراسيم أو تطبيق قوانين قمعية ضد كل مَن يتعارض/تتعارض مع المعايير السياسية والاجتماعية. فأصبحت حرية التعبير تُصادر إما بموجب المرسوم 54 المتعلق بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال والصادر في 13 سبتمبر 2022، أو بالفصل 226 مكرر من المجلة الجزائية التونسية.

ويُعرف الفصل 226 بقانون الأخلاق الحميدة، و”يُعاقب بالسجن مدة ستة أشهر وبغرامة قدرها ألف دينار لكل من يعتدي علنًا على الأخلاق الحميدة أو الآداب العامة، بالإشارة أو القول أو يعمَد علنًا إلى مضايقة الغير بوجه يخل بالحياء.” وعادة ما يستعمل هذا الفصل المنقح بتاريخ 2 آب/أغسطس 2004 ضد مجتمع الميم عين لام.

لم تمضِ سوى أيام قليلة على إصدار البلاغ حتى شرعت النيابة العمومية في استدعاء خمس صانعات/صناع محتوى (ثلاث نساء وعابرة جندريًا ورجل) والحكم عليهن/م بعقوبات متفاوتة. تراوحت بين سنة ونصف وأربع سنوات ونصف، تلتها عقوبات بالسجن مدة خمسة أعوام في حق أربع ‘صانعات محتوى’ أخريات و”انستغرامورز” (مؤثرات على انستاغرام).

لم يتم توجيه تهم مثيلة للعديد من صنّاع المحتوى الرجال الذين أسسوا مجموعات رقمية حرّضوا فيها عمدًا على تعنيف النساء وتقتيلهن والاعتداء على مجتمع الكويرز.

الأخلاق.. شكل من أشكال لجم النساء

ساهمت وسائل الإعلام التقليدية بشكلٍ كبيرٍ في تكريس صور نمطية للنساء وإخضاعهن لمعايير السلطة الأبوية، عبر نشر محتويات تحطّ من كرامة النساء وتقيد مشاركتهن في الحياة العامة. وهذا التكريس النمطي قد ساهم فيه الجنسين على حد سواء. وزادت وسائل الإعلام المحلية من انتشاره عبر استضافة صانعات المحتوى اللواتي يقدمن محتويات لا تتوافق مع معايير حقوق الإنسان، وتتأثر بهن شريحة واسعة من المراهقات.

كلّ هذه العوامل ساهمت في انتشال وسائل الإعلام المحلية لمكرسات ومكرسي الصور النمطية بغرض تحقيق أكبر عدد من المشاهدات. وذلك عبر استعمال الآليات الفضائحية والذكورية والتي مررت مشاهد لأنواع مختلفة من العنف ضد النساء، وصلت حدّ الاعتداء المادي المباشر على المُعلِّقات في برامج الترفيه. وهو ما عزز منظور “النقمة على النساء” بذرائع مثل الوازع الأخلاقي.

من خلال هذا المشهد العام، تم خلق نوع من الاتفاق الجماعي الضمني حول “ظاهرة صناعة المحتوى” التي ارتبطت بما تم وصفه بـ “الرداءة وبتلفزيون القمامة La télé poubelle”، رغم وجود العديد من المحتويات الثقافية والحقوقية والنسوية. وهو ما استدعى “التصدّي” لهذه الظاهرة من قِبل السلطات الأبوية.

وعلى خطى مصر والكويت والعراق وليبيا، لجأت السلطات إلى المحاكمات الأخلاقية. هذا دون تحمل المسؤولية، أو الاقتداء بالتجارب الحديثة المقارنة، أو خلق سلطة رقمية مستقلة تضع ضمن أولوياتها المعايير الدولية التي لا تضع حرية التعبير في مأزق مفاهيمي.

من شيطنة حواء وليليث إلى شيطنة صانعات المحتوى

لم يستثن بلاغ وزارة العدل الرجال من المحاكمات الأخلاقية. لكن للنساء تاريخ طويل من التمييز الأخلاقاوي المُحرِّض ضدهن. إذ يحصرهنّ ضمن صورة الغاوية والكاسرة والملعونة. هن جميعًا حفيدات حواء مُخرِجَة آدم من الجنة، وبنات ليليث الشيطانة الأولى.

فهذا المخيال الجماعي حول النساء والذي يشمل لباسهن وسلوكهن ومظهرهن له جذوره التاريخية. حيث أسس لارتباط وثيق بين النساء وبين الأخلاق والشرف والجسد. وهو ما يجعلنا نتساءل عن كيفية استغلال السلطة الرسمية أولًا والمجتمع ثانيًا لقانون “الأخلاق الحميدة” ضد النساء؟ وكيف ستتأثرن وتُحاكمن أخلاقيًا أكثر من الرجال؟

ترتبط القيم المجتمعية والأخلاق بصفة عامة ارتباطًا وثيقًا بأجساد النساء في المجتمعات الأبوية، حسب الحقوقية النسوية والرئيسة السابقة لجمعية النساء الديمقراطيات يسرى فراوس. هن حارسات المعبد اللواتي ينقلن القيم المجتمعية للأجيال الجديدة. وهن اللواتي سيتضررن في حرياتهن، وخصوصًا حرية التعبير. فأصبحن خائفات من التعبير في الفضاء الافتراضي ومن اقتحام الأماكن والفضاءات العامة، حسب قولها.

تشير فراوس إلى الحكم الأول الذي صدر ضد صانعة المحتوى شموخ، البالغة من العمر 24 سنة (4 سنوات ونصف سجنًا). يرمز الحكم إلى محاصرة النساء داخل المنظومة الأخلاقية، ويقلِّص من حظوظهن في التعبير الحرّ عن أنفسهن داخل الفضاء الافتراضي.

ويؤكد ذلك أن كل الفضاءات العامة والخاصة هي فضاءات غير آمنة للنساء، وتجبرهن على العودة إلى أدوارهن التي تم حصرهن فيها أبويًا. تلك المتمثلة في المنزل بكل ما يشمل من أدوار الرعاية والإنجاب، حسب محدثتنا ذاتها.

تربط فراوس الأبعاد الاجتماعية للمحاكمات بالأبعاد السياسية. حيث تجدها قضية مركبة باعتبار أن تأثيرها مزدوج على صانعات المحتوى. فهن يتعرضن إلى الوصم الأخلاقي والعزل من قبل محيطهن العائلي والاجتماعي من جهة، ومن جهة أخرى، يتعرضن لمحاكمات قضائية، ما يؤثر سلبًا على أحوال النساء ضمن الفضاءات العامة.

تؤيد الناشطة النسوية ورئيسة جمعية “تقاطع من أجل الحقوق والحريات”، أسرار بن جويرة، ما جاء على لسان يسرى فراوس. وتُشير إلى الحملة الممنهجة التي تشنها السلطة من أجل إرضاخ وإسكات كلّ الأصوات التي تتعارض مع مبادئ ومعايير السلطة. كما أن مصطلح “الأخلاق الحميدة” هو مصطلح غير مُعرّف قانونيًا. وبالتالي، يُمكن تطبيقه على كل ما تحدده المنظومة الأمنية أو القضائية.

ويُمكن أن يخلق تفاوتًا وتمييزًا بين الولايات التونسية حيث تتفاوت حرية لباس وتوجهات النساء من منطقة إلى أخرى، حسب قول محدّثتنا.

جدير بالذكر أن أسرار بن جويرة نفسها مثُلت للبحث من قِبل فرقة مكافحة الإجرام يوم 11 تشرين الثاني/نوفمبر 2024.

نتساءل عن كيفية استغلال السلطة الرسمية أولًا والمجتمع ثانيًا لقانون “الأخلاق الحميدة” ضد النساء؟ وكيف ستتأثرن وتُحاكمن أخلاقيًا أكثر من الرجال؟

صوت النساء يقابله سوط القمع

لا تقتصر المحاكمات الأخلاقية على الزج بالنساء في سجن الوصم الاجتماعي والتحريض والعنف وإجبارهن على عدم اقتحام الفضاءات العامة دون إذن أبوي. بل يمكن لهذه المحاكمات أن تكون سوطًا ضد المعارِضات والصحافيات ومعظم التعبيرات الرقمية باختلافات توجهات صاحباتها/أصحابها، سواء انتمين/انتموا إلى الأشخاص المعياريين/ات أم المتوافقين/ات.

فالتوجّه للمقاربة الأمنية والقضائية يدفع باتجاه الاعتداء على الحريات، حسب المكلفة بالاتصال والمجتمع المدني في النقابة الوطنية للصحافيين/ات التونسيين/ات أميرة محمد. فالغاية من المراسيم أو القوانين القمعية المتعلقة بجرائم الاتصال ليس حماية الأشخاص من الاعتداءات الإلكترونية. إنما هي أدوات لنَسف حرية التعبير، مثل ما حدث مع الصحافيات والمعارضات اللواتي لوحقن قضائيًا بمقتضى المرسوم 54.

لعل كل هذه الإشكالات أو التخوفات المذكورة تتعلق بمستقبل حرية النساء بشكلٍ خاصٍ، وحرية التعبير بشكلٍ عامٍ في تونس.

فهذه الملاحقات من شأنها أيضًا أن تطال التعبيرات السياسية والفنية المعارضة للنظام. لكن ما يثير القلق على المدى البعيد هو أبعاد أخلَقة المجتمع وأخلَقة النساء.

فهذه التوجهات تخلق أزمة أخلاقية عامة من شأنها التحريض ضد النساء وتعنيفهن ورجمهن لفظيًا. وذلك بذريعة الدفاع عن معايير أخلاقوية ترعاها الدولة، وتُعطي بها رخصة لمراقبة النساء ومحاسبتهن مجتمعيًا وقضائيًا. وهذا الترخيص “للتطهير” (كلمة متداولة في خطاب رئيس الجمهورية) قد شهده المجتمع التونسي سابقًا في قضية مهاجرات/ي أفارقة/أفريقيات جنوبي الصحراء. حين تمت إباحة الاعتداء على المهاجرات/ين والتنكيل بهن/م في مناطق مختلفة من البلاد التونسية، بعد خطاب رئاسي وُصفَ بالعنصري.

أصواتهن وتعبيراتهن تخرج في شكل رصاصات قاتلة للثوابت الاجتماعية الذكورية.

الفجوة الجندرية في أخلَقة صناعة المحتوى

وبالعودة إلى العقوبات المذكورة، نجد أن الأحكام طالت ثمانية نساء وعابرة جندريًا ورجلًا واحدًا، ومازالت بطاقات الاستدعاء والملاحقات ضد النساء في تزايد.

فبالرغم من أن صناعة المحتوى تشمل الرجال والنساء، إلا أن النساء ومجتمع الكوير هن/م الحلقة الأضعف داخل المجتمع الذكوري، الذي يبحث عن المشهدية من خلال محتويات رقمية تصنعها النساء، ويُجرّمهن أخلاقيًا عندما يتعلق الأمر بمعايير المجتمع والعائلة.

ويبدأ تجريم المحتويات النسائية حالما تخلق النساء، باختلاف ثقافاتهن وتوجهاتهن، مساحةً وفضاء حرًا للتعبير. لكن لا يتم تجريم المحتويات الذكورية التي تتجاوز مساحاتها الفضاء العام وتعتدي على النساء بالتحريض العلني أو ممارسة العنف الفعلي ضدهن.

حوكمت النساء بتهم مختلفة، مثل “مضايقة الغير. المجاهرة عمدًا بالفحش والاعتداء على الأخلاق الحميدة والآداب العامة. إضافة إلى مضايقة الغير بوجه مخلّ بالحياء، ولفت النظر علنًا إلى وجود فرصة لارتكاب فجور. والاعتداء على الأخلاق، بتحريض الشبان القُصّر على الفجور وإعانتهم عليه. والإساءة إلى الغير عبر الشبكة العمومية للاتصالات”.

لم يتم توجيه تهم مثيلة للعديد من صنّاع المحتوى الرجال الذين أسسوا مجموعات رقمية حرّضوا فيها عمدًا على تعنيف النساء وتقتيلهن والاعتداء على مجتمع الكوير. آمنوا العقاب والمساءلة القانونية لدرجة مطالبتهم بترخيص أمني للخروج في مسيرة وطنية ضد مجتمع الميم عين لام والحقوقيات المساندات له.

هكذا ارتأت السلطة إلى الحفاظ على الآداب العامة وأخلاق المجتمع دون البحث في دوافع صانعات المحتوى الشابات اللواتي يبحثن عن اعتراف وتقدير اجتماعي. أوجدت السلطة طريقًا سهلًا لمراقبة كل الوسائل التعبيرية، دون القيام بدورها في تفعيل هياكل تعديلية قادرة على احتواء وتوعية وتثقيف نفس “الشبان القصّر/ات” الذين تدّعي خوفها عليهن/م من “فجورٍ” تزعم ترويج صانعات المحتوى له.

على مدار قرون، وجدت ومازالت تجد السلطات الأبوية والذكورية في مراقبة ومحاسبة ونصب مشانق علنية للنساء حلولًا مغلّفة بالوازع الأخلاقي. حلول تعفي الدولة من التفكير في بدائل تربوية واقتصادية وثقافية، مع ضمان حق صانعات المحتوى في التعبير.

إذ تعيدهن إلى مبدأ الصمت الإجباري للنساء، أو للدقة “الإخراس الممنهج” وعدم تجاوز الفضاء الخاص المتمثّل في البيت. كأنه اعترافٌ من الدولة أن أصواتهن وتعبيراتهن تخرج كرصاصات قاتلة للثوابت الاجتماعية الذكورية.

كتابة: يسرى بلالي

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد