لا اعتراف بأمومتكن.. أهلًا بكنّ في “برمانا هاي سكول”
“صورة لابني كرم بأول يوم مدرسة.. إن هذه الصورة غير موجودة، بسبب حرمان الطفل من أمه… نحن منتقاصص لإنه نحنا أمهات”..
هذا ما نشرته المناضلة النسوية الراحلة نادين جوني بتاريخ 3 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، مع بدء عامٍ دراسيٍّ آخر لها بعيدًا عن فلذة كبدها.
ابنها كرم، الذي لم تنفرد المحكمة الجعفرية فقط بطقوس حرمانه من حضن والدته، بل ساندتها بذلك المدرسة بأمرٍ من “الأوصياء الشرعيين- طليقها وعائلته”.
نادين، لم تكن الأم اللبنانية الأولى التي تعيش هذه المعاناة، ولن تكون الأخيرة في ظل منظومة تصرّ على تهميش الأمهات بسطوة مؤسساتها المختلفة بما فيها “التربوية”.
مدرسة “برمانا هاي سكول” نموذجًا..”ما إلنا شغل مع الأم”
إن كنت أم مطلّقة، منفصلة أو “لا سمح الله” تمتلكين الجرأة على الدخول في نزاع قضائي مع زوجك، فمدرسة “برمانا هاي سكول” هي حتمًا ليست المكان المناسب لمراعاة أمومتك ومصلحة طفلك/ طفلتك الفضلى.
لأنه، وبكلّ بساطة، وفقًا للمدير المالي والإداري، ريمون فغالي، فإن مدرسة برمانا “ما إلها شغل مع الأم” في حالة الانفصال، وتفضّل إبقاء علاقتها القانونية مع الأب فقط، صاحب “الولاية الجبرية والحق في تقرير مدرسة الطفل/ة” على حدّ تعبيره.
إقصاء الأمهات المطلّقات من القرارات المتعلقة بمتابعة تسجيل أطفالهن ووضعهن/م التعليمي، هو نتاج طبيعي لقوانين أحوال شخصية طائفية أبوية، تتحكّم بمصائر النساء، وتحوّل الأطفال إلى أدوات ضغطٍ و”تأديبٍ” أبويٍّ للنساء، خصوصًا اللواتي تحدّين القيود الذكورية وتجرّأن على كسرها أو الاشتباك معها.
وعلى مسافة صفر من الاشتباك، تجد الكثير من النساء أنفسهنّ بمواجهة روبوتات تأتمر بأمر أصحاب الوصاية المطلقة -الآباء طبعًا- وتنصاع لتوجيهاتهم. توجيهاتٌ في غالبيّتها كيدية، تستهدف إرادة الأمهات لتُحكم قبضة الأبوية على رقابهن، وتشاركها -سواء عن قصدٍ أو لا مبالاة- الإدارات “التربوية” في ذلك.
وعلى ما يبدو، فقد وقعت مدرسة “برمانا هاي سكول” في فخ التطبيع مع العنف والاستفراد الأبوي بالقرارات التعليمية، وإن كانت في كثير من الأحيان لا تصبّ في مصلحة الأطفال.
ففي ملفٍّ تتابعه منصة “شريكة ولكن”، حرصت إدارة المدرسة المذكورة على قاعدة “ما بسأل عن الإم”، في حال كان الأبوين منفصلين، على إعطاء الحق لنفسها بإسقاط صفة وحقوق الأمومة عن امرأة جلّ “جريمتها” قرارها بالإنفصال الزوجي. علمًا أن التعابير المذكورة أعلاها واللغة التي تشي بالتحيز والفوقية الأبوية، جاءت على لسان مدير المدرسة ريمون فغالي في معرض استفسار منصتنا عن سبب عدم تعاون المدرسة مع الأم والتجاوب مع مراسلاتها.
تفاصيل القضية.. كيدية أبوية بمباركة “تربوية”
وفي التفاصيل، فإن الأم، التي نتابع قضيتها، تخوض معركة قضائية مع زوجها منذ أكثر من عامين من أجل الحصول على حقها في الطلاق وحضانة طفلتها. وعلى الرغم من انتزاع الأم حق مبرم بحضانة طفلتها من المحكمة الجعفرية لحين بلوغ الطفلة السبع سنوات، إلّا أنها لم تسلم من الملاحقات الكيدية من قبل الزوج، الذي يصرّ على أخذ طفلته رهينة لتفريغ غضبه الذكوري ضدّ امرأة تجرأت على رفض سوء المعاملة والعنف وطلب الطلاق.
مدير الثانوية: “إذا أردتي الحصول على أية معلومات حول طفلتك تواصلي مع زوجك السابق”.
أما دخول الطفلة إلى المدرسة، فكانت حلقة جديدة من سلسلة معارك الأم لضمان سلامة وحقوق ابنتها.
فالأب، وبالرغم من كونه طرفًا في اتفاقٍ شفهيٍّ تعهّد بموجبه أمام القاضي الجعفري موسى السموري بتسجيل الطفلة في مدرسة تمّ تحديدها، مع مراعاة جودتها التعليمية العالية وقرب موقعها من منزل الأم الحاضنة، بيّت كيديته لما بعد إتمام إجراءات التسجيل.
وبعد قيام الأم بناءً على هذا الاتفاق بتسجيل طفلتها في هذه المدرسة ودفع كافة الرسوم المستحقة، وبعد استلام الأب البريد الرسمي الذي يؤكد تسجيل الطفلة في هذه المدرسة، قرّر بمزاجية وكيدية مطلقة لا تراعي بأي شكل حق الطفلة بالتعليم، التراجع عن قراره. واستنادًا إلى “ولايته الجبرية على الطفلة”، التي تمنحها إياه المحكمة الجعفرية، والتي يحق له بموجبها اختيار المدرسة والطبابة، تعنّت على تسجيلها في مدرسة “برمانا هاي سكول”، دون الأخذ بعين الاعتبار بعد المسافة وما يترتّب عن ذلك من ضغوطات على الطفلة والأم على حدٍّ سواء.
وبالفعل فقد قامت مدرسة برمانا بتسجيل الطفلة، دون طلب المعلومات حول الأم أو التواصل معها. وفور معرفة الأم بذلك، قامت بمراسلة المدرسة يوم 19 أيلول/سبتمبر 2024 للتوضيح للإدارة بأنها هي الحاضنة الشرعية لطفلتها، مع إرسال نسخة عن قرار الحضانة، ولإبلاغهم بأنها بحكم بُعد مكان سكنها عن المدرسة، فهي غير موافقة على تسجيل ابنتها التي لا زالت في مرحلة الروضة في مدرسة برمانا، لتجنيبها الإضطرار لخوض رحلة ساعتين على الأقل يوميًّا للوصول إلى المدرسة.
وقد أعلمت الأم، في البريد المذكور، مدرسة برمانا بأن ابنتها مسجلة مسبقًا في مدرسة أخرى. هذه الرسالة واتصالات المتابعة شبه الأسبوعية من قبل الأم لم تلق أي ردّ أو تعاون من المدرسة.
“بأي صفة بدنا نحكي مع الأم”!
كحاضنة شرعية، أوضحت الأم إصرارها على حقّ متابعة القرارات والتحديثات التربوية المرتبطة بابنتها، لما في ذلك من مصلحة للطفلة تربويًّا ونفسيًّا.
وبينما يصرّ الوالد على الاستفراد بالقرارات، وتحييد الأم، لم يكن تبرير المدرسة لموقفها أخف وطأةً من التجاهل المتعمّد لتواصلات الأم.
فقد أتى جواب المؤسسة التربوية، في معرض الردّ على استفسارات منصتنا، منحازًا بالكامل للسطوة الأبوية “نحنا بالحالات الطبيعية لمن يجي الأب بدو يسجل ولاده، منطلب حضوره مع الأم نتعرف عليهن، بس بحالات الانفصال ما إلنا شغل مع الأم”.
“بقلك المدير، إذا رحتي ع وزارة التربية أو حكيتي بالموضوع، رح يرفع دعوى ضدك لأنك عم تحكي عن المدرسة.”
ويستطرد ريمون فغالي، في معرض تبريره قرار عدم التجاوب لمدة ثلاثة أشهر مع الرسالة الإلكترونية الرسمية للأم بالتالي: “بأي صفة بدنا نحكي مع الإم” و “إذا أردتي الحصول على أية معلومات حول طفلتك تواصلي مع زوجك السابق”. كما لو أن وقوع الطلاق أسقط عن الأمهات أمومتهن وحقّهن الطبيعي بمتابعة شؤون أطفالهن التعليمية.
View this post on Instagram
ولكن مهلاً، لم ينته الأمر، بمن يفترض به قيادة مشعل “التربية والتعليم”، عند هذا الحد. بل تطوّر الحوار من حيّز النقاش الحقوقي والإنساني إلى بازار التهديد والتهويل الأبوي. فلم تتحمل إدارة المدرسة المذكورة امتعاض الأم من التحيّز للأب والتهميش المتعمّد لها، واعرابها عن استعدادها لمتابعة القضية مع الجهات المختصة إذا اضطرها الأمر لذلك، ليتأتي جواب المدرسة عبر الهاتف ومن ثم من خلال بريد الكتروني موثّق: “بقلك المدير، إذا رحتي ع وزارة التربية أو حكيتي بالموضوع، رح يرفع دعوى ضدك لأنك عم تحكي عن المدرسة.”
محاباة أبوية.. أهلًا بكنّ في “برمانا هاي سكول”
إذًا، أيتها الأمهات المنفصلات أو غير المحظوظات بالرضى الزوجي، رسالة برمانا هاي سكول إليكن هي: لا اعتراف بأمومتكن من قبلنا، لا يحق لكنّ طلب أية معلومات حول أطفالكن/طفلاتكن من المدرسة، لن تكنّ على علم أو إطلاع حول آداء أطفالكن/ طفلاتكن التعليمي، ولا وجبات الطعام التي يتناولونها/يتناولنها، ولا نموّهم/ن وتطوّرهم/ن العاطفي، ولا في حال وقوع أي حادث طارئ مع الطفل خلال الدوام المدرسي، ولا حتى في حالات مرض الطفل…
حتى وإن كنت أنت الأم الحاضنة لطفلك، أي أنت التي تحضّرينه للمدرسة وتأخذيه إليها كل يوم، فإن المدرسة غير مستعدّة للإعتراف بوجودك، ومن يعلم لربما لن تسمح لك بدخول حرمها في حالة إصطحابك للطفل! وكوني على حذر، فإذا تجرّأتي وفضحتي هذه الممارسات الذكورية فسنهدّدك ونحاول إسكاتك ونلاحقك في القضاء!
تجدر الإشارة إلى أن المدير “التربوي” لمدرسة “برمانا هاي سكول” لم يكتف بالمصادقة على العنجهية الأبوية وتبعاتها التسلطية، بل قرّر الدخول على خطّ نزاع قضائي بين زوجين منحازًا بفجاجة لسلطة الأب، ومتخطيًا أكثر من مهلة نهائية منحتها المدرسة للأب لإحضار الطفلة للمدرسة لضمان الإحتفاظ بمقعدها الدراسي. ففي الحالات الطبيعية، تمنح وزارة التربية الأهالي مهلة بضعة أيام فقط لحضور أطفالهم إلى المدرسة وإلّا فيفقد الأطفال تسجيلهم في المدرسة.
في هذا الحالة، لا تزال مدرسة برمانا تماطل لصالح الأب عبر إعطائه مهل وتجديدها لمدة تقارب ثلاثة أشهر، لم تحضر فيها الطفلة ولا حتى يومًا مدرسيًّا واحد.
وعلى الرغم من تذرّع المدرسة في حديث لمنصة “شريكة ولكن” بأن الحرب والأوضاع الإستثنائية تسمح لها، وفقًا لقرار وزير التربية بعدم الإلتزام بمهلة الـ15 يوم وفقًا لتعبير المدير، نسأل إدارتها ووزارة التربية اليوم وبعد إنقضاء الأوضاع الاستثنائية وصدور قرار رسمي عن وزير التربية بإستئناف التعليم الحضوري منذ يوم 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، ما هو المبرّر الآن لمحاباة الأب والانحياز لكيديته تجاه الأم والطفلة والإبقاء على مقعدها الدراسي محجوزًا بعد أكثر من خمسة أسابيع من عودة المدارس وعدم حضور الطفلة إلى المدرسة؟
وهل ستتسامح وزارة التربية مع تجاوزات مدرسة أمعنت في إقصاء وإهانة وتهديد أم؟ وهل هو مقبول بالنسبة لوزارة التربية والتعليم وقضاء الأحداث حرمان طفلة من حقها في التعليم بسبب انحياز مدرسة وكيدية أب قرّر حرمان ابنته من حقها بالالتحاق بالمدرسة التي سبق وتم تسجيلها فيها بموافقته، قبل تحرّك مزاجيته نحو فتح جبهة مدرسة برمانا هاي سكول لممارسة العنف والإبتزاز بحق الأم؟
هكذا يتحكّم البازار الذكوري بالنساء، فمن العائلة المستحوذة على الوصاية إلى المحكمة الجعفرية، ومن ثم المدرسة، تواجه الأمهات المنفصلات والمطلقات أعتى أنواع الظلم، بما يشبه القصاص والعقوبة على قرار الطلاق.
وبالعودة إلى المناضلة الراحلة نادين جوني، التي أصبحت رمز للأمهات المنتفضات ضد اللا عدالة، فهي كانت تعلم أنها لم تكن حالة منفردة ولن تكون. وما الحالة التي عرضناها في هذا المقال إلًا دليلًا على إمعان بعض أدوات المنظومة في التضييق على الأمهات، تنفيذًا لأجندة أبوية.
نادين ومن قبلها وبعدها أمهات كثيرات، أصرّين وسيبقين صوت الحق الهادر لصالح الأمهات اللواتي يُحرمن من حقّهن بمتابعة أمور أبنائهن/بناتهن التربوية، بقرارٍات أبويٍّة مجحفة تنصاع خلفها المؤسسات التعليمية وتنفذها بكلّ تحيّزٍ واستهتار “تربويٍّ”.