
إرث نظيرة زين الدين.. النسوية العربية التي سبقت عصرها
“إذا كانت إعادة قراءة التاريخ تشكل هدفًا أكاديميًا يبغي المعرفة ويطلب العلم لغايةٍ في حد ذاته، فإن إعادة قراءته من منظور دور النساء فيه يعتبر هدفًا سياسيًا واهتمامًا بالمشاركة الإيجابية في الواقع الثقافي والاجتماعي من أجل إحداث تغييرٍ نحو حياة ثقافية واجتماعية أكثر عدلًا وأكثر توازنًا لجميع أفراد المجتمع.”
منذ أن كنت طفلة كانت تلك القيود المفروضة عليّ كفتاة تزعجني بطريقةٍ لم أستطع وصفها آنذاك، ولم أفهم لمَ تلك العبارات الذكورية النمطية تثير حفيظتي لدرجة العراك مع مرددها. وعندما كبرت وتوفرت لدي مصادر وطرق للبحث، أدركت أن ذلك السخط الفطري كما أسميه تجاه النظام الأبوي وأيدولوجيته الذكورية نابع من غضبي تجاه سلب حقوقي أمام المميزات التي يحظى بها الرجل في مجتمعي، فوجدت مسمى يصف مطالبتي بحقوقي كإمرأة يعرف بـ”النسوي”. مصطلحٌ لم أجده لدى الغرب كما يُدعى، بل تماهيت معه منذ صغري وصدافته في العشرينات من عمري عندما انغمست في الكتابات والقراءات النسوية العربية قبل الغربية.
كثيرًا ما أسمع الادعاء بأن “النسوية حركة غربية دخيلة”، لكن الحقيقة مختلفة. فالتاريخ العربي يعجّ بنساء ناضلن من أجل حقوقهن منذ القرن التاسع عشر، بل حتى في العصور الإسلامية المبكرة. كما أنّ الحراك الحقوقي موجود في شتى بقاع العالم منذ القدم وليس “اختراع غربي” لتحرير النساء و”تسليعهن” كما يقال.
وليس هناك أفضل من نسويات القرن العشرين لمناهضة تلك الادعاءات، وفي هذا المقال نسترجع جزءًا من تاريخ نسوية عربية منسية ورائدة من رائدات الحراك النسوي العربي، عبر ما دوّنته نسوية عربية معاصرة.
من هي نظيرة زين الدين؟
في نهاية عشرينيات القرن الماضي قامت شابة لبنانية لم تتجاوز العشرين من عمرها بالثورة على الحجاب القسري للنساء، وما يفرضه عليهن من نسق حياةٍ يقصيهن عن خوض ميادين الحياة. فلم تثر على الحجاب كزيٍّ فقط، بل على ما هو أبعد من ذلك. ثارت على الأفكار والدلالات والمعتقدات التي جعلته سمةً جندرية وركيزة في تنظيم الاختلافات بين الرجال والنساء وجوهرتها.
نظيرة زين الدين كاتبة، ناقدة وسياسية لبنانية مسلمة، ولدت سنة ١٩٠٨ في بعقلين لأسرة درزية معروفة. إثر تقلّد والدها سعيد زين الدين عدة مناصب قضائية في بيروت وقوزان وحلب وأضنة والآستانة، أُتيح لنظيرة فرصة الترحال وتلقي العلوم من شتى الأماكن.
تعلمت القراءة والكتابة باللغة العربية والإنكليزية في صغرها على يد معلمة خاصة، وقليلًا من التركية بسبب تنقل أسرتها بين لبنان وتركيا. وحصلت على شهادة البكالوريا الفرنسية في العلوم العالية والآداب اللغوية عام ١٩٢٨، فبدأت بمزاولة العمل الصحفي في عشرينياتها حيث سخّرت قلمها للدفاع عن النساء والمطالبة بحقوقهن.
الفتاة ضد الشيوخ
بينما نبحث كنساء عربيات معاصرات عن نصٍّ متماسك يعكس حاجاتنا الحقيقية ويتقاطع مع نمط عيشنا، تطل علينا مناضلة نسوية “الست نظيرة” كماردٍ منتصبٍ في قعر قمقم، بنصٍّ صاغته تحت وطأة الحصار ووضعت فيه روحها الحقيقية، بقوة واندفاع الثوار، ببهاءٍ وأصالة بعيدة كل البعد عن المصالح والمكتسبات الشخصية.
في عام ١٩٢٨، أصدرت نظيرة زين الدين كتابها الأول “السفور والحجاب”، الذي تطرقت فيه إلى موضوعات محرّمة لم يجرؤ أحد على الكتابة فيها بشكلٍ صريح كما فعلت. فناقشت مواضيع مثل الحجاب والاختلاط وقوانين الأحوال الشخصية التي ظلت حصرية فقط بالرجال، يفتون فيها بما ينسجم مع مصالحهم.
اقتحمت نظيرة زين الدين اللغة المكتوبة لهذه المواضيع، فانتزعت حقوقها اللغوية ثائرةً ومستفزةً للتقليديين/ات والمحافظين/ات.
إثر توجّهها إلى الرجال باعتبارهم العائق أمام تحرر النساء، تعرضت لتهديدات كثيرة، لكنها لم تستطع إجبارها على التراجع. إذ تمت مهاجمتها بعدة طرق إما بنقدها شخصيًا أو بنقد كتابها. فقامت نظيرة بالرد على مهاجميها بكتاب “الفتاة والشيوخ” الذي نشرته بعام ١٩٢٩، فكتبت الدكتورة عايدة الجوهري عنها:
“تستعيد نظيرة زين الدين حقوقها اللغوية، وتؤنث اللغة، وتنبش في ذاكرة ذكرية عنيدة. وهي لا تتحدى سلطة الرجل فحسب، بل تتحدى سلطة السائد الثقافي الذي يجعل الرجل يحتكر اللغة المكتوبة ويختار معانيها ومجازاتها”. فبعد أن كانت المرأة موضوعًا لغويًا أصبحت ذاتًا لغوية، وبعد أن كان الرجل هو العالم بها والمتحدث عن حقيقتها وصفاتها على مدى قرون، أصبحت المرأة تتكلم وتتحدث وتشهر إفصاحها بواسطة القلم الذي ظلّ مذكرًا وأداةً ذكورية محرمةً على النساء اللواتي كنّ يكتفين بالحكي والشكوى الشفهيين.
إستعادة مشروع نسوي مهمش
قامت الدكتورة عايدة الجوهري عن طريق كتابها “رمزية الحجاب مفاهيم ودلالات” الصادر من قبل مركز دراسات الوحدة العربية، باستعادة إرث رائدة نسوية منسية أو بالأحرى مغيبة. نسويةٌ لبنانية جابهت السلطة السائدة بالقلم، مودعة أفكارها وحججها في كتابي “السفور والحجاب” و”الفتاة والشيوخ”.
حين استعادت عايدة الجوهري نضال نظيرة زين الدين، لم تستعدها لأنها شخصية نسائية بل لأنها شخصية نسوية “هُمّشت وقلّما تُذكر”، ولأننا “نتساءل كيف واجهت امرأة ذاك العصر إشكاليات ما زلنا نواجه بعضها؟”، ما دفع المؤلفة إلى دراسة حياتها وأعمالها وتحليل خطابها النسوي ومنهجها التوفيقي، متعمّدةً خلال بحثها إبراز صوت هذه الشخصية النسوية وتأكيد اختلافها عن غيرها من الدعاة إلى تحرير النساء.
تذكر المؤلفة تعامل نظيرة زين الدين مع الحجاب كعلامةٍ، والعلامة رمز يدل على شيءٍ آخر يتخطاها ويتوارى في ثنايا مرجعيتها، أي في مجموع التصورات والمعارف المتصلة بها. كما تتجاوز هذه العلامة بدلالاتها الإضافية الإيمان والتقوى والواجب الديني، إلى دلالاتٍ أخرى تكمن في ماهية النظرة إلى النساء ككائنات جنسية دونية مثيرة للفتنة، ما يحتم الحجر عليها وتقييدها وإخفاء ملامحها وتحديد كافة أدوارها الخاصة والعامة معًا.
وصلت الدكتورة عايدة الجوهري إلى هذه النتائج والاستنتاجات عن طريق استخدام تقنية تحليل المضمون لخطاب زين الدين الذي يشكل مشروعًا فكريًا بحد ذاته. مشروعٌ سبقت فيه كاتبات نسويات كثيرات في العالم العربي الإسلامي.
من هذا المنطلق، فكّكت الجوهري خطاب زين الدين في سياقه التاريخي الاجتماعي الثقافي المعرفي، مشيرةً إلى أن مأزق الفكر النسوي العربي يكمن ولم يزل في جمود الفكر العربي نفسه. فالذهنية العربية تتسم بالطابع التقليدي المحافظ الذي يستعبد العقل حفاظًا على وجود النظام الديني الاجتماعي السائد. كما بينت نقض نظيرة زين الدين لمفاهيم ومسلّمات خاطئة تتهم النساء بالدونية ونقصان العقل وإرجاعهما إلى الأصل في تكوينها، عبر المواجهة بالحجج الدينية الخالصة واستخدام الأدواتهم الفقهية نفسها لإدانة لا مشروعية تسلط الرجال ولا مشروعية احتكارهم للاجتهاد في الدين.
في سياقٍ متصل، طالبت نظيرة بحقوقها من جانبٍ مدني حقوقي حداثوي، إلا أنها ركزت على استخدام الطروحات الدينية بغية تسويغ طروحات معاصرة حديثة وليدة مجتمعات مدنية انسانية. وبهذا، تتراوح جهودها ما بين إضفاء شرعية قديمة على أفكار معاصرة، وإضفاء شرعية معاصرة على أفكار قديمة. ولا يعد هذا النوع من الطروحات غريبًا، إذ تبنت منهجًا توفيقيًا لمحاولة الملاءمة بين القديم والجديد، والتراث والواقع، والشرق والغرب، والدين والعلم. هذا المنهج الذي يقوم على الربط فيما بين مطالب وحاجات راهنة إنسانية وسياسية، مع مقولاتٍ مقدسة تُستخدم كثيرًا في قضايا النساء في الوطن العربي الإسلامي. كما يقوم على الجمع بين النقيضين، الخطاب التقليدي والخطاب الحداثي، ويضعهما على قدم المساواة فيما يتناقضان جوهريًا.
إن تبني المنهج التوفيقي يعكس المعضلات التي تعانيها النساء العربيات على كافة الأصعدة، وانعدام الرفاهية التي تجيز لهن التصادم المباشر لا سيما مع قوى تتمسك بالتراث لتبرير تدابير واستراتيجيات تمعن في تحييدهن وعزلهن عن كافة الفضاءات.
بواقع الحال، النساء العربيات عمومًا، والمسلمات خصوصًا، يعانين على جميع الأصعدة، وقضاياهن تخاض على كافة المستويات. وإن إغفال جانب واحد من الجوانب التي تحاصر النساء يؤدي إلى تراجع في مكتسباتهن الحقوقية. لذلك من الأجدى استخدام منهج نسوي يتصادم مع المنهج السلفي التقليدي يعيننا كنساء على اكتساب خطابنا الخاص وارتفاع أصواتنا مطالبةً بحقوقنا أمام منظومة تعيقنا وتهمشنا وتوظفنا سياسيًا من أجل صراعات لا متناهية، وأمام خطابٍ عربيٍ معاصر إحدى سماته نفي الآخر. فيبقى السؤال الأهم: كيف يمكننا، كنساء عربيات اليوم، أن نستفيد من إرث نظيرة زين الدين ونواصل النضال بأساليب جديدة تناسب عصرنا؟