
دبي بلينغ: أموال مغمسة بالدماء ووهم التضامن مع القضية
سراب الثراء الخليجي
أضحت صورة المليونير/ة الخليجي/ة الغني/ة في المخيلة العالمية انعكاسًا نمطيًّا للثراء وللترف والوفرة في الشرق الأوسط. فمن العلامات التجارية الشهيرة، إلى الأزياء الراقية والحياة المدثرة بـ”الفخامة”، تنشر برامج “تلفزيون الواقع” ثقافةً استهلاكية مفرطة، مثل سلسلة “دبي بلينغ” وما تضمنته من استعراضاتٍ فخمة على وسائل التواصل الاجتماعي. وتترسّخ هذه الصورة عبر مجموعة مؤثراتٍ تتمحور حول معايير الجمال وأسلوب الحياة البعيدين عن متناول النساء الشرق أوسطيات، كتصدير صورة الأنوثة المفرطة والملامح “المثالية” والثراء الفاحش. إذ يقوم نمط الحياة الخليجية الفارهة والساحرة على الثراء والتفرد، وغالبًا ما يكون منفصلًا عما تعانيه المنطقة بشكلٍ أوسع.
تعمل دول الخليج، بثرواتها النفطية الهائلة، دورًا مركزيًّا في الرأسمالية العالمية. وقد أعادت مدن مثل دبي والدوحة تصنيف نفسها كساحات لفاحشي/ات الثراء، فتتباهى بكونها ملاذات تجارية معفاة من الضرائب، ومقرًّا للسياحة الفاخرة، في حين أنها تمتلك اقتصادات مفرطة بالاستهلاكية، مبنية على استغلال العمالة الوافدة.
تُعد هذه المدن بمثابة رمز للهيمنة الاقتصادية والإفراط في الثراء، حيث تقدم خيالًا وحلمًا يطمح إليه العرب الذين/اللاتي حرمهم/ن الاستعمار من حقوقهم/ن بشكلٍ ممنهج. ومع ذلك، فإن هذا الثّراء محصور في إطارٍ نيوليبرالي لا يمكن أن يعمل في مواجهة المصالح الإمبريالية الغربية، بما في ذلك المشروع الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي. فالاقتصادات الخليجية متشابكة ومتداخلةٍ بعمقٍ مع شبكات رأس المال العالمية نفسها التي تموّل المجمعات الصناعية العسكرية وتدعم الاحتلال.
إن نموذج المليونير/ة الخليجي/ة لا يعكس ببساطة فائضًا فرديًّا، بل هو امتداد للهوية العربية النيوليبرالية التي تلهث نحو الشرعية من خلال الثروة والقبول الغربي. وغالبًا ما تقوم النخب العربية التي تناصر فلسطين بالمجاهرة بذلك ضمن إطار مستساغ ومقبول من قبل الأسواق العالمية، مع تنزيه نفسها عن السياسات الراديكالية المناهضة للاستعمار. قد يرتدون/ين الكوفية وينشرون/ن البيانات المؤيدة لفلسطين ويتبرعون/ن بالمساعدات الإنسانية، لكن حاشى أن يُخضعوا/ن الهياكل الاقتصادية التي تدعم ثرواتهم/ن والاحتلال الذي يدّعون/ين معارضته للمساءلة! هذا لا يعني أن الثروة الشخصية تنفي نفيًا تلقائيًّا التضامن مع فلسطين، بل أن التضامن لا يمكن أن يكون له معنى ووقع دون إخضاع رأس المال للإستجواب والمساءلة. ويتطلب ذلك تفكيك كيفية تولّد الثروات، مع معرفة من المستفيد منها، وعلى حساب من.
المال الخليجي والأزمة السودانية
يمتد هذا التشابك مع الإمبريالية العالمية إلى ما هو أبعد من فلسطين، ويتجلى في الصراعات الدّائرة في جميع أنحاء المنطقة. وتُعد أزمة السودان الحالية مثالًا مباشرًا على كيفية إسهام الثروة الخليجية والتلاعب السياسي في تأجيج الفتن وعدم الاستقرار. فقد لعبت الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية أدوارًا محورية في تفاقم الكارثة الإنسانية في السودان، حيث اتُهمت الإمارات بتمويل وتسليح قوات الدعم السريع بشكلٍ مباشر، وهي الميليشيا العسكرية المسؤولة عن التطهير العرقي وارتكاب الفظائع والمجازر الجماعية. في حين أن السعودية، وعلى الرغم من تنصيب نفسها كوسيط، استمرت في دعم القيادة العسكرية السودانية.
وعلاوة على ذلك، فإن الشبكات المالية التي تموّل أنماط الحياة الفاخرة في الخليج هي نفسها التي تتورط في استخراج موارد السودان، من الذهب إلى الموارد الزراعية، ما يعمّق الاستغلال الاقتصادي للبلاد.
تسليع النساء العربيات
ينعكس هذا النمط من التواطؤ وتعمّد الاستغلال وخلق عدم الاستقرار الإقليمي بشكله الأوسع على الطريقة التي تتموضع بها النخبة الخليجية، بما في ذلك شخصيات مثل الأخوات قطان؛ رائدتا أعمال وخبيرتان في صناعات التجميل والأزياء العالمية.
وباعتبارهما مؤسِّستي هدى بيوتي وخيالي (كيالي)، فإنهما تضعان -من خلال علامتيهما التجاريتين الفارهتين- النساء العربيات في مكانةٍ إقصائية. ففي وقت تنمّطان معايير جمال الشرق أوسطي وتصدّرانها عالميًّا، تبيع علامتيهما التجاريتين أوهامًا حول الأنوثة المفرطة المبهرة والجاذبة، بينما تبقى هذه المعايير التسليعية وتلك الأوهام بعيدة عن متناول معظم النساء العربيات، لغلاء المنتجات وحصر إمكانية شرائها بشريحة معينة. كما حرصت الشقيقتان أيضًا على خلق صورة تتسم بالأصالة والشفافية في عالم صناعة التجميل، جعلتهما تبدوان -حتى وقتٍ قريب- محصنتين من الانتقاد.
عام 2023، تبرعت الشقيقتان بمبلغ مليون دولار أميركي للمنظمات الإنسانية في غزة، ما عُدّ استثناءً ملحوظًا وسط صمت الكثير من المشاهير. وقد تم الإشادة بتبرعاتهما الخيرية، لا سيما لنصرة القضايا الفلسطينية، باعتبارها حالات نادرة من التضامن الحقيقي في سوقٍ غالبًا ما يتسم بالناشطية الشّكلية أو القائمة على المظاهر. وقد أدى هذا العمل الخيري، إلى جانب حضورهما القوي الذي يعكس الشفافية والانفتاح على وسائل التواصل الاجتماعي، إلى تعزيز ثقة جمهورهما، ما جعلهما استثناءً وسط لامبالاة قطاع الشركات الكبرى.
خيالي والأسهم الخاصة ورأس المال الخاص
في شباط/فبراير 2025، أعلنت شركة هدى بيوتي أنها باعت علامتها التجارية للعطور (كيالي) “خيالي”، التي كانت جزء من “هدى بيوتي”، إلى المؤسِّسة المشاركة منى قطان وشركة الأسهم الخاصة “جنرال أتلانتيك”. هكذا، أصبحت شركة “خيالي” مستقلة عن “هدى بيوتي”، مع بقاء منى قطان في منصب الرئيسة التنفيذية للشركة.
وبعد عملية البيع هذه، تمكّنت هدى القطّان من استعادة ملكية “هدى بيوتي” بالكامل، من خلال إعادة شراء الحصة التي كانت تمتلكها شركة “تي إس جي كونسيومرز بارتنرز” منذ العام 2017.
فأين تكمن المشكلة؟ المشكلة هنا، في أن شركة “جنرال أتلانتيك”، التي ساهمت بشراء أسهم “كيالي” من “هدى بيوتي” تعمل بشكلٍ وثيق مع مؤسسات مالية كبرى مثل “جي بي مورغان”، التي تربطها علاقات طويلة الأمد بالكيان الصهيوني. بما في ذلك دعمها لقيام دولة إسرائيل، وجنيها الأرباح من تداول العملة الإسرائيلية خلال فترات عدم الاستقرار، ومشاركتها في صناعة الأسلحة.
وعلاوة على ذلك، استثمرت شركة جنرال أتلانتيك ما يقارب المليار دولار في الشركات الناشئة الإسرائيلية على مدى السنوات الثلاث الماضية، بل وأنشأت مكتبًا في تل أبيب لتعزيز وجودها في “النظام الاقتصادي الإسرائيلي الذي يتميز بريادة الأعمال”.
كما قام مصرف “غولدمان ساكس إنترناشيونال” بدورٍ استشاري مالي لهدى بيوتي خلال مرحلة انتقال “خيالي”. وبالنظر إلى التعاملات المالية للبنك مع إسرائيل، بما في ذلك الاكتتاب في السندات الحكومية الإسرائيلية والاستفادة من الاستثمارات ذات الصلة بالجيش الصهيوني، فإن ذلك يثير المزيد من المخاوف حيال دعم الشركات المرتبطة بهذه الشبكات المالية.
كل هذا يؤكد مدى ارتباط التمويل العالمي ارتباطًا وثيقًا بالأجندات الإمبريالية، ما يجعل فصل الأسهم الخاصة عن رأس المال الصهيوني أمرًا مستحيلًا. كما أنه يثير تساؤلات جدية حول كيفية توفيق الشقيقتين بين تراكم ثرواتهما، وبين أي التزامٍ حقيقيٍّ تجاه القضية الفلسطينية.
ومن غير الواضح ما إذا كان فصل شركة “خيالي” عن “هدى بيوتي” أمرًا ممكنًا دون الاعتماد على رأس المال المرتبط بالصهيونية. وحدهما هدى ومنى قطان هما اللتان تعرفان حقيقة ومدى الخيارات المتاحة أمامهما. ربما كان الأمر سيتطلب تقليص حجم الشركة أو البحث عن بدائل من المستثمرين/ات أو انتظار مسار أكثر أخلاقية للمضي قدمًا. ولكن في نهاية المطاف، هذه خيارات والخيارات لها عواقبها.
بناء مستقبل من المقاومة
إن الطريقة الأكثر فعالية لفك الارتباط بالأنظمة الإمبريالية لا تكون من خلال الإيماءات الرمزية، بل من خلال إعادة توجيه الدعم بشكل فعال نحو الشركات الصغيرة، لا سيما تلك المملوكة بشكلٍ مستقل والتي تدار بشكل لا يستدعي الشبهات. فالاستثمار في الاقتصادات البديلة، وإعطاء الأولوية للعلامات التجارية التي يحركها المجتمع، وتحدي فكرة أن نجاح الأعمال التجارية يجب أن يكون مرتبطًا دائمًا بصفقات الأسهم الخاصة الكبرى هي طرق ملموسة لمقاومة تطبيع التشابكات المالية غير الأخلاقية.
يتطلب التضامن الحقيقي مع فلسطين ما هو أكثر من مجرد منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي وتصريحات شكليّة. إنه يتطلب تصفية حساب مع هياكل السلطة التي تضخّم الثروة الخليجية، بينما يتم الاستمرار في حرمان الفلسطينيين/ات من ممتلكاتهم/ن. الأمر بحاجة لرفض فكرة مفادها أن مقياس النجاح العربي يقاس تبعًا لدرجة التقارب مع النماذج الرأسمالية الغربية.
وبالنسبة لمن تـ/يسعى في الخليج إلى إظهار تضامن حقيقي مع فلسطين، عليهم/ن أن يعلموا/ن أن المسألة تتطلب أكثر من مجرد إيماءات رمزية، بل تستدعي بالضرورة مقاومة مادية. وهذا يعني رفض جاذبية رأس المال الغربي، وسحب الاستثمارات من الشركات المرتبطة بالأنظمة القمعية، وإعادة توزيع الثروة بشكلٍ فعالٍ على الحركات التي تناضل من أجل تحرير فلسطين. ما يعني تبنّي هوية عربية لا تُختزَل بالإسراف والاستهلاك المفرط، بل بالنضال الجماعي والصمود. وطالما استمرت الرأسمالية، سيظل رأس المال مبنيًّا دائمًا على أكتاف المضطهدين/ات والمظلومين/ات.
التحدي إذن هو إعادة تعريف النجاح، ليس كتراكم شخصي بل كتحرر جماعي.
كتابة: نازلي رادبوي