
إقرار قانون العمل المرن عن بُعد.. إنجاز تشريعي ينقصه صياغة إلزامية
منذ جائحة كورونا وتحوُّل العمل في أغلب المؤسسات العامة والخاصة إلى العمل عن بُعد، بات التشريع ضررويًّا لتنظيم هذا القطاع.
واليوم، بعد أربع سنوات من الإقتراح التي تقدمت به لجنة المرأة والطفل برئاسة النائبة عناية عز الدين، أقرّ مجلس النواب اللبناني في جلسته الأخيرة، قانون العمل عن بُعد، الذي يرمي إلى تعديل أحكام قانون العمل ليشمل العمل المرن.
بالدرجة الأولى تستفيد النساء من هذا القانون، أي العمل الجزئي وعن بُعد والموسمي في القطاعين الزراعي والسياحي، لتأمين الحماية الإجتماعية لـ”65% من القوى العاملة من النساء اللواتي يعملن في القطاع غير النظامي وغير المصرّح عنهن ولا يستفدن من الحقوق التي نصّ عليها قانون العمل ولا تقديمات الضمان الاجتماعي”.
لِمَ التركيز على النساء تحديدًا؟
لأن الكثير من أعمال الرعاية مفروضة عليهنّ، كما أن هناك مرحلة من حياتهن (مرحلة الولادة، أو بمجرّد الزواج أحيانًا) يتراجع فيها أداؤهنّ من الناحية العملية، لأن بيئة العمل ليست صديقة لها بالمجمل أو تضطرر لتكون الحلقة الأضغف في الأسرة وتترك عملها نتيجة المهام التي تقع على عاتقها.
تجارب النساء: العمل دون حماية قانونية
يارا: “لا تعويضات نهاية خدمة، لا إجازة أمومة، وأحيانًا لا إجازات أسبوعية”.
تتشابه تجارب النساء العاملات في أشكال العمل المرن، وعوائق عدة تواجهم خلال العمل، أبرزها عدم تواجد عقود عمل، إضافة إلى تردي خدمات البنية التحتية التي هي أساس عملهن، كغياب الكهرباء، وتردي شبكة الإنترنت وارتفاع أسعارها، بالإضافة إلى الصيانات الطارئة للمشاكل التقنية كصيانة الحواسيب. هذا العبء المادي للترتيبات اللوجستية تتحمّله النساء دون اي تقديمات من أصحاب العمل.
تحدثت يارا (اسم مستعار 31 عامًا)، إحدى العاملات في مجال الأبحاث عن تجربتها في العمل عن بعد، لـ”شريكة ولكن”، قائلةً إن “كمية المهام كبيرة وليست متوازنة مع الدخل”. ومضيفًة: “نوجه كنساء معوقات خاصة بمرحلة الأمومة. خلال عملي من المنزل قد اضطر إلى ترك العمل للاهتمام بطفلي، ما يؤدي إلى انقطاعي عدة مرات عن العمل”.
غالبية النساء اللواتي يعملن في أشكال العمل المرن، لا يوجد أي عقد قانوني بينهن وبين الجهات اللاتي يتعاونّ معها، وبالتالي لا يوجد أية ضمانات تضمن حقوقهن كعاملات، و لا يملكن الحق بإجازة أمومة”.
فيارا التي تعمل بعقد شفهي مع عدة مؤسسات إعلامية، تتخوّف من إن صيغة التعاون هذه لا تضمن لها “لا تعويضات نهاية خدمة ولا غيرها، ولا حتى إجازة أمومة. إذ أن عملها مرتبط فقط بتسليم المواد، إضافة إلى احتمالية العمل في أيام العطل، وأي تأخير هو محسوم من الدخل”. واقعٌ يؤكد ضرورة “خلق حلّ جذري لهذه العوائق، يضمن وضع إطار تنظيمي للعمل عن بُعد”.
تتقاسم الصحافية رنا جوني مع يارا شعورها بغياب الحماية القانونية نتيجة العمل عن بُعد. فرنا، التي تسكن في إحدى قرى الجنوب، فُرض عليها العمل عن بُعد منذ سنوات، لابتعادها جغرافيًّا عن المدينة. إذ تشعر جوني بأنها تعمل كمقدمة خدمات، ولست موظفة عادية. في العمل عن بُعد لا تتكفل أي مؤسسة اعلامية ببدلات أتعاب ناتجة عن إصابات عمل، أو أي خدمات صحية واجتماعية”.
تعمل رنا بعقدٍ شفهيٍّ “لا قيمة قانونية له”. في هذا السياق، تقول في حديثها لـ”شريكة ولكن” إن “العمل دون إتفاق مكتوب، ينتج عنه حالة من عدم الإستقرار، ولست موظفة عادية ينطبق عليّ شروط العمل، وأعيش بحالة قلقٍ دائم في حال قررت المؤسسسة توقيف التعاون بشكلٍ مفاجئ أو تخفيض الميزانية مقابل المواد الصحافية التي أعمل عليها”.
وتضيف جوني: “وما نحصل عليه ماليًا قليل بالنسبة للجهد والعمل الذي نقوم به”، مؤكّدةً ما ذكرته يارا حول تجاهل المشاكل التقنية، فـ”هم لا يقدمون سوى الدعم المعنوي”.
حقوق عدة، يتهرّب منها أرباب العمل، أمام القانون. في هذا السياق، تلفت رنا الجوني إلى ضرورة “وجود قانون ونقابة تحمينا، تضمن الحصول على الحقوق الطبيعية التي يضمنها قانون العمل”. وإذ من المفترض أن “تحمي وزارة الإعلام كل المؤسسات الإعلامية والعاملات/ين فيها، ولا أن نعامل مجرّد كفريلنسر وغير موظفات/ين”، مبيّنةً أنه “حتى وزارة العمل لا تقدم لنا أي خدمة قانونية، فنحن مهمشين/ات من هاتين الوزارتين، والدولة لا تعترف بنا كموظّفات/ين”.
رنا، التي صمدت في بلدتها الجنوبية لتغطية الحرب مع طفلها الذي لم يكن حينها قد أكمل عامه الأول، تواجه أيضًا مجتمعًا ذكوريًا، وتعليقات مسيئة، كونها امرأة تركّز على عملها في سعيها الدائم للتحدي والنجاح. في حين تضطر لمضاعفة جهودها لإثبات كفاءتها واستحقاقها للعمل، مقابل حقوق غائبة.
إقرار قانون العمل عن بُعد
بعد أربع سنوات من الجهد، أقرّ مجلس النواب اللبناني قانون العمل المرن. توضّح النائبة عناية عز الدين في حديثها لــ”شريكة ولكن”، أن هذا القانون “أتى نتيجة مسار بدأ مع بدء الأزمة الاقتصادية والنقدية، والتي طُبعت آثارهما السلبية على واقع النساء الاقتصادي والنفسي. إذ وردت تقارير عن ازدياد الفقر لدى النساء ونقص الأمن الغذائي وارتفاع نسبة الكآبة، في ظل الإقفال العام في البلد نتيجة انتشار فيروس كورونا”.
وأشارت عز الدين إلى أن “الفئة المستهدفة بشكلٍ أساسي هي النساء، إذ انطلق الاقتراح من التحديات الاقتصادية التي تواجههن في سوق العمل اللبناني ربطًا بالموروثات الاجتماعية والثقافية التي تحمّلهن بالدرجة الأولى الأعباء الرعائية”.
وعن واقع النساء لفتت إلى أنه “لاحظنا أن هشاشة النساء العاملات تفوق بأشواط هشاشة الرجال العمال، خصوصًا لجهة الاقتطاع من ساعات العمل. وبعد الاستماع إلى تجارب عاملات والتحديات الاقتصادية التي يواجهنها، واستصراح آرائهن في استمارات إلكترونية، والاستعانة بدراسات أجرتها منظمات دولية، تبيّن أن النساء في لبنان يضطررن لقبول شروط عمل لا تتطابق مع معايير قانون العمل لحاجتهن إلى أعمال مرنة لا تتعارض مع الأعباء الأسرية، مع احتمالية فقدان فرص العمل، لا سيما بعد الولادة وغياب حاضنات أطفال آمنة”.
و”لأول مرة”، بحسب النائبة، “استُخدمت جلسات الاستماع كأداة برلمانية، وفق منهجية اعتمدت على إرسال استبيان أونلاين للجهات المعنية على صفحة المجلس النيابي. كما شاركت لأول مرة جمعيات نسائية وسيدات أعمال صغيرة ومتوسطة بالمناطق الريفية. وبعد تحليل النتائج تبين أن 65% يقمن بأعمال غير منظمة ولا يحظين بالحماية القانونية او الإجتماعية، وكنّ عرضة للصرف من العمل، أو الاقتطاع من الرواتب، أو تقليل ساعات العمل دون أي نوع من التعويض أو المحاسبة”.
قانون العمل غير شامل لأشكال العمل المرن، وتم تعديله ليواكب التطور التكنولوجي، وقد تبين أن “القانون بتطبيقاته التقليدية قاصر عن استيعاب ترتيبات العمل المرنة والعصرية والمحفزة للإقتصاد. ومن أبرز التحديات التي تواجه القانون تتركّز حول كيفية تأمين موارد للصندوق الوطني للضمان الإجتماعي. فبعد إقرار قانون العمل ستكون الخطوة الثانية تأمين مصادر تمويل الحماية الاجتماعية عبر دراسة الكترونية مع الضمان الاجتماعي. وفق عز الدين، “ونحن مستمرون بمسار الحماية والتمكين”، علمًا أن “القانون وتعديلاته يشمل جميع العمال، رجالًا ونساءً”.
وحول الأعباء الرعائية المؤنّثة، لفتت عزّ الدين إلى أن “أشكال العمل المرن، يفتح باب المشاركة في موضوع الرعاية، إذ أن الانتقال من عملٍ كاملٍ إلى جزئي سيكون متاحًا للنساء والرجل معًا”، موضحةً أنه “يجري العمل أيضًا على الإصلاحات المطلوبة لناحية التدريب المهني وإمكانية الوصول إلى خدمات رعاية آمنة الأطفال/ الطفلات بأسعار مقبولة، لتحفيز النمو لديهم/ن ضمن معايير السلامة المطلوبة”.
القانون غير ملزم والعبرة في التطبيق
تفند المحامية إشراق بيضون في حديثها لـ”شريكة ولكن”، تفاصيل التعديلات على قانون العمل الحالي الذي يعود 1946، وحاجته إلى تعديلات سريعة وجذرية لتغطية أنماط العمل الحديثة السائدة. وتضمّن إعادة تعريف العمل ليشمل العمل الجزئي والموسمي، حضورياً وعن بُعد.
إذ يعترف قانون العمل الحالي بالعمل الجزئي الذي يساوي 5 ساعات عمل بالحد الأدنى، يحصر القانون المقترح ساعات العمل الجزئي بين ثلث وثلثي دوام عمل العاملين المماثلين في المؤسسة، بمعنى آخر حوالي 3 ساعات عمل يومياً. كما ينصّ على مرونة الانتقال من دوام عمل كامل إلى دوام عمل جزئي في حال متابعة الدراسة (لمدة أقصاها سنتان)، وبعد انتهاء إجازة الأمومة للمرأة العاملة (لمدة أقصاها سنة واحدة). بحسب المحامية بيضون.
وتضيف بيضون: “في المقابل، يتمتّع الأُجراء العاملون بدوام جزئي بالأولوية للانتقال إلى نظام العمل بدوام كامل، في حال توافر الشروط المطلوبة، وإذا أراد صاحب العمل ملء مراكز شاغرة أو مستحدثة. كذلك، يربط القانون المقترح قيمة العمل بالإنتاجية وليس فقط بالدوام، ويسمح للعامل باختيار توقيت العمل الذي يناسبه على أن يلتزم بساعات العمل المتّفق عليها”.
من هنا تشير إلى “المادة الأخيرة التي تتحدث عن آلية التفتيش والتثبت من تطبيق القانون من قبل أصحاب العمل، حيث لا يوجد أي نص يدل على جزاءات أو عقوبات تجرم مخالفته”.
العقد العمل إلزامي: يلزمه تتبع
في القانون، نصت المواد على أن “عقد العمل الفردي هو اتفاق يلتزم بمقتضاه الأجير/ة أن يقدم برضاه عمله لمصلحة صاحب/ة العمل وتحت إشرافه ومراقبته مقابل أجر بغض النظر عن مكان العمل”. إضافةً إلى الاتفاق على “تفاصيل عقد العمل بدوام جزئي وطريقة توزيعها، ومقدار الأجر، ونوع العمل، وعدد الساعات”.
كل هذه الشروط يلزمها تتبع مهم من قبل وزارة العمل لحظة إقرار المراسيم التطبيقية في مجلس الوزراء ليصار إلى تنفيذها، ومنعًا لتهرب أصحاب/ صاحبات العمل من مسؤوليتهن/م تجاه الموظفين/ات عن بعد، وبشكلٍ جزئي.
وتشير بيضون، “العمل عن بعد بدوامٍ جزئي، وفقًا للقانون يجيز تلقائيًّا أن يكون للعامل/ة حقوق مكتسبة، بما يدخل في الضمان الإجتماعي. فالعمال/العاملات بدوامٍ جزئي أو موسمي أو عن بُعد، يستفيدن/ون من نفس الحماية التي يستفيد منها العاملون/ات بدوام كامل، أي على الشركة وأصحاب العمل إجبارية تسجيل الموظفين/ات بالضمان الإجتماعي”.
وتتحدث إشراق بيضون، عن انعكاس القانون الذي لا يرضي أصحاب/صاحبات العمل إذ أصبحوا/ن مكلفين/ات بتصحيح أمور الضمان الإجتماعي وتسجيل الأفراد وعدم التهرب من دفع تكالفيهم/ن المالية.إذ يجبرهم/ن القانون على تسجيل العمال/العاملات في الضمان وإعطائهم/ن الحوافز وتعويضات نهاية الخدمة، والمعاش التقاعدي، كما يمنعهنّ من التهرب من النظام الضريبي.