نساء في البلديات: تضييق أبوي تكسره التجارب الناجحة

تُبيّن نتائج الانتخابات البلدية منذ العام 2004 أن وصول النساء إلى المجالس البلدية يزداد بوتيرةٍ ضعيفةٍ جدًّا، على الرغم من أن تمثيلهن في هذه المجالس يُعتبر ضرورة وحاجة. ويعود ذلك إلى العديد من التحديات التي تواجهها النساء أثناء عملية الترشح وخوض الغمار الانتخابي. وهذه التحديات تتضاعف عند وصولهن إلى المجلس البلدي، حيث يواجهن العنف السياسي المبني على مفاهيم مجتمعية ذكورية متوارثة.

وفي حين أن العديد من التجارب تُثبت أن كثيرات من النساء تمكّنّ من كسر هذا النهج وفرض أنفسهن في أكثر من دورة انتخابية، إلا أن وجود هذه المفاهيم ما زال شائعًا في لبنان.

يسرى صيداني: صوت عالي وتشكيك بالقدرات

تُشير عضوة بلدية بيروت، يسرى صيداني، في حديث لـ”شريكة ولكن”، إلى أنها، خلال عملها البلدي، واكبت رئيسي بلدية كانا مؤمنَين بضرورة تفعيل دور النساء. سمح هذا الأمر لها بتولي رئاسة لجنة المال والموازنة، التي تُعتبر من اللجان الأساسية في البلدية، إلا أن ذلك لم يعنِ عدم مواجهتها للعديد من التحديات.

“إن النساء يقع على عاتقهن جهد التمكّن من الموارد المعرفية أكثر من الرجال لكي يتمكنّ من مواجهة المشاكل المضاعفة التي تعترضهنّ، وبغير هذه الحالة لا يؤخَذن على محمل الجد”.

تستذكر يسرى كيف “كان بعض الأشخاص من داخل وخارج المجلس البلدي يسعون للوصول إلى أهداف شخصية، أو أن يُعارضوا آرائي تجاه أمرٍ بلديٍّ مُعيّن. وبدل أن يحاولوا إثبات صوابية رأيهم، يعمدون إلى اللجوء إلى منطق يُشكّك بإمكاناتي وقدراتي باعتباري امرأة”.

تعتبر صيداني، وهي واحدة من ثلاث نساء وصلن إلى المجلس البلدي من أصل 24 عضو/ة، أن “بيروت تتميز عن مناطق أخرى لناحية قبول وجود المرأة في مراكز القرار، ولكن هذا لا ينفي وجود الكثير من الذكورية”. مضيفةً: “إن النساء يقع على عاتقهن جهد التمكّن من الموارد المعرفية أكثر من الرجال لكي يتمكنّ من مواجهة المشاكل المضاعفة التي تعترضهنّ، وبغير هذه الحالة لا يؤخَذن على محمل الجد”.

وعطفًا على هذا الجهد المضاعف الذي يثقل كاهل النساء تحديدًا في مواقع القرار، تلفت يسرى إلى الأسلوب السلطوي في التعامل معهنّ عند وصولهن وإثبات كفاءتهن. فتشير إلى “محاولة الرجال، خلال بعض الاجتماعات العامة المتعلقة بالشأن البلدي، إثبات فكرته عبر رفع صوته عندما يحتد النقاش. في حين أنه في حال قيامي بالأمر نفسه، فمن شأن ذلك أن يدفعهم لوصفي بـ’المسترجلة’ أو أي أوصاف ذكورية أخرى”.

تقييم مضاعف للأخطاء

تجربة صيداني لا تختلف كثيرًا عن تجربة رئيسة اتحاد بلديات الشوف السويجاني ورئيسة بلدية بعقلين (2004 – 2016)، نهى الغصيني.

“العمل البلدي ينبغي أن يواكب العصر ويخرج من التقليد المُتبع ويبتعد عن كونه منبرًا للوجاهة”.

توضّح نهى، في حديث لـ”شريكة ولكن”، أن “العقلية اختلفت بين عامي 2004 و2025، فهناك جيل ينظر إلى رئاسة البلدية كوجاهة البلدة وتمثيلًا للعائلة، ما وضع النساء المتزوجات الراغبات بالترشح أمام مشكلة على أي عائلة سيتم احتسابها، وهذا أمر سبق أن واجهته”.

ولفتت الغصيني إلى أن “هناك تحديًا آخر يتمثل في أن النظرة إلى خطأ المرأة في موقع رئاسة البلدية مُضاعف عن النظرة إلى خطأ الرجل، إذ أن عملنا دائمًا ما يكون تحت المجهر”، مؤكدةً أن “العمل البلدي ينبغي أن يواكب العصر ويخرج من التقليد المُتبع ويبتعد عن كونه منبرًا للوجاهة”.

وتُشير إلى أنه “في العام 2004 كان لديّ تحدٍّ بأن أقنع المجتمع المحلي بأنني يمكنني تحمّل المسؤولية، فالنظرة العامة كانت تُفيد بأن النساء تابعات أو من الممكن أن تتأثر آراؤهن بالمحيط. ولكن فيما بعد تخطيت هذه المشكلة”.

وتوضح الغصيني أن “ثمّة مشكلة أساسية مرتبطة بمحدودية أعداد النساء اللواتي وصلن إلى رئاسة البلدية، فكنا 6 رئيسات بلديات من أصل 1042 بلدية. وكنت أنا وميرنا المر فقط رئيستَي اتحاد بلديات من أصل 52 اتحاد بلدية”. وتؤكد أن “هذا أمر مُعيب لبلد مثل لبنان، وينبغي تغيير هذا الواقع غير الطبيعي، خصوصًا أن لبنان كان يواكب الدول الغربية في هذا المجال عندما أعطى المرأة حق الانتخاب والترشح عام 1952، إلا أنه بات في مراحل متراجعة جدًّا مقارنة بالدول العربية”.

تهميش النساء عن اللجان الأساسية

وكما أن وصول النساء إلى المجالس البلدية يعترضه الكثير من المعوّقات، فإن تولّيهن للجان أساسية داخل البلدية يعترضه عقبات لا تقلّ صعوبة. وهذا ما توافق عليه الغصيني، معتبرةً أنه “ينبغي على النساء تحمّل المسؤولية في هذا المجال، وعدم قبول هذا الأمر. فعلى كل من قررت تولّي الشأن العام، أن تستمر بنضالها عبر رفض تهميشها والتمسّك بأن تكون في اللجان انطلاقًا من المهنة والخبرة، وليس الاكتفاء بلجنة لا تمت لها بصلة”.

“على من قررت تولّي الشأن العام، أن تستمر بنضالها عبر رفض تهميشها والتمسّك بأن تكون في اللجان انطلاقًا من المهنة والخبرة”.

وتلفت إلى أنه “ينبغي التفكير خارج الصندوق التقليدي، وهذا ما قمتُ به عام 2006 من خلال إطلاق لجان الأحياء، وهذا ما سمح بإشراك جميع الراغبين/ات في المساهمة بالعمل البلدي، رجالاً أو نساء”. وتؤكد أن “هذه اللجان استمرت حتى عام 2016، وكانت فاعلة جدًّا في معالجة المشاكل، ولا سيّما مشكلة النفايات عام 2015”.

من جهتها، ترى عضوة بلدية كفرذبيان، جوزفين زغيب، في حديث لـ”شريكة ولكن”، أن النساء في البلديات يواجهن “تحديًّا مرتبطًا بعدم تسليمهن لجانًا كبيرة معيّنة، مثل الشراء أو المناقصات أو الاستلام. فهناك فقط 1 أو 2 بالمئة من سيدات لبنان في هذه اللجان”. وتُشير إلى تسليم اللجان وفق تنميط الأدوار الجندرية، “فيسلَّمن لجنة المرأة أو الطفل أو الصحة أو السياحة أو البيئة، أما اللجان التي تصنَّف على أنها تحمل ضغطًا أكبر فيتم استبعادهن عنها، في محاولة للتقليل من قدراتهن، على الرغم من امتلاك بعضهن لخلفية مهنية في مجال اللجان الكبيرة”.

أسباب ابتعاد النساء عن مراكز صنع القرار

وفي السياق، تُشير جوزفين زغيب إلى أن “هناك العديد من المسبّبات لعدم وجود النساء في مراكز صنع القرار، ووضع تحديات وعوائق في طريقهن. فلبنان، الذي أعطاهن حق الترشح والانتخاب قبل سويسرا، انتظر نحو 50 عامًا لتعيين أول وزيرة، وفي الوقت الحالي يوجد فقط 8 نساء في المجلس النيابي من أصل 128، ونحو 600 امرأة في المجالس البلدية من أصل نحو 12 ألف عضو/ة، أي أن النسب متدنية جدًّا”.

وعن أسباب ذلك، تلفت زغيب إلى أنه “يعود إلى التقاليد والعادات في المجتمع، بالإضافة إلى عدم دعم مفاهيم المساواة والعدالة، وكذلك الفكر الذكوري الطاغي في مختلف المؤسسات”.

كما تلفت إلى دور الإعلام التقليدي في إعادة إنتاج الصور النمطية حول أدوار النساء، قائلةً إن “الإعلام لا يُسلّط الضوء على الأدوار الحقيقية والفاعلة للنساء، بقدر ما يتناول مواضيع هامشية مثل التوفيق بين وظيفتها وعائلتها، فيُظهرها بإطارٍ خاطئ”. وتضيف: “أما السبب الأخير، فيتمثل بغياب الاستقلال المالي والمادي الذي يُسهم في إبعاد النساء عن صنع القرار”.

تخطي الحواجز والعقبات

وعلى الرغم من كل هذه العوائق والعقبات، إلا أن الكثير من النساء استطعن تخطيها والوصول إلى رئاسة المجلس البلدي لدورات متتالية، ومن بينهن رئيسة بلدية كفرقطرة، إلين نصّار، التي تبوأت رئاسة البلدية لدورتين متتاليتين وتتحضر لخوض غمار الاستحقاق الانتخابي.

تستذكر نصّار، في حديثها لـ”شريكة ولكن”، التحدي الأبرز الذي واجهته عند انتخابها لأول مرة، وتمثّل بـ”تقبّل المجتمع وأن يكون لديه ثقة بأنني سأتمكن كامرأة من تحمّل هذه المسؤولية الكبيرة، وأن يُسلّموا البلدة لامرأة. بمعنى آخر، واجهت أزمة ثقة، ولكن عندما تمكنت من تخطي هذا الحاجز، باتت الأمور طبيعية”. وتُشير إلى أنه “بعد أن اختبروني في العمل، لم أعد أواجه هذه المشكلة في الدورات اللاحقة، ومن ثم واجهت التحديات التي يواجهها أي رئيس بلدية من ضعف التمويل والعلاقة مع السلطة المركزية وغيرها من المشاكل التي تُعاني منها البلديات”.

إضافة إلى ذلك، تمكنت نصّار من تخطي حاجز آخر لا يقلّ صعوبة، وهو الحاجز العائلي. فالانتخابات البلدية في لبنان، لا سيّما في القرى والبلدات الصغيرة، تحمل طابعاً عائلياً كبيراً، إلا أن نصّار تمكنت من الوصول إلى سدة البلدية رغم أنه “للأسف، معظم عائلتي لا تؤيدني، كما أن زوجي غير لبناني، وبالتالي لا يوجد أي تأثير عائلي في دعمي في الانتخابات”. لذا، فإن ما تعتمد عليه نصّار هو “الجدية في العمل والقدرة على تحمّل المسؤولية، وإثبات ذلك من خلال التعامل مع الناس”، بحسب قولها.

المخترة والتمثيل الضعيف للنساء

هذا على صعيد المجالس البلدية، أما على الصعيد الاختياري، فإن الوصول إلى امرأة في موقع المخترة ليس أمرًا يسيرً نظرًا لعددهن المحدود جدًّا. ما يطرح العديد من علامات الاستفهام حول قبول المجتمع للنساء في هذا الموقع، والأسباب الكامنة وراء العدد المنخفض لهن.

بعد عناء طويل، تمكّنا من التواصل مع مختارة مشغرة منذ العام 2010، لور أبو عراج، التي تعتبر أوّل امرأة تصل إلى هذا المنصب في البقاع الغربي.

تؤكد أبو عراج، التي تحتل هذا الموقع إلى جانب 7 مخاتير رجال في مشغرة، أن التحدي الأبرز الذي واجهته أنهم يرونها (المجتمع) “امرأة وليست مختارة، بحيث تشعر أن ثمّة محاولات ذكورية دائمة لإبعادنا عن مركز القرار”، مضيفةً: “يحاول البعض الاستخفاف بقدراتنا، على الرغم من أن الكثير من النساء يعلمن ويُنتجن أكثر من الرجل”.

هذه التجارب المُتشابهة إلى حدّ كبير تعكس التحديات التي واجهت النساء داخل المجالس البلدية، والتي تبدأ من تغييبهن عن اللجان الأساسية، ولا تنتهي مع الهيمنة الذكورية على العمل البلدي والاختياري. واقعٌ يدفع إلى التفكير بكيفية كسر هذا النمط من العمل، ولعلّ دعم ترشيح النساء وازدياد فرصهن في تبوّء مناصب في السلطات المحلية سيساهم في تغيير هذه العقلية ويُعزّز المساواة في مراكز صنع القرار.

كتابة: مهدي كريّم

أُنتج هذا التقرير بالتعاون مع المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية DRI، ضمن مشروع: “أصوات من الميدان”، لدعم الصحافة المستقلة في لبنان.

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد