المال الانتخابي.. كلفة الترشّح تسقط المرشحات المستقلات قبل وصولهن إلى صناديق الاقتراع

كيف يقصي المال الانتخابي النساء عن مواقع صنع القرار في لبنان؟

في بلد تُخاض فيه الانتخابات بحجم ما يُضخّ فيها من أموال، تصبح المشاركة السياسية امتيازًا محصورًا بمن يملكون مفاتيح الذكورية السياسية والطائفية والزبائنية، ما يترك النساء على الهامش، لأن أدوات المنافسة العادلة المحرومات منها تتقدّم على الكفاءة والخبرات.

ومع غياب التمويل العام وغلبة الدعم الحزبي في لبنان، تصبح المعركة الانتخابية بالنسبة إلى النساء سباقًا غير متكافئ، تُعاد فيه إنتاج التهميش، وتبقى مشاركة النساء استثناءً في مشهد صُمّم لإقصائهن.

دور المال الانتخابي

في هذا السياق، تبرز أهمية المال كعنصر حاسم في الحراك الانتخابي، سواء على المستوى النيابي أو البلدي. تؤكّد الأكاديمية والباحثة السياسية زينة منصور أن “المال هو عصب اللعبة الانتخابية في لبنان”، موضحةً أن “تأثيره يتجلّى على ثلاثة مستويات: على صعيد المرشح الفردي، وعلى مستوى من يطمح إلى رئاسة البلدية، وكذلك على مستوى من يسعى إلى رئاسة اتحاد بلديات”. هذه المستويات، جميعها، غالبًا ما تكون مُقفلة أمام النساء ما لم يكنّ مدعومات ماليًا وسياسيًا بشكل استثنائي.

ورغم أن التفاهمات العائلية والمناطقية تبقى عنصرًا مؤثرًا في معادلات الانتخابات المحلية، فإن المال، بحسب زينة منصور، يظلّ “عاملًا حيويًا وحاسمًا ومحفّزًا من أجل الوصول إلى المقعد البلدي”. كما تشير إلى أن “الانتخابات البلدية تُعدّ مرآة مصغّرة عن الانتخابات النيابية من حيث آليات النفوذ، حتى وإن اختلف حجم الإنفاق بينهما. لكن هذا لا يلغي أن الحملات البلدية نفسها تستدعي تمويلًا فعّالًا لتغطية مختلف نفقاتها”.

“الأحزاب نادرًا ما تضع النساء في الصدارة، ونادرًا ما توفّر لهن ما توفّره لمرشحين من الذكور من دعم لوجستي ومالي.”

وتتضح صورة العبء المالي أكثر عند الدخول في تفاصيل الكلفة الفعلية للحملات، وهو ما يشرحه رئيس بلدية حارة الفيكاني حسن دلول، موضحًا أن “كلفة حملة مرشح مستقل في بلدة متوسطة الحجم قد تتراوح بين 1000 و 1500 دولار. لكن هذا الرقم قد يقفز في حال دخل المال السياسي على الخط، لا سيما في حالات شراء الأصوات، حيث “لا يعود هناك سقف واضح للإنفاق”، ما يجعل الحملة عبئًا ثقيلًا على من لا يملك شبكات تمويل أو موارد حزبية، حسب ما أفاد دلول. ولأن النساء نادرًا ما ينخرطن في هذه الشبكات، تكون فرصهن في المنافسة ضعيفة منذ البداية.

أما اللوائح الحزبية، فيشير دلول إلى أنها تتحرك ضمن ميزانيات قد تصل إلى 20 أو 30 ألف دولار، يُحدّد ذلك وفق حجم البلدة أو المدينة. فكلما كبر حجم المنافسة، ازداد الإنفاق وازدادت معه الحاجة إلى شبكات دعم وموارد. وهنا تظهر الهوّة، فـ”الأحزاب نادرًا ما تضع النساء في الصدارة، ونادرًا ما توفّر لهن ما توفّره لمرشحين من الذكور من دعم لوجستي ومالي.”

أما أوجه الإنفاق، فهي كثيرة، تبدأ بتنظيم اللقاءات والندوات والتغطيات الإعلامية، وتمرّ بتكاليف النقل والمندوبين. بذلك، يتحوّل كل تفصيل في الحملة إلى بند مالي مستقل، يصعب على أي مرشحة تأمينه من دون شبكة تمويل أو دعم مؤسساتي. لتصبح هذه الأعباء حواجز إضافية أمام النساء، وفق قول دلول.

الواقع الحالي للنساء المرشحات

ومع افتقار شريحة واسعة من النساء إلى الاستقلالية الاقتصادية، يتّضح كيف تصبح كلفة الحملة الانتخابية حاجزًا فعليًا أمام مشاركتهن في الحياة السياسية. وهذا ما تؤكده ريما كرنبي، المرشحة السابقة لعضوية المجلس البلدي في بلدة عرسال، بأن “النساء حين لا يملكن موردًا ماليًا خاصًا أو وظيفة ثابتة، يجد أنفسهن أمام حاجز مالي يكاد يكون مستحيلًا تجاوزه”. وتضيف: “حين تضطر النساء إلى طلب دعم مالي من أفراد أو جهات غير رسمية، تصبح بشكلٍ أو بآخر مرتهنة لهم، وتفقد تدريجيًا استقلاليتها في اتخاذ القرار”، مشيرةً إلى أن هذا النوع من الدعم المشروط قد يؤدي إلى انسحابها من المعركة قبل أن تبلغ مراحلها النهائية.

هذا التحدي يتفاقم حين تنعدم المواءمة بين الكلفة المطلوبة للحملة الانتخابية والقدرة التمويلية الفردية للمرشحة. فبالنسبة لكرنبي، التي تمكّنت من خوض التجربة بتمويلٍ ذاتي نتيجة امتلاكها لمؤسسة خاصة، كانت تجربتها استثناءً لا يمكن تعميمه، وأوضحت: “حالتي لا تنطبق على معظم النساء، خصوصًا الشابات اللواتي يفتقدن لمصدر دخل ثابت، ما يجعل مجرد التفكير بالترشّح عبئًا نفسيًا وماديًا”.

“إدراج النساء في اللوائح الحزبية لا يتم غالبًا عن قناعة، بل نتيجة ضغوط مجتمعية آخذة في التصاعد، فالأحزاب لم تكن يومًا مقتنعة بضرورة وجود النساء في السياسة”.

ويتجلى هذا الواقع في تجارب النساء اللواتي يخضن المعركة الانتخابية حاليًا. فبالنسبة إلى لينا الترشيشي، المرشحة الحالية لعضوية المجلس البلدي في بلدة الناصرية، فإن العائق المالي شكّل عاملًا ضاغطًا رافق كل مراحل ترشحها. وتعتمد الترشيشي بشكلٍ كاملٍ على تمويل شخصي محدود، ما يجعل حملتها مقيّدة من حيث الانتشار والنشاط. وتوضح: “لو وُجد دعم فعلي، لكان أحدث فرقًا واضحًا في حجم حملتي وتأثيرها، لكن غيابه جعلني أعمل ضمن إمكانيات محدودة وبجهد شخصي مضاعف”. وتضيف أن “المال، وإن لم يمنعني من الترشح، إلا أنه قلّص من فرص المنافسة المتكافئة، مع غياب أي تمويل جماعي أو حزبي”.

وبالانتقال من تمويل الحملات إلى موقع النساء داخل اللوائح الحزبية، لا تبدو الصورة أكثر إشراقًا. فبرغم الانفتاح النسبي الذي تتيحه الانتخابات البلدية، تشير رئيسة جمعية “فيفتي فيفتي”، جويل أبو فرحات، إلى “أن إدراج النساء في اللوائح الحزبية لا يتم غالبًا عن قناعة، بل نتيجة ضغوط مجتمعية آخذة في التصاعد، فالأحزاب لم تكن يومًا مقتنعة بضرورة وجود النساء في السياسة”.

وترى جويل أبو فرحات أن “الطابع الإنمائي للانتخابات البلدية يسمح أحيانًا بتشكيل لوائح مختلطة تضم حزبيين ومستقلين، حيث تقلّ هيمنة السياسة المباشرة. إلا أن ذلك، لم يغيّر في الواقع البنيوي كثيرًا، مما دفعنا كناشطات إلى ابتكار وسائل ضغط بديلة، مثل “اتفاقية سلمى”، وهي اتفاق معنوي يشترط تمثيل النساء بنسبة 30% في اللوائح الانتخابية”.

“انعدام آليات التمويل العام أو الدعم اللوجستي للمرشحات المستقلات، يجعل النساء في موقع ضعف واضح. إذ تبقى الحملات الانتخابية مرتهنة إما للأحزاب أو لرؤوس الأموال الخاصة، وهي شبكات يندر أن تكون النساء جزءًا مؤثرًا فيها”.

ضمن هذا السياق، تبرز الكوتا النسائية كنقطة تحوّل حاسمة لا مجرد خيار إصلاحي. تؤكد أبو فرحات أن “نظام الكوتا هو الحل الوحيد الذي أثبت فعاليته عالميًا، واعتمدته أكثر من 94 دولة”، مشيرةً إلى أن “دولًا عربية عديدة، من بينها الإمارات والعراق، نجحت في رفع نسبة تمثيل النساء لتتراوح بين 25% و35% عبر هذا النظام”.

وتضيف أبو فرحات: “إذا كنا ننتظر أن تتبدّل العقليات وحدها، فقد نحتاج إلى 130 سنة لتحقيق المساواة”، مشددةً على أن “قانون الكوتا يفرض على الأحزاب ترشيح نساء ويحوّل مشاركة المرأة إلى التزام قانوني، لا استثناء ظرفي”. فالإصلاح الحقيقي، بحسب أبو فرحات، لا يتحقق إلا عبر تدابير إيجابية تُرسي قاعدة عادلة لتمثيل النساء، لا سيما على مستوى المجالس البلدية.

العوائق البنيوية في النظام السياسي والإداري والإعلامي

لكن هذا الإصلاح لا يمكن أن يكتمل ما لم تعالج العوائق البنيوية بعمق وجديّة، وهي سلسلة من العقبات المتجذّرة في بنية النظام السياسي والإداري والإعلامي، والتي تكرّس واقع التهميش وتقيّد فرص النساء في المنافسة الفعلية.

يوضح كاتب العدل فادي كنعان أن من أبرز هذه العوائق: “غياب تشريعات محفّزة للتمثيل النسائي كقانون الكوتا، فعدم وجود نص قانوني يُلزم الأحزاب بتخصيص نسبة من المقاعد أو الترشيحات للنساء، يجعل مشاركتهن خاضعة للاعتبارات السياسية والتمييزية داخل اللوائح”.

فضلًا عن “ضعف التغطية الإعلامية للمرشحات النساء، حيث لا تحظى الحملات التي تقودها نساء بنفس المساحة أو الزخم الإعلامي الممنوح عادةً للرجال، ما يقلّص فرص وصولهن إلى الرأي العام ويحدّ من انتشار خطابهن الانتخابي”. كما يرى كنعان أن “انعدام آليات التمويل العام أو الدعم اللوجستي للمرشحات المستقلات، يجعل النساء في موقع ضعف واضح. إذ تبقى الحملات الانتخابية مرتهنة إما للأحزاب أو لرؤوس الأموال الخاصة، وهي شبكات يندر أن تكون النساء جزءًا مؤثرًا فيها”.

قوانين الشفافية في الإنفاق الانتخابي والحدّ من المال السياسي

إلى جانب هذه العوائق، يبرز غياب الشفافية في تمويل الحملات كعامل إضافي يُقوّض فرص النساء في الترشّح، ما يفتح الباب أمام هيمنة المال السياسي، وهو ما تؤكده المحامية إلهام كعدي مشيرة إلى أن “غياب الشفافية في تمويل الحملات الانتخابية يشكّل عائقًا جوهريًا أمام مشاركة النساء في الحياة السياسية، إذ يُستخدم المال السياسي كسلاح لإقصائهن وتعزيز هيمنة الرجل في الساحة الانتخابية”. وتلفت إلى أن “القوانين الحالية، كالقانونين 25/2008 و 44/2017، لا تفرض رقابة فعّالة على مصادر وأوجه الإنفاق، كما لا تُلزم برفع السرية المصرفية عن حسابات الحملات، ما يفتح الباب واسعًا أمام شراء الأصوات وتكريس الزبائنية”.

من هنا، تدعو كعدي إلى إصلاح جذري يشمل تشريعات أكثر صرامة، واستقلالية فعلية لهيئة الإشراف على الانتخابات، مع صلاحيات تنفيذية تُمكّنها من ضبط المال الانتخابي، معتبرة أن “أي مشاركة فعلية للمرأة تبقى مهددة ما دام المال الانتخابي متفلّتًا، وموجّهًا لتعزيز نفوذ الذهنية الذكورية”.

أهمية الكوتا النسائية

من زاوية موازية، ترى جويل أبو فرحات أن “تشريع الكوتا النسائية يشكّل أداة قانونية فعالة من شأنها أن تعوّض جزءًا كبيرًا من التفاوت المالي القائم بين الجنسين في الحملات الانتخابية، لا سيّما في ظل احتكار الموارد المادية من قبل الذكور، نتيجة لعوامل قانونية ومجتمعية متجذّرة، كقوانين الإرث والعقلية الذكورية السائدة”.

فالكوتا، برأيها، تحدّ تلقائيًا من تأثير المال السياسي، باعتبار أن الوصول لا يكون مرهونًا بالقدرة الشرائية أو التمويل، بل بحق قانوني مضمون. مشددة على أن “الكوتا التي تضمن مقاعد مخصصة للنساء (وليس فقط كوتا على الترشّح) هي المدخل الحقيقي لكسر الصورة النمطية عن النساء في الشأن العام، وتجاوز الهيمنة الذكورية في مواقع القرار”. وتستشهد أبو فرحات بتجربة انتخابات 2022، “حيث ترشّحت نسبة كبيرة من النساء دون أن يفزن بمقاعد، ما يُؤكّد الحاجة إلى كوتا تُلزم بوجودهن فعليًا داخل المجالس”.

وعن بعض النماذج الدولية، تشير أبو فرحات إلى تجارب غربية دعمت الكوتا بآليات تمويل مرافقة، مثل الولايات المتحدة، حيث اعتمد الحزب الديمقراطي مبادرات شعبية مثل “Emily’s List” لتأمين تمويل مباشر للمرشحات. غير أنّ لبنان، بتعدّديته الحزبية والطائفية، لا يزال يفتقر إلى آلية عملية مماثلة، رغم الجهود المبذولة لإيجاد صيغة تمكّن من تقديم دعم مالي عادل وشفّاف للمرشحات.

الإصلاح الإداري وضمان مشاركة النساء في اللجان والرقابة

أما فيما يتعلّق بتمثيل النساء داخل الهيئات الإدارية والرقابية للعملية الانتخابية، تكشف المحامية في الجمعية اللبنانية لديمقراطية الانتخابات (LADE)، جودي فتفت، أن “القوانين الحالية لا تنصّ على أي تمثيل نسائي في لجان الإشراف أو الفرز أو التسجيل، بل تبقى هذه المواقع خاضعة للتعيينات السياسية، من دون مراعاة للتنوّع الجندري”.

ورغم أهمية مشاركة النساء في مختلف مراحل العملية الانتخابية، تؤكد فتفت “أن الواقع لا يزال بعيدًا عن تحقيق الشراكة الفعلية، بيد أن إشراك النساء في لجان التنظيم، الإشراف، الفرز والتسجيل، يشكّل عنصر أمان ويعزز الثقة في العملية الانتخابية”.

وفيما يخصّ المبادرات الهادفة إلى ضمان تمثيل نسائي داخل الهيئات الإدارية للانتخابات، تشير فتفت إلى غيابها التام في السياق البلدي، موضحةً أن “بعض الأحزاب السياسية بدأت بخطوات خجولة لتعزيز تمثيل النساء داخل هياكلها الحزبية، لكن لا توجد أي مبادرة رسمية على صعيد لجان الانتخابات البلدية”.

وتختم فتفت بأن “تعزيز الشفافية في العملية الانتخابية يتطلّب وضع سقف معقول للإنفاق، إلى جانب رقابة فعلية تضمن تكافؤ الفرص بين المرشحين والمرشحات”، كما تدعو إلى “إطلاق برامج تمكين للنساء بين دورة انتخابية وأخرى لتعزيز استقلاليتهن الاقتصادية والسياسية”. مشيرة إلى أن الإرادة السياسية لإصلاح النظام الانتخابي ما زالت محدودة، إلا أن بعض الأحزاب أبدت استعدادًا لدعم إقرار كوتا نسائية بنسبة 30%، ما قد يشكّل مدخلاً نحو بيئة انتخابية أكثر عدالة وشمولاً.

كتابة: كوثر ياسين

أُنتج هذا التقرير بالتعاون مع المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية DRI، ضمن مشروع: “أصوات من الميدان”، لدعم الصحافة المستقلة في لبنان.

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد