
الانتخابات البلدية في لبنان: غياب الكوتا يكرّس الإقصاء
النقاش حول إقرار قانون الكوتا في الانتخابات البلدية، ليس ترفًا سياسيًا، ولا قضية تخص النساء وحدهن، بل هو استحقاق عدالة تاريخية، تتويجًا لنضالٍ نسويٍّ طويل في مواجهة الإقصاء والتهميش.
وبينما تُجرى الانتخابات البلدية تدريجيًا في مختلف المحافظات في لبنان، تُسجّل مشاركة نسائية محدودة في بعض القرى، وتكاد تكون معدومة في قرى أخرى.
“اتفاقية سلمة”.. دعوى إلى ترشيح ما لا يقل عن 30% من النساء
هذا الغياب التشريعي، الناتج عن عدم إقرار نظام الكوتا، حُرمت العديد من النساء من فرص حقيقية لتمثيل مجتمعاتهن في المجالس البلدية بمختلف المناطق اللبنانية. ويشمل هذا الإقصاء أيضًا النساء من ذوات الإعاقة، اللواتي يُحرمن بدورهن من التمثيل الفعلي داخل هذه المجالس.
رغم المبادرات المدنية مثل “اتفاقية سلمة”، التي أطلقتها منظمة “فيفتي فيفتي” كإلزام أخلاقي على اللوائح الانتخابية، وتدعو إلى ترشيح ما لا يقل عن 30% من النساء، واعتماد مبدأ التناوب بين الجنسين في المواقع القيادية، تقاعست معظم الأحزاب والبلديات عن الالتزام بهذه المبادرة، ما يعكس تكريس الفكر الذكوري وترشيح الرجال فقط، بأسلوب يشبه في بنيته العائلات التقليدية في تعاملها مع العمل السياسي.
ورغم توقيع أكثر من ستين بلدية على الاتفاقية، إلا أن غياب آلية إلزامية لتنفيذ التعهدات يثير تساؤلات حول مدى جدوى المبادرة.
تقول ريان شرارة، عضوة في تجمع “مواطنون ومواطنات في دولة”: “هذه الاتفاقيات مهمة رمزيًا، لكنها غير كافية، خصوصًا إن لم تُترجم إلى خطوات عملية ضمن اللوائح أو السياسات المحلية”.
وحتى لحظة إعداد هذا التقرير، ومع إجراء الانتخابات البلدية في محافظة جبل لبنان، أفاد تقرير “الدولية للمعلومات'” بأن نسبة ترشح النساء بلغت 10.8% من إجمالي الترشيحات، أي 783 امرأة، مقارنة بـ7.8% في عام 2016، أي ما يعادل 528 مرشحة. تعكس هذه الأرقام استمرار هيمنة الرجال على المشهد العام، وغياب الإرادة السياسية لتعديل القوانين بما يضمن إنصاف النساء ومنحهن حق التمثيل السياسي الفعلي، ما يعكس خللًا في بنية النظام نفسه يصعب تصحيحه دون تدخل تشريعي واضح وملزم.
فماذا لو بقي الواقع على حاله حتى موعد الاستحقاق النيابي المقبل؟
View this post on Instagram
الترشح بمواجهة الأحزاب
تجربة رودينة حاطوم، ناشطة سياسية واجتماعية من راشيا، عكست هذا الواقع. رغم التحضير الدؤوب منذ أكثر من أربع سنوات، وبدء تحضيراتها الفعلية مدعومة بعائلتها، اصطدمت بتراجع حزبها عن دعم ترشحها.
رغم التحضير الدؤوب منذ أكثر من أربع سنوات، وبدء التحضيرات الفعلية، اصطدمت رودينا بتراجع حزبها عن دعم ترشحها.
“ظننتُ أننا تجاوزنا الذهنية الذكورية، لكنها تعود كل استحقاق”.
تقول رودينة: “ظننتُ أننا تجاوزنا الذهنية الذكورية، لكنها تعود كل استحقاق”. ورغم قلة الإمكانيات وضغوط الإقصاء والتحذيرات السياسية، قررت رودينا الترشح مستقلة، موضحة “من هنا، أستنتج أن إقرار الكوتا لم يعد ترفًا أو شعارًا، بل ضرورة حقيقية. من دونها، لن تصل النساء إلا بالصدفة أو بمجهود فردي شاق، ولن تستمرّ إلا قلة قليلة ممن حالفهنّ الحظ”.
وتتابع: “أرى ضرورة أن يلعب الإعلام والمنظمات دورًا فاعلًا في مناصرة إقرار الكوتا، وتسليط الضوء على أهمية تمثيل النساء، بل ومقاطعة اللوائح التي لا تضم نساء. ترشّح النساء لم يكن يومًا زينة للمجالس، بل هو حاجة وحق. المشاركة السياسية ليست تفضّلًا بل واجب، وممارسة الديمقراطية حق على الجميع”.
ما اختبرته رودينة يعكس واقع التمييز الذي تتعرض له الكثير من النساء في العمل السياسي، من إقصاءٍ ممنهج ضمن الأحزاب التي تدّعي المشاركة والانفتاح على أدوار النساء.
في العديسة جنوبًا، خاضت خلود الحاموش التجربة من منطلق مختلف.
الانتخابات خطوة نحو التمكين
تقول خلود: “خبرتي الطويلة في العمل الإنساني والاجتماعي والحقوقي دفعتني إلى خوض الانتخابات البلدية بشكلٍ مستقل، بعيدًا عن اللوائح الحزبية. لدي برنامج طموح يركز على تمكين المرأة نفسيًا وصحيًا واقتصاديًا، وتطوير قدرات الشباب، إلى جانب إنشاء مركز تنموي يجمع كبار السن والأيتام، ويعزز التفاعل الاجتماعي والإنتاجي داخل القرى”.
وأوضحت: “النساء اللبنانيات يمتلكن القدرة على المواجهة والتقدم رغم القيود الاجتماعية والموروثات السائدة، والإعلام اليوم يلعب دورًا إيجابيًا في تسليط الضوء على فعالية النساء”، مضيفةً “كما أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي أداة ضرورية للوصول إلى الناس بشفافية ومتابعة حقيقية، رغم تحديات العمل الفردي”.
وختمت حديثها بالقول: “التجربة الميدانية قادرة على كشف الثغرات وإطلاق مشاريع تلبي حاجات القرى التي طالما هيمنت عليها الذهنية الذكورية والحزبية. أنا مصممة على الانطلاق من أرض الواقع لإحداث تغيير حقيقي داخل المجالس البلدية”.
فهل سيتحسن الوضع ضمن انتخابات البلدية 2025 بدون إقرار قانون الكوتا؟
غياب الكوتا… عائق أساسي
توضح جويل أبو فرحات، الرئيسة التنفيذية لمؤسسة “فيفتي فيفتي”، في حوار خاص مع “شريكة ولكن”، “أن تمثيل النساء في المجالس البلدية في لبنان لا يتجاوز 5%، أي نحو 600 امرأة من أصل 12 ألف مقعد، فيما لم يتعدَّ عدد رئيسات البلديات في انتخابات 2016 الـ12 امرأة، بقيت 2 منهن فقط اليوم، ما يعكس هشاشة تمثيل النساء في الحكم المحلي”.
تعتبر أبو فرحات أن غياب الكوتا أحد الأسباب الجوهرية لهذا التمثيل المتدني، مؤكدة فعاليتها في 94 دولة كأداة لكسر الحواجز الذكورية وإحداث تغيير في السياسات المحلية، مشددة على أن الكوتا ليست تمييزًا ضد الرجال بل “إجراء تصحيحي” لتحقيق التوازن، وأن “تغيير الذهنية لا يكفي دون تعديل قانوني ملزم”.
كما دعت الناخبين والناخبات إلى الامتناع عن التصويت للوائح لا تتضمن نسبة كافية من النساء، مطالبة الجميع بتحمل مسؤولياتهم/ن تجاه إدماج النساء في القرار المحلي، لأن “التنمية لا يمكن أن تُدار بفئة واحدة من المجتمع”.
بدورها، أفادت ريان شرارة، لـ “شريكة ولكن”، أن “الأسباب الجوهرية لعدم إقرار الكوتا هي ذاتها التي تحول دون أن تؤدي البلديات دورها الأساسي الذي يرسمه لها القانون. فالبلديات جزء من نظام سياسي متكامل يتحكّم بالمجتمع اللبناني. وقد قمنا، في “مواطنون ومواطنات”، بتشخيص هذا النظام مرارًا، وتشخيص أثره المدمّر على المجتمع اللبناني، من خلال تبديد موارده، وعلى رأسها ثروته السكانية”.
وتؤكد شرارة بأن “من أبرز معالم هذا النظام، بما يخص موضوعنا، اعتماده على “الطوائف” أولًا، كوسيلة لتثبيت شرعيته وتكريس سياساته. وتقوم هذه الطوائف نفسها على قواعد النسب الأبوي، بما يؤثر على مكانة النساء وأدوارهن في المجتمع اللبناني. ففي سبيل تنظيم الطوائف، تُربط النساء بقيود الآباء أو الأزواج، وينتقلن من خانة إلى أخرى بناءً على هذه القاعدة”.
ترشّح النساء ليس زينة، بل ضرورة
تقول أماني أبو زينب، الناشطة الاجتماعية والمرشحة لانتخابات المجلس البلدي في صيدا: “رؤيتي للمدينة تقوم على التنمية، الشفافية، والمشاركة”. وتوضح أن ترشحها جاء نتيجة سنوات من العمل مع المجتمع المدني ومتابعة شؤون المدينة، “للانتقال من المتابعة إلى موقع القرار”.
تؤكد استقلاليتها السياسية، مشيرة إلى أنها لا تنتمي لأي حزب، لكنها “منفتحة على التعاون بشرط الحفاظ على استقلالها”. وترى في ارتفاع نسبة ترشح النساء في صيدا إلى نحو 30٪ “مؤشرًا إيجابيًا يعكس دورهن خلال الأزمات”.
وتلفت إلى أنه في ظل عدم تطبيق الكوتا النسائية، “هناك جهودًا لتشكيل لوائح مختلطة تراعي الكفاءة، رغم التحديات الاجتماعية التي تتطلب وعيًا وصمودًا.”
وتختم: “الدعم المحلي ضروري لكنه غير كافٍ. نحتاج دعمًا سياسيًا وإعلاميًا، خصوصًا في ظل تهميش من لا يملك المال، ما يجعل وسائل التواصل أداة أساسية للتواصل مع الناس”.
تجربة أماني أبو زينب تؤكد أن قانون الكوتا ضرورة في بيئة ترى أن ترشح النساء يعدّ خروجًا عن الأعراف.
مقاربة العمل السياسي: حماية المجتمع أساس تحقيق العدالة الجندرية
وفيما يتعلق بدور الحركة السياسية التي تمثلها في تعزيز مشاركة النساء، أكدت شرارة “يتمثل الدور العملي في مواجهة النظام القائم، الذي يدمر واقع النساء، فيهجّرهن مع أزواجهن وأطفالهن، ويقضي على مدخراتهن في ظل الأزمة المالية، ويحرمهن من فرص العمل. فالحديث عن حقوق النساء والعدالة الاجتماعية لا يستقيم ما لم ننطلق من واقع المجتمع وموقع النساء فيه”.
نعيش اليوم مسارًا يُصفّى فيه المجتمع بكل ما يملكه، نتيجة عجز السلطة أو تقاعسها عن التعامل مع المسارات الأساسية التي تحكم واقعنا ومستقبلنا. وبالتالي، يصبح الحديث عن حقوق النساء مرتبطًا ارتباطًا عضويًا، أكثر من أي وقت مضى، بمصير المجتمع ككل، لأن التهديد الذي نواجهه هو تهديد وجودي يتجاوز كل التقسيمات.
وباختصار، فإن مناصرة حقوق النساء اليوم تبدأ بالقدرة على حماية المجتمع، كي يكون للمرأة مكان وحقوق فيه.”
السعي لتمثيل النساء
دانا قيدوح (38 عامًا) من بلدة شبعا الجنوبية. تحمل ماجستير في إدارة الأعمال، وتعمل كمدرّبة معتمدة. تُعد من الأصوات النسائية الصاعدة في العمل العام.
جاء اهتمامها بالانتخابات البلدية بعد النيابية الأخيرة، التي دفعتها للتفكير في دور النساء في صنع القرار.
تقول دانا: “أنا لا أنتمي لأي حزب سياسي، بل أعمل على صناعة مكاني بنفسي. أسعى لتمثيل النساء ولفتح المجال أمام حضورهن في مواقع القرار.”
تتوقف عند أبرز التحديات، خاصة تلك التي تواجه النساء العاملات في القطاع العام، حيث تمنعهن القيود الوظيفية من الترشح أو الانخراط الفعّال في الشأن البلدي. وتضيف: “الموروثات القديمة لا تزال تحكم الكثير من المسارات، ونحن بحاجة لكسرها.”
وتشير إلى أن الدعم الذي تلقته من محيطها حمّلها مسؤولية مضاعفة. “لكن البيئة ما زالت صعبة، وتتطلب تغييرًا في نظرة المجتمع للنساء. نحتاج إلى كسر القيود، والتعوّد على رؤية النساء في المشهد العام”.
الكوتا بمواجهة الخطاب الذكوري
تُظهر تجارب النساء المرشحات في هذا التقرير، أهمية إقرار الكوتا كمواجهة مباشرة للسلطة الذكورية المهيمنة على مراكز القرار السياسي في لبنان. فهي محاولة جدّية لكسر احتكار الرجال للمشهد العام، الذي طالما أقصى النساء عن مواقع التأثير.
في هذا السياق، يبرز مثال تونس بعد الثورة، بعدما ألزمت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات القوائم الانتخابية بمبدأ التناصف. وقد ساهم فرض الكوتا الجندرية في رفع نسبة النساء في المجالس البلدية إلى أكثر من 47% عام 2018، وهو ما يبيّن أن الإرادة السياسية والتشريعية قادرة على خلق تحول جذري في مشهد التمثيل النسائي.
فالكوتا ليست مجرد رقم يُضاف إلى اللوائح الانتخابية، بل هي خطوة إصلاحية ضرورية لإعادة التوازن في التمثيل، وضمان مشاركة حقيقية تعكس واقع المجتمع وتنوعه. ومن دون هذا التدخل التشريعي، ستبقى النساء رهينات للثقافة الذكورية والأعراف التي تهمّش أدوارهن، مما يُعيق أي تحول ديمقراطي فعلي يُبنى على العدالة والمساواة.