
صورة الريفيات التونسيات في مسلسل “رقوج- الكنز 2”
دراما اجتماعية للمخرج عبد الحميد بوشناق
فاجأنا مسلسل “رقوج- الكنز 2” لمخرجه عبد الحميد بوشناق، إذ وضعنا أمام امرأة ريفية تونسية من طرازٍ جديد. امرأة لم نصادفها في ريف من أريافنا، ولم نتعوّد على مشاهدتها في الدراما التونسية.
وضعنا هذا العمل الدرامي أمام امرأة ريفية قيادية، متحررة، مرحة، منفتحة، جريئة، تدلو بدلوها أينما تذهب، ولا تشعر بالدونية، تقتحم عالم الرجال وتختلط بهم وتزاحمهم أيضًا فتشاركهم جلوسهم في المقهى المخصّص للرجال دون النساء. تلتقي بصديقها وتجلس معه أمام العامة، وتصاحبه في جولاتٍ بسيارته الخاصة بعفوية، خالعةً رداء الخوف الذي فُرض عليها.
أحالتنا عدسة عبد الحميد بوشناق إلى امرأة ريفية تتّقد نشاطًا وحيوية، تعمل في الحقول خلال النهار وتصنع التحف الخزفية في منزلها لتبيعها في السوق، كما لا تمانع من العمل ليلًا كمغنية في الأعراس.
صورةٌ جديدة أثارت ردود فعل متباينة، استبشر بها بعض متابعي/ات المسلسل، فسرحوا/ن بخيالهم/ن معها. بينما استغرب الجزء الآخر، مستنكرين/ات وجود هذا النمط بين النساء على أرض الواقع الريفي التونسي.
View this post on Instagram
حبكة درامية تنصف المرأة الريفية
اعتمد عبد الحميد بوشناق، مخرج مسلسل “رقوج الكنز 2″، في تصويره لواقع النساء الريفيات على واقعين اثنين؛ واقعٌ حقيقي وآخر خيالي. فنقل للمتفرجين/ات مشاهد عن أحداث حية، ووضعهم/ن وجهًا لوجه أمام نساء ريفيات يعانين ويشقين ويصارعن من أجل البقاء.
وظّف المخرج عبد الحميد بوشناق الخيال ليخفّف به من قتامة واقع النساء الريفيات فأضفى به على لقطات المسلسل بعض الجماليات وبعض الحيوية والبهجة. فمن خلال مشاهد غير واقعية، صوّرتها مخيّلته الفنية، قفز بالريفيات بعيدًا نحو أفكارٍ وقناعاتٍ غير تقليدية فأحدث بمزجه الواقعي بالخيالي نقلةً نوعية عزّز بها البعد الفرجوي، بما يتضمّنه من مشاهد، مؤثرات بصرية أو سمعية، أو ديكور، وإضاءة، وأزياء، وغيرها.
باغت المتفرّج بهذا الأسلوب الفني ليشدّ انتباهه ويحرك فضوله ويدغدغ مشاعره، فيدفعه للتأمل، علّه يعيد النظر في معتقداته وتفكيره الذكوري، فيكتشف بنفسه حجم معاناة النساء وظلم ذوي القربى لها. أو لعلّه يتغيّر من تلقاء نفسه، فيتجاوز تطبيع وتبرير الاغتصاب والعنف الجنسي والرمزي واللفظي، ويفتح الطريق أمام محاسبة المغتصبين، ويسدّها أمام نهج الإفلات من العقاب.
فالمعروف عن الخيال أنّ له دورًا هامًا وقدرة كبيرة على التغيير، لذلك نعته الفيلسوف صامويل تايلور كولريدج بأنه “شرط أساسي للوصول إلى الحقيقة”، وعرّفه أينشتاين بأنه أهمّ من المعرفة، فالمعرفة محدودة والخيال لا حدود له.
سرح به خياله فصوّر علاقة البطلتين محبوبة ونسيمة بوالدهما علاقة الندّ بالندّ. وجعل نسيمة تجيب والدها عندما اقترح عليها الزواج من الطبيب: “تزوجه أنت”. جاء الردّ مباغتًا وصادمًا، أرسل به للمُتفرّج رسالة ضمنية، مفادها ألّا مجال لهالة القداسة المحيطة بعالم الآباء ولا داعي لطاعتهم طاعة عمياء، فهم أناس يخطئون ويصيبون، ولا الزمان ولا المكان يسمحان بهيمنة أبوية رمزية كانت أم واقعية.
امرأة ريفية تكسّر التابوهات
تدرّج عبد الحميد بوشناق في استعمال الخيال، وطعّم بعض الأحداث بجرعة خيالٍ أكبر، كسر بها التابوهات وطرح من خلالها المسكوت عنه. فصوّر طبيبة المستوصف، بنت المنطقة، تلك التي يعرفها القاصي والداني، تكشف على العلن في الإعلام وعلى شاشة التلفزة عن اسم مغتصبها، لتفاجئ والديها وعائلتها وأهل منطقتها بخبر تعرّضها للاغتصاب.
ورغم تأكّدها ويقينها أن بوحها بحادثة إغتصابها يعدّ في حدّ ذاته وصمة عار من منطلق معتقدات أهلها ومنطقتها، وأنها لن تسلم أبدًا من السحل واللوم الجماعي، وستظل مذنبة في أعين المجتمع مهما برّأت نفسها ومهما أتت ببراهين وأدلّة، تحدّت وحرّرت بوحها أمام الملأ.
“شبيني أنا عبيد حتى أكون على ذمتك؟”، جملة جاءت على لسان نسيمة عندما أخبرها خطيبها الديناري بأنها على ذمّته وتحت ظلّه وجناحه.
تسلّل بها المخرج إلى ذهن المتفرج ليخبره أن زمن عبودية النساء ولّى وانتهى، ولا بدّ من إرساء علاقة ندّية وأفقية بين الرجال والنساء، في الريف أيضًا، علّه يقنعه بأن الريفيّات أيضًا قادرات على الخلق والإبداع، وعلى المنافسة، وعلى إحداث التغيير الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والسياسي، لو مُنحن نفس الحقوق والحريات والمناصب والفرص والإمكانيات، من أجورٍ وقروض ورؤوس أموال وملكية أراضٍ.
امرأة تبعث البهجة في واقع قاتم
اعتمد المخرج على الخيال ليبتعد عن الصورة النمطية المروَّجة عن النساء في أغلب المسلسلات العربية، ولم يقحم في مسلسله أدوارًا لامرأة مغرية أو مسكينة أو منتقمة، ولم يوظّف جسد المرأة، بل جعلها تشد انتباه المتفرج بجمالها الطبيعي، وبحركاتها العفوية، وبلباسها البسيط، اللامبالي بقواعد التصميم العصري، والمنسجم مع أسلوب حياتها ونشاطها الفلاحي.
لباسٌ تكسوه رسوم الورود والزهور والألوان الزاهية، ذو طابعٍ ربيعيٍّ ، لا تناسق بين ألوانه وأشكاله، ظهرت به في جميع مناسباتها، السعيدة منها والحزينة أيضًا. ما أضفى على إطلالاتها مسحة من المرح والفرح، تنشر البهجة في محيطها رغم قسوة الحياة عليها.
استغلال مكرر
“تخدمي؟” — “ما نخدمش، نجمع في الزيتون”. هذا الردّ الصادر من نورة، إحدى بطلات المسلسل، عبّر عمّا تستبطنه الريفيات من أفكار مغلوطة ناتجة عن موروث ريفي، فهنّ أنفسهن يتعسّفن على حقوقهن، ولا يرين أن مساهمتهن في جني الزيتون تعدّ عملًا مقننًا وتستوجب أجرًا قانونيًا وعادلًا.
يبدو أن المخرج اختار هذا الردّ الغريب ليخبر المتفرج أن ما بلغته النساء الريفيات من تهميشٍ ومعاناة تتحمل مسؤوليته أطراف عديدة، كما تشارك فيه النساء بخضوعهن واستسلامهن للأفكار المغلوطة التي تضرّها ولا تفيدها. ويتحمّله أيضًا المواطن الذي يشارك بصمته وحياده، ناهيك عن الدور الكبير للسلطة، عبر إهمالها وتهميشها.
فلا قانون ولا آليات تحميها، ولا يزال عملها يُعدّ من الأعمال الهامشية ولم يُدرج ضمن الأعمال الفلاحية المهيكلة والمقننة. وبالرغم من أنها تمارس عملًا زراعيًا وفلاحيًا لا يقلّ جهدًا ووقتًا ومردودية عن عمل زميلها الرجل، فهي تُمنح أجرًا أقلّ منه، يُقدّر بنصف ما يأخذه، متعرّضة إلى استغلال مكرّر: الأول من مالك الأرض، والثاني من قبل الوسيط، صاحب الشاحنة الذي يقوم بنقلها للأراضي الفلاحية ويقتسم معها أجرها، وكم من مرّة تسبب في حتفها.
View this post on Instagram
التهميش عنف
سعى المخرج للموازنة بين الواقعي والخيالي، فصوّر مشاهد حيّة، استمدّها من معاينته للبيئة الريفية واحتكاكه بأهالي قرية رقوج الريفية، حيث دارت أحداث المسلسل. و”رقوج”، هو اسم عكسي لقرية جوقار: قرية ريفية فلاحية، موجودة بمعتمدية الفحص من محافظة زغوان، تبعد عن العاصمة التونسية 50 كم. اعتمدها بوشناق نموذجًا عن بقية المناطق الريفية التونسية، لما تعانيه من تهميش وظروف صعبة وإهمال ممنهج، تفتقر مثلها مثل المناطق الريفية شمالًا وجنوبًا، شرقًا وغربًا، إلى مرافق الحياة الكريمة، وتشكو من قلة الإمكانيات، وشحّ المياه، ومن تأنيث الفقر وتهميش المرأة اقتصاديًا واجتماعيًا، وتغييبها سياسيًا.
تطرّق عبد الحميد بوشناق أيضًا إلى الأثر النفسي للعنف المسلط على النساء الريفيات، فما التهميش إلا نوع من أنواع عنف الواقع وعنف السلط. فجعل البطلة محبوبة تنفّس عن حزنها فتصف حالتها النفسية قائلة: “أنا ميتة حية، ما عاد نستنى في شيء، ما عاد يفرحني شيء”. عبّرت عمّا تشعر به من ظلمٍ وقهرٍ ويأسٍ وموتٍ ذهنيٍّ واجتماعيٍّ جراء تراكمات تهميش وتحقير وقسوة حياتية لاحقتها منذ ولادتها، فحرمتها من حقها في الصحة وفي الماء وفي التعليم وفي المسكن.
واقعٌ غيّبها ومثيلاتها، وأقصاهن، فحال دون ارتقائهن بأنفسهن.
كما صوّر المخرج محبوبة وهي تردّ الفعل بشراسةٍ وتستعمل العنف دفاعًا عن نفسها وعن أختها وعن أحبائها. ليقول إن العنف الدفين يولّد العنف، ولا بد من حلول عاجلة تتجاوز بها ألمها وتحرّرها من قيود الفقر والجهل والتهميش وتوفّر لها متطلبات الحياة الكريمة.
امرأة ريفية متجذّرة وثابتة
لم يقتصر المخرج على تصوير مشاهد تسرد معاناة النساء الريفيات، بل سلّط الضوء أيضًا على خصالهن وما يحملنه داخلهن من طاقاتٍ وشحنات حب وحنان وعلاقات متينة تربطهن بعائلاتهن وبجيرانهن وأهالي منطقتهن. فهذه الروابط لا تزال تعني لهن الكثير ولم تتلاشى كما هو الشأن في المدن.
فصوّر البطلتين نسيمة ومحبوبة وهما تتغزلان ببعضهما وتعبّران بكل عفوية عن حبهما لبعضهما الذي فاق كل أنواع الحب على الأرض، وعن استماتتهما في الدفاع عن بعضهما البعض في كل حالاتهما، مظلومتين أو ظالمتين.
عرض أيضًا مشاهد تبرز حسّ التآزر والتعاون عند الريفيات، الذي تجسّد في مواقف “منوبية”. هي أمّ الجميع -الصالح منهم والطالح-، التي لا تستثني من عطفها وحنانها أحدًا، وتعمل على حلحلة مشاكلهم/ن فردًا فردًا، تأويهم/ن، تطعمهم/ن، تنصحهم/ن وتقرّب بينهم/ن. ملمّحًا بعرضه لهذه المشاهد إلى ضرورة استعادة الروابط الأسرية والأخوية والإنسانية وعدم التفريط فيها، لأهميتها في حياتنا، فهي التي تميّزنا وتسمو بنا وتصنع معنى لوجودنا.
كما صوّر عبد الحميد بوشناق اعتزاز الريفيات بانتمائهن إلى منطقتهن وتجذّرهن في بيئتهن رغم صعوبة العيش فيها. فجعل البطلة نسيمة تضحي بسعادتها الفردية من أجل سعادة مشتركة تتقاسمها مع سكان منطقتها، فتقبل بالزواج عن مضض من شخص تمقته وتنفر منه لتصرفاته الدنيئة، حتى تحمي مجموعتها ومنطقتها من شرّه.
وسمح للنساء، من خلال أدوارهن التمثيلية والمسرحية، بممارسة دور توعوي. ومن خلال حضورهن المقنع ومواقفهن الثابتة، فسح لهن المجال لدعوة المشاهدين/ات إلى التحرر من الموروث الثقافي ومن المخيال الشعبي، ولتشجيع الريفيات على المطالبة بآلياتٍ جديدةٍ تحميهن وتضمن كرامتهن، وبمقاربات تدرجهن في كافة عمليات التخطيط وبرامج التمكين على جميع المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
View this post on Instagram
يرحل الخيال وتبقى المرأة الريفية تراوح مكانها
تورّط المخرج في أحداث المسلسل، فطبعها بأفكاره التحررية وقناعاته وأحلامه، وبموازنته بين الواقعي والخيالي، وباعتماده الفكاهة للتعبير عن اليأس والإحباط، بغاية التأثير في المتفرج/ة.
عرضٌ درامي نجح من خلاله في استقطاب مشاهدين/ات من كل الأعمار والفئات والمستويات والمناطق، وحصد بالاعتماد على تصويت الجماهير 11 جائزة من جملة 18 رصدتها الإذاعة الوطنية التونسية في مسابقتها لأفضل الأعمال الدرامية التونسية لشهر رمضان 2025.
أبهر المتفرجين/ات بما قدّمه لهم/ن من مشاهد جديدة وغريبة، وما ردّده على مسامعهم/ن من أقوال كانت بمثابة صدى أصواتهم/ن، معتمدًا على طاقات نسائية أثبتت لياقتها الفكرية والفنية واندمجت مع سياق الأحداث فنجحت في تحريك مشاعر المتفرجين/ات. نساءٌ أبدعن بحسهن المرهف وروحهن الخفيفة وبمضامين رسائلهن. علِقت لقطات المسلسل بأذهان الجمهور، فردّدها وفكّكها وساءلها، وتفاعل معها، واستمتع بها.
فهل هذا دليل قاطع على تأثره وبلوغه مرحلة التأمل والتساؤل والمراجعة من أجل تغيير المواقف إزاء ما يلحق بالنساء الريفيات من ظلمٍ وتهميش؟ أم انتهى مفعول المسلسل مع انتهائه فـ”عادت حليمة لعادتها القديمة”؟ وهل من الممكن التعويل على الخيال ليمنحنا حلولًا وراحةً نفسيّةً، وهو سرعان ما يغادرنا ويعيدنا إلى واقعنا؟
يبقى لنا أملٌ واحد يجعلنا نحلم بأن يصبح الخيال واقعًا، وذلك عندما نؤمن بقانون الجذب، فنسلّم ونعتقد بأننا بتفكيرنا وبتركيزنا وبمنحنا مشاعرنا وأحاسيسنا لأمرٍ ما، سنجذبه إلينا.