بين الأرياف والمدن.. حتى الجغرافيا تعرقل مشاركة النساء في البلديات

لبنان- الانتخابات البلدية 2025

رغم عدم صدور أرقام رسمية نهائية بعد حول النسبة الإجمالية للنساء المرشّحات إلى البلديات، نظرًا لكون باب الترشّح والانسحاب لم يُقفل بعد في جميع المحافظات، إلا أن المؤشرات الأولية تُظهر ارتفاعًا نسبيًا مقارنة بالانتخابات السابقة، مع تفاوت واضح بين المناطق.

يُعدّ العمل البلدي مدخلًا أساسيًا لمشاركة النساء في الحياة العامة، إلا أن هذه المشاركة لا تتوزّع بشكلٍ متكافئ على مستوى الجغرافيا اللبنانية.

ففي المدن والمراكز الإدارية الكبرى، حيث تتوفّر بيئة أكثر انفتاحًا ونشاطًا مدنيًا، تحظى النساء بفرص أوسع للترشّح والانخراط في الشأن المحلي. أما في القرى الصغيرة والمناطق الريفية، فلا تزال العوامل العائلية، والاعتبارات العشائرية، والنفوذ الذكوري، تُشكّل عوائق فعلية أمام تمثيل النساء.

فجوة الترشّح.. الاصطفافات الأبوية التقليدية

بالاستناد إلى مراجعة أولية للوائح الانتخابية في عدد من الأقضية والبلدات، يتّضح وجود إقبال أوسع من النساء على الترشّح في المدن، مقابل تمثيل محدود أو شبه غائب في العديد من القرى النائية، ما يعكس فجوة واضحة في فرص التمثيل والمشاركة بحسب طبيعة المنطقة وظروفها الاجتماعية والسياسية.

في بلدة بشري، على سبيل المثال، بلغت نسبة النساء المرشّحات في هذه الانتخابات نحو 30%، وهو ما يُعدّ مؤشرًا على تحسّن ملحوظ في تمثيل المرأة على المستوى المحلي. في المقابل، لا تزال بعض البلدات الأبعد عن مركز القضاء تسجّل نسبًا متدنية.

وفي نموذج آخر، ترشّحت في قرية العزونية – قضاء عاليه امرأة واحدة فقط مقابل 11 رجلًا. كما ترشّحت 6 نساء فقط من أصل 48 مرشّحًا في قرية بيصور، (أي نحو 12.5%).

تُظهر هذه الأرقام فجوة واضحة بين المناطق، حيث تميل المدن الكبرى والمناطق التي تشهد نشاطًا مدنيًا وسياسيًا أوسع إلى تمثيل نسائي أفضل، بينما يبقى الواقع أكثر تحدّيًا في القرى التي لا تزال العائلات والاصطفافات التقليدية تهيمن على العمل البلدي.

ووفقًا لبيانات وزارة الداخلية اللبنانية، فإن مشاركة النساء في الانتخابات البلدية شهدت تحسّنًا طفيفًا في السنوات الأخيرة، لكنها لا تزال دون الطموح. ففي انتخابات عام 2010، بلغت نسبة النساء من بين الترشيحات 5.6%، فازت منهنّ 4.69% فقط، وارتفعت إلى 6.87% في عام 2016 (661 مرشّحة)، بينما لم تتجاوز نسبة الفائزات 5.44%.

اللافت أن استطلاعات تلك المرحلة أظهرت أعلى نسبة تأييد لترشّح النساء لرئاسة البلديات في محافظة جبل لبنان بنسبة 81%، بينما سجّل البقاع أدنى نسبة وهي 48.6%، ما يعكس مجددًا الفوارق بين المناطق من حيث التقبّل المجتمعي والدعم السياسي.

ويُعزى جانب من التقدّم هذا العام إلى اتفاق “سَلْمة” (سوا للمساواة)، وهو التزام شرفي غير ملزم قانونيًا أطلقته جمعية “فيفتي-فيفتي” بالتعاون مع عدد من الأحزاب والعائلات، بهدف تعزيز تمثيل النساء في المجالس البلدية. جاء هذا الاتفاق ليعوّض جزئيًا عن غياب قانون الكوتا النسائية، الذي لو تم إقراره، كان سيضمن وصول ما يقارب 4000 امرأة إلى المجالس البلدية من أصل 12,475 عضوًا/ة.

فرص المرأة تتفاوت بين المدينة والريف

تقول السيدة جومانة الإدلبي، المرشّحة عن المقعد الاختياري في رأس بيروت، إنّ “النساء في المدينة يمتلكن حوافز وفرصًا أكبر للترشّح لمناصب اختيارية أو بلدية، وذلك بسبب ارتفاع مستوى الوعي الاجتماعي بحقوق النساء وأدوارهنّ في الحياة العامة”. وتشير إلى أن “هذا الوعي انعكس من خلال دعم الجمعيات المدنية، وانتشار المنصّات الإعلامية التي تُساهم في إيصال صوت النساء وترويج حملاتهن الانتخابية”.

وتلفت جومانة إلى أن “اتساع فرص التعليم والعمل في المدن منح النساء ثقة أكبر بالنفس، وساهم في تعزيز حضورهن في المجال العام، ما جعل فكرة ترشّحهن للمجالس البلدية أكثر قبولًا وواقعية مقارنةً بالنساء في الأرياف، حيث لا تزال التقاليد والمجتمع المحافظ يشكّلان عائقًا أمام انخراط المرأة في العمل العام”.

لكنها في الوقت نفسه تُحذّر من التعميم، إذ ترى أن “المرأة في المدينة أيضًا قد تعاني من قيود اجتماعية داخل منزلها، حيث تُحصر أدوارها في الطبخ والرعاية فقط، وتُمنع من خوض معارك اجتماعية أو سياسية”. في المقابل، تؤكّد أن “المرأة العاملة والمنخرطة في الحياة العامة، سواء عبر عملها أو تفاعلها مع الناس ووسائل التواصل، تكون أقدر على الترشّح وأقرب إلى فهم الواقع والتأثير فيه، سواء كانت في المدينة أو في الريف”.

دانا قيدوح: المرأة الأولى التي تترشّح لبلدية شبعا

تُعد دانا قيدوح أول امرأة تُرشّح نفسها لعضوية المجلس البلدي في بلدة شبعا، وقد طُرح اسمها في البداية كنائبة رئيسة أو حتى كرئيسة للبلدية، لكنها تشير إلى أنَّ الذهنيات السائدة ما زالت تعتبر تولّي المرأة منصب الرئاسة “سابقة غير مقبولة”. تقول دانا: “العقبة الأكبر اليوم ليست القانون بل العقليات القديمة. هناك شريحة كبيرة من كبار السن ما زالت تتحفّظ على الفكرة، لكن بالمقابل، هناك حماسة وتشجيع من الشباب، الفتيات، وبعض الرجال الذين يرون في هذه الخطوة بداية حقيقية للتغيير”.

تؤمن دانا بأن التغيير يبدأ من القاعدة، وتوضح: “الكل يسألني: متى تستلمين منصبًا أكبر؟ أقول دائمًا إن الانطلاق يبدأ من القاعدة، من البلدية. إن لم نُصلح مجتمعاتنا المحلية، لن نتمكن من التقدّم أو التطوير”.

تملك دانا خلفية في العمل الاجتماعي، وتحرص على البقاء قريبة من الناس، وهو ما دفعها لخوض غمار الانتخابات. ورغم محاولاتها إقناع عدد من السيّدات بالترشّح، ترى أن الخوف والتردد ما زالا عائقين أمام كثير من النساء. تقول: “ربما ورش العمل التي شاركت فيها ساعدتني أكثر، لكن الدور الأهم يبقى للعائلة التي شجّعتني ودعمتني، خاصة بعد أن رأت حجم الحرمان التنموي في منطقتنا”.

ورغم الشائعات والانتقادات، كقول البعض: “كيف ستجلس امرأة بين رجال المجلس؟”، تؤكّد دانا أن كثيرًا من الرجال وقفوا في وجه هذه المقولات ودعموها علنًا. وتختم: “الأجمل هو حين ألتقي بأشخاص يسمعون عن برنامجي ويسألونني عن تفاصيله، فهذا التفاعل يعطيني دفعة كبيرة للاستمرار”.

جوزيان خليل: أول مختارة ورئيسة رابطة مخاتير في كسروان

في العام 2010، انتُخبت جوزيان خليل كمختارة في بلدة ذوق مكايل، لتصبح أول امرأة تتولى هذا المنصب في قضاء كسروان منذ عهد المتصرفية. وخلال شهرين، تمكّنت من تأسيس رابطة مخاتير كسروان، التي جمعت تحت مظلتها جميع مخاتير المنطقة، وتم انتخابها لاحقًا كأول رئيسة للرابطة، واستمرّت في رئاستها لست سنوات متتالية، ما جعلها أيضًا أول امرأة تترأس رابطة مخاتير على مستوى لبنان.

جوزيان خليل لم تكن ترى أن المجتمع الكسرواني مشبع بالذكورية، بل تعتبر أن تربيتها في منزل لا يفرّق بين الذكر والأنثى كانت حجر الأساس لنجاحها. تشير إلى أنها حصلت على أصوات من الرجال أكثر من النساء في انتخابات 2010، وتُبرز دورها في توحيد الأوراق القانونية الخاصة بالمخاتير على مستوى لبنان، بالتعاون مع الوزير زياد بارود. كما ساهمت في تعديل قانون يسمح للنساء بالحصول على إخراجات قيد فردية وعائلية لأولادها، خصوصًا أولئك الذين يعانون من وضع قانوني غير مسجّل.

لكن رغم الإنجازات، تكشف جوزيان عن التحديات التي واجهتها كامرأة في منصب مختار، إذ تقول إن بعض الرجال شعروا بالتهديد وبدأوا “يقنصون” عليها – على حدّ تعبيرها – وكأنهم “لا يحتملون أن تقودهم امرأة”.

تتذكّر جوزيان خليل عام 2013 كأصعب محطة في مسيرتها، إذ تعرّضت لحرب شرسة من جهات سياسية نافذة، وصلت إلى حد محاولة اختطافها، فقط لأنها وقفت في وجه مشاريع اعتبرتها خاطئة وغير عادلة للمخاتير في كسروان. تصف المرحلة بأنها لحظة مفصلية كشفت لها مدى عمق الذهنية الذكورية في الحياة العامة، وتقول: “كانوا الرجال يحاربوني ويقولوا: مين هيدي؟ امرأة جايي تتحدّانا!”. لكنها لم تتراجع، بل تمسّكت بموقعها، رافضةً الخضوع أو السكوت، ما رسّخ مكانتها كرائدة واجهت النظام الذكوري بشجاعة وثبات.

وتُدرك جوزيان أن الذكورية ليست حكرًا على القرى، بل موجودة أيضًا في المدن، لكن باختلافٍ في الشكل. “في الريف”، كما تقول، “تكون الذكورية شفّافة، واضحة مثل المرآة، نراها مباشرة. أما في المدن، فهي مُقنّعة، تُمارس بلطافة، تُغلّف بابتسامات وكلمات منمّقة، لكنها في الجوهر لا تختلف كثيرًا.”

بالنسبة لجوزيان، المرأة قادرة على أن تدعم نفسها دون أن تستفز الذكورية لدى الرجل، وذلك من خلال اعتمادها على هويتها كمواطنة لا كامرأة فقط. وهي ترى أن التحدي الحقيقي هو أن يُحاسب الإنسان في العمل السياسي على أدائه، لا على جنسه. من هذا المنطلق، تشجّع جوزيان النساء على دخول مواقع القرار، لا فقط كأعضاء في المجالس البلدية، بل كرئيسات ونائبات رؤساء، خصوصًا أن المرأة اليوم تمتلك المؤهلات والخبرة والشهادات.

وتنتقد جوزيان النهج السائد في بعض البلديات، حيث “تُسلَّم ملفات هندسية أو بيئية لأشخاص يفتقرون لأي خلفية متخصصة، في وقت تُقصى فيه نساء مؤهلات عن هذه المواقع فقط لكونهن نساء”. لكنها في المقابل، لا تُنكر أن النساء أنفسهن يحتجن إلى العمل على تطوير أنفسهن، “لأن من لا تملك خبرة أو مشروعًا واضحًا، ستُهمَّش تلقائيًا، وقد تقبل بتكليفها بمهام شكلية وتُساهم من حيث لا تدري في ترسيخ التمييز ضدها”.

وتستعيد جوزيان إحدى المحطات التي مرّت بها حين كانت مختارة، إذ لم يكن الرجال يُخبرونها بدايةً بكل تفاصيل مشكلات الضيعة، فقط لأنها “امرأة”. لكنها، كما تقول، تخطّت هذه المرحلة بفضل الحنكة والتجربة التي اكتسبتها من كبار السن، مضيفة: “أنا لست ضد الرجل، بل ضد الذكورية. القرار لا يكتمل إلا بالشراكة بين الجنسين.”

رسالة إلى النساء في الريف

تُوجّه جوزيان رسالة صادقة لكل امرأة تعيش في الريف، تقول فيها: “أنتِ قادرة على إثبات نفسك قبل أن تترشّحي لأي منصب. الترشّح لا يبدأ قبل شهر من الانتخابات، بل يبدأ منذ اللحظة التي تقرّرين فيها أن تكوني حاضرة وفاعلة في مجتمعك. تواصلي مع الجمعيات النسائية والمبادرات التي تدعم النساء، فالمعرفة بالشأن العام، والخبرة في العمل الاجتماعي، هي أساسٌ لأي دور سياسي.”

وتُضيف بنبرة ناصحة: “لا تسلّطي الضوء على أنوثتكِ، كي لا تسلّطي الضوء على ذكورية الرجل. أحيانًا، تستفز المرأة – من دون أن تقصد – ذكورية المجتمع إذا قدّمت نفسها من منطلق عاطفي أو شكلي. المرأة بطبيعتها ذكية وقادرة، وتملك من الحكمة ما يكفي لتشقّ طريقها بثقة وثبات.”

كتابة: أريج كوكاش

أُنتِج هذا التقرير بالتعاون مع المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية DRI، ضمن مشروع “أصوات من الميدان”، لدعم الصحافة المستقلة في لبنان.

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد