التحرش الجنسي والاغتصاب يواجه المغتصَبات في مراكز الشرطة في العراق

في الوقت الذي تنتشر فيه في المجتمع العراقي وتيرة حالات التحرش الجنسي، وبما يتضمنه من تراجع في حقوق المرأة، تفضل غالبية النساء الصمت على البوح بتعرضهن لحالات الاغتصاب.

“طوال حياتي أعيش الاغتصاب في الفراش وفي تأدية الواجبات، ولا أحد سوف يأخذ حقي”، بدأت حديثها بهذه الجملة سناء (22 عامًا)، اسم مستعار من النجف، أرملة تسكن في بيت أهل زوجها المتوفى برفقة طفليها، تقول متذكرة مرارة الاغتصاب:

“اعتدى عليّ بالاغتصاب زوج حماتي (زوج أخت زوجي)، بعد اطمئنانه من خلو الدار وذهاب الجميع إلى زيارة دينية في محافظة مجاورة لنا”.

سألني الضابط باستهزاء:

“اغتصبك من أي منطقة؟ وكم مرة؟ هل شعرتِ بالنشوة أثناء الممارسة؟ افتحي لي العباءة لأرى الكدمات”.

لا تسعف سناء ذاكرتها بتاريخ وقوع الحادث بالضبط، لكنها تتذكر أن وقت الحادث كان في صيف 2023 شديد الحرارة، وتتابع حديثها مضيفة:

“بعد أن انتهى من اغتصابي، أودعت أطفالي عند جارتي وخرجت من الدار لا أدرك إلى أين أذهب. وبعد أن أوقفت تكسي من الشارع الرئيسي، سألت صاحبه: ’أين أذهب إذا أحدهم اعتدى عليّ بالضرب؟’ فقادني إلى مركز الشرطة”.

وتابعت: “دخلت إلى المركز في حالة يُرثى لها، وتم تأخيري لبضع ساعات، ثم قابلت الضابط وبدأ بتدوين إفادتي، ولكن كانت نظراته مليئة بالتحرش، وبدأ يسألني باستهزاء:

’اغتصبك من أي منطقة؟ وكم مرة؟ هل شعرتِ بالنشوة أثناء الممارسة؟ افتحي لي العباءة لأرى الكدمات””.

تضيف سناء أنها تعرضت أثناء مكوثها في المركز للاغتصاب من قبل الضابط الخفر، وللتحرش اللفظي مرات عدة. وبحسب قولها:

“كانت نظراتهم تخترق جسدي، وجلّ كلماتهم تحرش، يراقبونني حتى حين أرتشف بعض قطرات الماء، ليتقدم نحوي أحدهم ليهمس متمنيًا أن يكون فوه قنينة الماء”.

“الصمت على الاغتصاب من علامات الموت”

في واحدة من القصص المؤلمة التي تعكس هشاشة الواقع الذي تعيشه العديد من النساء في المجتمعات المحافظة، روت الشابة “سناء” تفاصيل جريمة اغتصاب حماها لها، تعرّضت بعدها إلى سلسلة من ردود الأفعال المجتمعية التي حمّلتها اللوم بدلًا من إنصافها.

وقالت: “خرجت من مركز الشرطة بعد يومين من الجحيم، متجهة إلى بيت أهلي، وأنا أحمل في داخلي تفاصيل لم أستوعبها بعد. كنت أبحث عن ملجأ، عن حضن أم، لكنني صُدمت بردة فعل والدتي”.

ردة فعل الأم كانت!

تضيف سناء واصفة موقف والدتها الضعيف:

“كانت ترتجف، خدشت خديها بأظافرها، ثم صفعتني على وجهي، وركضت لتغلق باب الغرفة، خوفًا من أن تسمع زوجات إخوتي حديثنا. طلبت مني العودة إلى بيت زوجي، وكأن ما حصل لي مجرد كابوس يجب نسيانه”.

عن ثقافة لوم النساء: “اللي ما يدندل بزْبيلة، محد يعبّي له”!

سناء لم تكتفِ بصدمتها من الحادثة، بل تلقت صدمة ثانية من ردّ والدتها، التي لم تواسيها أو تطالب بحقها، بل وجهت لها اللوم، قائلة:

“عن أي حق تتحدثين؟ إذا تكلمنا، سيتحول الأمر إلى دم بين إخوتك وعائلة زوجك”.

ثم أضافت الأم مثلًا شائعًا باللهجة العراقية، يُحمّل النساء مسؤولية الإغواء: “اللي ما يدندل بزْبيلة، محد يعبّي له”!

عودة على حساب الكرامة

ورغم ما حدث، عادت سناء إلى بيت زوجها، بخطوات مثقلة بالخوف والخذلان. بعد أيام، التقت مغتصبها مجددًا، فقال لها ساخرًا:

“السكوت علامة الرضا”.

ثم هددها بشكل مباشر:

“سأكرر ما فعلت متى ما جاءت الفرصة.”

الإفلات من العقاب وغياب العدالة

تؤكد سناء أن مغتصبها يعيش مطمئنًا، بلا خوف من المساءلة أو المحاسبة، لأنه يعلم أن المجتمع يحميه، إما بالسكوت، أو بتبرير أفعاله. وتقول:
“في منطقتنا، هناك حالات كثيرة لنساء تم اغتصابهن، لكنهن يفضلن الصمت، لأن الحديث يشكل خطرًا مباشرًا عليهن. والمشكلة أن المجتمع يصدق الجاني، ويشكك في الضحية.”

ويعكس هذا الواقع خللًا خطيرًا في التعامل المجتمعي مع جرائم العنف الجنسي، حيث تتحول الضحية إلى متهمة، بينما يفلت المعتدي من العقاب، ويواصل حياته دون أي مساءلة.

جريمة النجف

في 7 كانون الثاني/يناير من العام الجاري، هزت جريمة اغتصاب بشعة مدينة النجف، بل والعراق بأكمله، بعدما تم استدراج فتاة تبلغ من العمر 17 عامًا عبر تطبيق “إنستغرام” من قبل شاب ارتبطت به عاطفيًا. قام الجاني باصطحابها إلى أحد البيوت السكنية في حي الرحمة، حيث اغتصبها، ثم تركها بعد أيام في مرآب داخل المدينة، حيث عثر عليها المارة وأبلغوا مركز شرطة المجتبى، ليتم اقتيادها إليه.

وفي اليوم التالي، وبعد أن قابلت الفتاة قاضي التحقيق، ادعت أن ضابطًا في مركز الشرطة قام باغتصابها أثناء احتجازها هناك، ما أثار صدمة جديدة في القضية.

تستر ومحسوبيات

أثار تفاصيل هذه الجريمة الصحفي حيدر سفينة، كما أكدت الصحافية رنا الصميدعي عبر منشور على مواقع التواصل أن “الضابط الذي اغتصب الفتاة في مركز شرطة المجتبى تربطه قرابة مباشرة بآمر لواء تابع لأحد الفصائل”.

تم تزويج الفتاة من مغتصبها الأول، وأنكرت الفتاة لاحقًا واقعة الاغتصاب من قبل الضابط.

وتساءلت في منشورها عن سبب تدخله في قضية تحقيقية، مشيرة إلى وجود محاولات للتستر على القضية.

وبحسب مصدر مطلع على أوراق التحقيق، فضّل عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية وعشائرية، قال: “إن عناصر من وزارة الداخلية تدخلت، وتم تزويج الفتاة من مغتصبها الأول، وأنكرت الفتاة لاحقًا واقعة الاغتصاب من قبل الضابط، بعد صدور تقرير الطب العدلي الذي برّأ الضابط من التهمة.”

أما تفاصيل الاعتداء، بحسب المصدر، فهي كالتالي: “بعد 24 ساعة من توقيف الفتاة، تم عرضها على ضابط التحقيق، وخلال الاستجواب، تم سؤالها عمّا إذا كان أحد غير حبيبها قد اعتدى عليها، وطُلب منها الحديث بصراحة، لأنهم سيحولونها إلى الطب العدلي. أبلغت المحققين أن مدير المركز أثناء استجوابها اغتصبها مرتين خلال فترة احتجازها”.

إجراءات متأخرة وانتهاكات صادمة

تصف القانونية رنا الجنابي الإجراءات المتبعة في مراكز الشرطة بأنها “متأخرة”، إذ تمر الضحية بمراحل معقدة داخل المركز، خصوصًا أن معظم الضباط من الذكور، ما يجعل احتمالات التحرش أو الاعتداء واردة. كما أن طبيعة الأسئلة غالبًا ما تكون خادشة للحياء، وقد تدفع الضحية إلى الانسحاب من تقديم الشكوى.

وتؤكد أن حالات الاغتصاب تستوجب إحالة الضحية إلى المستشفى خلال الساعات الأولى، إلا أن معظم الحالات لا يُتعامل معها بسرعة، ذ تُؤخّر الإحالة إلى الطب العدلي لساعات أو حتى أيام أحيانًا. وقد تُودع الضحية في سجن التسفيرات، مما يُسهم في ضياع الأدلة وإخفاء معالم الجريمة.

غياب الحماية وأدوار غائبة

تشير هناء إدور، الناشطة البارزة في مجال حقوق الإنسان، إلى “افتقار مراكز الشرطة لعناصر نسوية مدرّبة، وغياب كاميرات المراقبة، وعدم وجود دور حماية للنساء”.

وتضيف: “الضحية تحتاج إلى مكان آمن، عند تعرّضها للاغتصاب أو التحرش أو لأي تهديد لحياتها، تكون بأمس الحاجة إلى مكانٍ آمن يضمن حمايتها، لا سيما من خطر القتل بذريعة “غسل العار” من قبل ذويها، في حال قررت رفع دعوى قضائية. لكن ما يحدث في الواقع هو إيداع الضحية في سجن التسفيرات، حيث تصبح عرضة للتحرش أو الاغتصاب مرة أخرى من قِبل عناصر الامن”.

صعوبة الإثبات واللوم المجتمعي

إن صعوبة إثبات جرائم الاغتصاب تمثل واقعًا مؤلمًا يجعل معظم الضحايا يفضّلن الصمت، خصوصًا وأن الجاني غالبًا ما يخرج “كالشعرة من العجين”، أو يتم تحويل الضحية إلى مذنبة.

هذا ما صرّحت به النائبة المستقلة نيسان الزاير، المعروفة بفتح ملفات الفساد المرتبطة بمراكز التوقيف والسجون.

تقول نيسان الزاير عن سبب اهتمامها بالملف ذاته قبل أن تصبح نائبة: “صادفتني حادثة في المحكمة. كنتُ برفقة زميلة محامية، ولاحظنا مجموعة من النساء يُقتدن إلى القاضي، فدفعنا الفضول إلى الاقتراب من إحداهن وسؤالها عن سبب وجودهن هناك. فأجابتنا إحداهن بسرعة وبصوت منخفض: ’تم اغتصابنا داخل مركز الشرطة (التوقيف)، وتعرّضنا للتهديد… والآن نحن في طريقنا للتنازل أمام القاضي.’”

هذه الحادثة تركت أثرًا عميقًا في نفس النائبة، ودَفعتها لاحقًا إلى تتبّع قضايا مماثلة، لتكون صوتًا لضحايا لم يجدن من يسمعهن.

اعتراف من الداخل

تواصلنا مع مصدر في وزارة الداخلية العراقية، فأكّد أن الموضوع “وارد وحسّاس”، وأن الضحايا يواجهن صعوبة كبيرة في إثبات واقعة الاغتصاب بسبب نقص الأدلة.

وأضاف أن الوزارة، من وجهة نظره، لا تخلو من انتهاكات لحقوق الإنسان، مشيرًا إلى أن “المجتمع العراقي ذو طابع عشائري وديني، ما يسهل عملية التسويف والتستر على مثل هذه القضايا”.

وبيّن المصدر أهمية تثقيف النساء وتشجيعهن على التبليغ، لأن ذلك يُسهم في ردع من تسوّل له نفسه ارتكاب مثل هذه الجرائم الشنيعة، ويمنع تكرارها.

وأوضح أن التبليغ مهم جدًا، “حتى وإن تم تبرئة الجاني قانونيًا، لأن الأثر المجتمعي يبقى قائمًا”، على حد تعبيره. في هذا السياق لفت إلى حالة  ضابط “اتُّهم باغتصاب فتاة أثناء توقيفها. حتى بعد تبرئته، تضرّرت سمعته ومسيرته المهنية ضمن مجتمع يراعي السمعة بشدّة”.

انتهاكات موثقة داخل السجون ومحو أدلة

تحدّثت عضوة سابق في المفوضية العليا لحقوق الانسان، فضّلت عدم ذكر اسمها، عن تجربتها اثناء زياراتها المتكررة، قائلةً: “قمتُ بزيارة السجون ومراكز التوقيف، واطلعتُ على عشرات من حالات الاغتصاب، غالبيتها وقعت داخل مراكز الشرطة”.

وأشارت إلى أن “الانتهاكات لا تقتصر على ضحايا الاغتصاب فقط، بل تمتد إلى المتهمات في قضايا أخرى أيضًا، حيث يتعرّضن للتحرش أو الاغتصاب أثناء التحقيق”.

وتابعت: “الضباط يمتلكون خبرة دقيقة في كيفية إخفاء معالم الجريمة؛ إذ يتعمّدون تأخير إرسال الضحية إلى الطب العدلي حتى تختفي آثار الاعتداء”.

كما استشهدت بجريمة حصلت داخل أحد المراكز، حيث “دخلت مجموعة من الموقوفات وكان من المفترض أن تُضاف إلى ملفاتهن شهادات ’عذرية’. لكن بعد خروجهن، اختفت تلك الشهادات من أضابيرهن، ما تسبّب لاحقًا في مقتل عدد من الفتيات على يد ذويهن بذريعة غسل العار”.

إذلال أثناء التحقيق

قبل سنوات، نشرت وزارة الداخلية مقطعًا لضابط يحقق مع امرأة مغتصَبة، وسألها بشكل مهين: “من وين تم اغتصابك؟”

تحول هذا المشهد إلى مادة للسخرية والتنمر، كما خلّف وصمة مجتمعية رافقت الناجية.

لاحقًا، تضاربت الأنباء حول مصيرها، بين من قال إنها توفيت بحادث، وآخرون قالوا إن ابنها انتحر بسبب التنمر، ما أدى إلى وفاتها من الحزن.

اغتصاب وغسل عار

رشا، (27 عامًا)، هربت من العراق إلى تركيا بعد سبع سنوات من مقتل شقيقتها، تقول: “تم قتل شقيقتي بعد أن رفعت دعوى على شقيقي بتهمة التحرش”.

وتضيف: “بعد مكوثها ثمانية أيام في المركز، عادت إلى المنزل وكان أحد الضباط برفقتها يحاول إقناعها بالتنازل عن القضية. صرخت في وجهه: أنت اغتصبتني وتتحدث عن الشرف.”

شجاعتها بالمواجهة كانت سببًا في قتلها بدافع” غسل العار”!

كتابة: بنين إلياس

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد