ما زلت أبحث أنا وأمي عن بيت بأربع جدران لا ألف عين 

قبل أكثر من عامين، قررت أنا وأمي وشقيقتي الصغرى أن نغادر منزل والدي والعائلة، والاستقلال بحياتنا بعيدًا عن ويلات العيش في بيت يحمل بين أركانه قليل من الحب والكثير من الكراهية والمكائد والمؤمرات غير المُبررة.

حينها، كان أكثر ما يقلقني ويشغلني، كيف سيعيش ثلاث نساء في بيتٍ مستقلٍّ داخل مجتمع لا يرى أن لأي امرأة الحق في أن تشعر، تتنفس، وترى في نفسها إنسانةً مستقلةً، غير تابعة أو “ناقصة عقل ودين”. امرأة، لا يلومها أحد إذا بنت أسوار وحوائط صدّ بينها وبين من يدس أنفه في كل تفصيلة صغيرة وكبيرة بحياتها، ويعدّ عليها أنفاسها، زفراتها، إيماءاتها وخطواتها. ففي كل طريقٍ تسير به امرأةٍ ما في وطني تجد وصيًّا جديدًا ينبثق فجأة أو ينبت من تحت الأرض؛ (سمسار الشقق، حارس العمارة، الأخ الأكبر، ابن العم، ابن الخالة، أو ابن الجيران، وربما سأترك القوس مفتوحًا!

من القيد الأبوي لأصفاد السماسرة

كانت الأمور تسير على نحوٍ جيد، خطة الخروج من المنزل تسير في طريقها الصحيح.

الصرخة التي دوّت في أذن أبي وعائلته وصل صداها للجميع، حين قررنا أن نقول لا، للتعنيف والتهميش ووضعنا في المرتبة الأخيرة دائمًا، وتركنا لمصيرنا نبحث عن عمل، لا بل عدة أعمال لنتمكن من الإنفاق على أنفسنا. إلا أن أزمة البحث عن سكن ظلّت تستفحل وتزيد من تعقيداتها.

“لوحدكو ولّا معاكو راجل؟”

“واحدة تقولي مطلقة وواحدة تقولي زوجها متوفى!”

ففي أيامنا الأخيرة في بيت العائلة، اخترنا العيش في مدينةٍ سياحية ظنًّا منا أننا سنتمكن من الإقامة في بيت هادئ دون أن يتدخل أحد في شؤوننا. بحثنا في بعض الصفحات الخاصة بالمدينة على موقع التواصل الاجتماعي “فيس بوك”، حتى عثرنا على صفحتين أو أكثر. بدأنا في مراسلة السماسرة ومن يعلنون عن شقق للإيجار بأسعار معقولة ومنطقة آمنة. أخذنا بعض الأرقام بشكلٍ عشوائي، وبدأت رحلة البحث الحقيقية.

بمجرد أن يرد أحدهم على والدتي وتخبره بطلبنا نجد الصوت صادرًا من الجهة الأخرى، يصدر نفس السؤال بنفس الصيغة: “لوحدكو ولّا معاكو راجل؟”، يقصد بالطبع الزوج.

تخبره والدتي أنها منفصلة، فيجيب بنبرة استهزاءٍ غير مصدقٍ لما تقوله: “واحدة تقولي مطلقة وواحدة تقولي زوجها متوفى!”.

لم أصدق للوهلة الأولى ما تخبرني به أمي، فمن خلال مكالمة مدتها دقيقة ونصف لدقيقتين، أطلق السمسار العنان لخياله وتطفّله معًا. فكثيرٌ من الرجال في مجتمعي، وإن لم يكن جميعهم، يظنون أن أي امرأةٍ تعيش وحدها أو حتى مع أسرتها النسائية دون رجل، هي امرأة عاهرة أو كما نقول في تعبيرنا العربي الدارج: “تسير على حل شعرها”. لهذا قررنا ألا نتعامل مع هذا الشخص ونبحث عن آخر، حتى وصلنا لمستأجر كان صوته ونبرة حديثه تنم عن شخصية هادئة وعاقلة. لم يسألنا عن أسمائنا، توسم بنا خيرًا، فمنحنا منزلاً يستأجره لمدد قصيرة، مقابل مبلغ مالي محدد لكل يوم.

استعد دائما لسؤال ماهو مصدر دخلك؟

في أيامنا الأولى في بيتنا الصغير الجديد، نمت مشكلةٌ جديدة لم نكن نحسب لها حسابًا في غمرة انشغالنا بالانتقال والسكن المستقل عن العائلة الكبيرة. الشخص الوحيد الذي قرر أن يستأجر لنا الشقة الصغيرة دون سؤال عن حياتنا ومن أين نأتي ولماذا قدمنا لهذه المدينة التي تبعد عن العاصمة عشرات الكيلو مترات، لا يسمح بأن يقيم أحد في شقته فترة طويلة، ونحن لا بيت بديل لدينا!

“بتشتغلوا إيه وإيه مصدر فلوسكم، معاكم رجل؟”

فبدأت رحلتنا من جديد في البحث عن سكن آخر بالمدينة ذاتها، جولة جديدة على مجموعات فيس بوك، وبين أرقام هواتف حقيقية يستجيب أصحابها سريعًا. الوقت يمضي ولا ندري ماذا نفعل، وبعد أكثر من محاولتين فاشلتين، عثرت على رقم هاتف مُذيل بمنشور قديم على الصفحة. اتصلت به، لم يُجب في المرة الأولى، وفي الثانية تناهى لسمعي صوت رجل بدا كأنه ينحدر من أصل جنوبي، من إحدى قرى صعيد مصر النائية. أخبرته أنني أبحث وأختي وأمي عن شقة للإيجار فترة طويلة بسعرٍ مناسب، فباغتني بسؤال “بتشتغلوا إيه وإيه مصدر فلوسكم، معاكم رجل؟ “.

“اسألهم البنتين متجوزين ولا لا”!.. علمنا أننا غير مؤهلات للإقامة في بيته.

حالفه الحظ وانقطع الاتصال فجأة بعد تشويشٍ على الصوت بسبب ضعف الشبكة بشقة الطابق الأرضي التي كنا نقطنها. حاولت جمع كلماته بالكاد، قبل إغلاق الخط، عرفت أنه لا يصلح وأنها محاولة غير مُجدية أن أعيد الاتصال به مرة ثانية، لذا قررت شقيقتي وأمي التجول بين البنايات المحيطة بنا بحثًا عن سكن آخر. بعد السير لبضعة أمتار عثرتا على “ستديو” بالطابق الأخير من بناية شاهقة الارتفاع.

تجولتا به ونال إعجابهما وكان سعره مناسبًا لنا، فأخبرهما حارس العقار أن عليه الاتصال أولا بصاحب الشقة لإعلامه. وفور اتصاله به، سأله الطرف الآخر على الهاتف، “اسألهم البنتين متجوزين ولا لا”، ويبدو أنه امتعض حينما علم أننا غير متزوجات.

عجيب أمرنا أنيهنا الربع الأول من القرن الـ21، وما زلنا نقيس سلوك فتاة بخانة الحالة الاجتماعية في بطاقة الهوية! لم تكن شقيقتي قد تزوجت بعد، لذا علمنا أننا غير مؤهلات للإقامة في بيته.

الخروج والعودة للبيت مرهونان بمزاج مالك الشقة

مر شهر تلو الآخر، حتى استقر بنا الحال في أول بيت بدأنا فيه حياتنا الجديدة. لم نجد في هذه المدينة الصغيرة التي تبعد مئات الكيلومترات عن القاهرة، بيت صغير بأربعة جدران فقط، لا ألف عين ورقيب على الحركات والسكنات.

ثلاث نساء من مراحل عمرية مختلفة خمسينية وثلاثينة وعشرينية، أطلقن رصاصة الـ”لا” في وقتٍ ومجتمعٍ وظروف ترغمهن على قول مليون نعم.

بعد أن علم صاحب الشقة بأننا سيدتين وحدنا، دون رجل، أعلمنا أنه يضع مواعيد للخروج والعودة للمنزل، ويُفضل أن أطلب ما أريد شراءه من زوجته أو أحد أبنائه الصبيان، بدلًا من خروجي وحدي لشراء احتياجاتي!

علمنا بوفاة أبي في ظروف لا نعلمها حتى الآن، فقررنا العودة للقاهرة بحثًا عمّا تبقّى من حقنا الضائع. ظننا أن أبي ترك لنا ما يقينا به من غدرات الزمن، لكن هذا الرجل الذي لفظنا بعيدًا عن عبائته عشرات السنين، تركنا فريسةً بين فكي الزمن، يمضغنا، يعتصرنا، ويصنع بنا ما يحلو له.

بدأت رحلة البحث عن سكنٍ جديدٍ في القاهرة. ألقيت نظرةً سريعةً على إعلانات ومنشورات عن شقق للإيجار في مدينة حلوان ونطاقها.

عثرنا على شقةٍ محدودة المساحة، تناسبني وأمي بعد زواج شقيقتي الصغرى قبل عدة أشهر. تواصلت مع السمسار، وبعد الاتفاق على عمولته ومصاريف معاينة الشقة وغير ذلك، أخبرني أن صاحب الشقة بعد أن علم بأننا سيدتين وحدنا دون رجل، يضع مواعيد للخروج والعودة للمنزل، ويُفضل أن أطلب ما أريد شراءه من زوجته أو أحد أبنائه الصبيان، بدلًا من خروجي وحدي لشراء احتياجاتي. لم أستطع فعل شيئًا فقط أغلقت معه الهاتف، وبعد عدة مشاورات مع الأسرة، شعرت بإصبعي وهو يزحف نحو زر الحظر على الشاشة، حظرت رقم السمسار وحذفته من سجلات الهاتف، كوسيلة آمنة محدودة الخسائر للانتقام منه ومن مالك الشقة الذي لا أعرف عنه الكثير، سوى أنه طبيب يعمل في إحدى دول الخليج العربي.

إن كنت من أسرة نسائية فكل زايارتك مشبوهة

بعد مرور ثلاثة أشهر على إقامتي ووالدتي عقب زواج أختي الصغرى، في منزل صديقتي المقربة ووالدتها، فشلت جميع محاولاتنا في العثور على بيتٍ مناسب، فكنا واقعين بين مطرقة أسعار الإيجارات المبالغ بها وسندان أهواء السماسرة ومُلاك الشقق.

كان الأفضل العودة لمدينتنا البعيدة مرة أخرى، ما دامت الجدران بالقاهرة لها أيضَا ألف عين!

“خلوا بالكم الزيارات ممنوعة”!

لكن الحظ انقلب علينا مرةً ثانية، وسكنت سيدة روسية الجنسية في الشقة التي آوتنا لأكثر من عام. العودة كانت واجبة على أية حال، خصوصًا وأن صاحب البيت وعدنا بأن السيدة ستترك الشقة قريبًا وبإمكاننا الانتقال لها بعد ذلك. بحثنا عن سكنٍ مؤقت لشهر واحد. تتراص البنايات أمامنا لكن لا شيء يصلح، وأخيرًا وجدنا شقةً بالطابق الثالث في إحدى العقارات الضخمة الواقعة في وسط المدينة.

استقبلنا حارس العقار بابتسامةٍ ساذجةٍ ووجه صغير ينم عن شخصية هادئة دائمة الصمت. اتفقنا على سعر الإيجار -المبالغ فيه بالمناسبة- لكن لم يكن لدينا بديل آخر. وعندما علم أنني سأقيم وأمي وحدنا بالشقة، وأختي ستتردد علينا في زيارات متقطعة، راقبت عينيه الضيقتين وهما ترمقانا. نظرةٌ خاطفة أعقبتها جملة انتظرتها قبل حوالي 10 دقائق مدة التفاوض على الإيجار ومبلغ التأمين: “خلوا بالكم الزيارات ممنوعة”، قرأت ما بين سطور كلماته البسيطة المقتضبة، أنه يقصد قطع زيارات الأغراب لبيتنا، ولمزيد من التحديد الزيارات الرجالية.

ما زلت أبحث أنا وأمي عن بيت صغير جدرانه صماء، لا أذن تسمع ولا عين تراقب.

حتمًا أنا لا أشعر بالراحة وأنا أكتب هذه الكلمات. ثِقل من ابتلع صخرة حادة صلبة، علقت في منتصف صدره فحبست أنفاسه. لكنها الحقيقة، فكثير من الرجال يوصمون أي امرأة مستقلة ويطلقون الأحكام المسبقة عليها ويمنحون أنفسهم حقّ التطفل عليها، وقد يصل الأمر اعتبار وجودها في نفس العمارة مهم يعني الإساءة لسمعة الأسر والعائلات “المحافظة” المقيمة بالشقق المجاورة.

كان من المفترض أن أبصق في وجهه الصغير وسحنته الباردة وأنصرف. لكن حقائب السفر الثقيلة، وعشرات الكيلومترات التي قطعناها من القاهرة، واحتمالية أن نبيت على أحد الأرصفة في تلك الليلة – وقد بدأت أقدامنا تؤلمنا والنوم يدق رؤوسنا- جميعها أسباب كانت كفيلة بأن ابتلع هذه العبارة وأصمت.

بتنا نُعّزي أنفسنا بانقضاء الوقت سريعًا لانتهاء مهلة إقامة الأجنبية في “شقتنا”، للعودة والاستقرار بها لحين يُحدث الله أمرًا كان مفعولا. وحتى لحظة كتابة هذه الحروف، ما زلت أبحث أنا وأمي عن بيت صغير جدرانه صماء، لا أذن تسمع ولا عين تراقب.

وفقًا للموقع الرسمي لهيئة الأمم المتحدة للمرأة، فإن حوالي 736 مليون إمرأة حول العالم، قد تعرضن للعنف الجسدي أو الجنسي من الشريك أو الزوج أو من غيره. أي أن امرأة بين كل 3 نساء يتعرضن لهذا النوع من العنف، الذي يترك آثاره واضحة على جسد الضحية وجلدها، لكن يبدو أن هيئة الأمم المتحدة للمرأة، لم ترصد بعد ما يتعرضن له السيدات من عنف، لا يترك أثر ولو طفيف على سطح الجلد ومحيط العين والفم.

عنفٌ أداته الحادة هي الكلمة والنظرة التي تحمل مليون سوط، تُجلد به كل امرأة، قررت أن تستقل بحياتها، وتقول لا في وجه كل من قالوا “نعم”.

 

كتابة: هبة الله سيد

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد