
“الفستان الأبيض”: ما بين فانتازيا “سندريلا” وسرديات الواقع العربي
لا شك أن حكاية “سندريلا” من أكثر القصص الكلاسيكية رسوخًا في وجدان أجيال الفتيات، فهي بمثابة الوعد المغري لكل فتاةٍ نشأت في مجتمع يصوّر الزواج كطوق النجاة الوحيد من استلابها الأسري والمجتمعي، ولكن أين هذا الحلم الوردي من الواقع؟
في تجربتها الإخراجية الأولى، تعالج الكاتبة والمخرجة جيلان عوف من خلال فيلمها “الفستان الأبيض” هذه الفانتازيا بالغة الرسوخ في عقول المجتمعات الأبويّة، بتتبّع رحلة “وردة”، الفتاة المقبلة على الزواج والتي تفقد فستان عرسها قبل يوم واحد من زفافها.
هذه الحادثة التي تبدو بسيطة في مجملها، تنفجر إلى سلسلة من المواجهات العنيفة مع الواقع والمعتقدات الموروثة، مع التصورات الاجتماعية عن النساء، ومع الذات الباحثة عن معنى حقيقي بعيدًا عن قوالب الأنوثة الجاهزة. عبر هذه الرحلة المضنية لإيجاد فستان بديل، تبدأ “وردة” رحلة داخلية موازية، تتفكك فيها الأحلام المزروعة قسرًا، وتُطَرح تساؤلات مصيرية حول الزواج، الطموح، والحرية.
حتمية الزواج: قيد النساء الأبدي
تفكك الكاتبة عبر شخصية “وردة” صورة الزواج المفروض قسرًا كغايةٍ بيولوجية-اجتماعية للنساء، بدلًا من أن يمتلكن الإرادة الحرّة لتقرير مصيرهم، وكأن وجود أرحام لدى النساء بيولوجيًا يحتّم عليهن أن يتقبّلن فكرة الزواج وإنجاب الأطفال، حتى لو لم يكن مستعدات أو في عمرٍ مناسب لتحمّل مثل هذه المسؤولية.
وهذا ما حاولت أمّ “وردة” أن تمليه على ابنتها لتقنعها بأنّها مستعدّة للقيام بهذه الخطوة، وأنّها هي نفسها راودتها هذه الشكوك عند إقبالها على الزواج، ولكنّها اقتنعت أنّه “يجب على النساء أن ينكسرن لكي يصبحن أقوى وأنضج”، لتصرخ “وردة” بقهرٍ قائلةً: “يمّا أنتوا بتكسرونا بس!”. كاستعارة للأعباء والتضحيات التي يجب على النساء تحمّلها في سبيل الحصول على هذا العقد الذي يمنحها قبولًا اجتماعيًا، وصكّ نجاحٍ في حيواتهن كنساء. حيث حوصرن في قوالب نمطيّة جندريّة تبرز الزواج على أنّه السيرورة الطبيعية و”الفطرية” التي خلقنَ من أجلها.
في ذروةِ مشهدٍ محوريّ، تنهار “وردة” باكيةً تحت وطأة التحضيرات لعرسها، متسائلةً بمرارة إن كان الزواج حقًا ما تريده، وإن كانت حياتها ستنتهي عند زواجها دون أن تحقق طموحاتها -كالعمل في مهنة الصحافة التي درستها- ردّ أمها القاطع: “بيتهيألك!”، يختزلُ كل أفكار المجتمع المُحبطة، التي ترى الطموح النسويّ ضربًا من ضروب الخيال، ويلخّص مأساة الأجيال النسائية المكبوتة تحت سلطة نظامٍ قمعيٍّ لا يعترف باستقلاليتهنّ، ولا بصوتهنّ غير المسموع رغم كلّ جهودهنّ لإيصاله.
“الفستان الأبيض” ينلبس مرّة واحدة في العمر!
شبح المثالية والوصم الاجتماعيّ
بذكاء سردي لافت، جعلت الكاتبة من “الفستان الأبيض” -الذي كان المحرّك الأساسي لأحداث الفيلم– رمزًا لجميع أحلام النساء والآمال المغشوشة التي وعدنَ بها ولم تجد سبيلها للنور. حيث استحضرت قصة “سندريلا” بطريقةٍ معكوسة، فبدلاً من التحول السحري إلى أميرة، تكتشف “وردة” أن رحلتها مع الفستان تودي بها إلى قفصٍ جديد، لا إلى الخلاص، إذ أنّ الواقع أشدّ صرامة وقسوة ممّا صوّرته لنا الحكايات العالمية.
“وردة”، التي بنت على فستانها العديد من الآمال والتطلّعات، لأن خالتها يومًا ما قالت لها أنّه: “ينلبس في العمر مرّة واحدة”. تكبر وهي تحلم أن تكون أميرة في فستانها الأبيض وتعيش لحظة خياليّة، ليتبخّر هذا الحلم عند رؤيتها لفستانها المنشود محترقًا قبل يومٍ واحدٍ من زفافها، مرتطمةً بالعديد من جدران الواقع خلال رحلتها للبحث عن فستان جديد.
في حديثٍ مؤثّر بين “وردة” وحبيبها، يصرخُ في وجهها ممتعضًا من شكواها حول ما تريد وما تحبّ، في إقصاء تامٍّ لأحلامها التي تخلّت عنها من أجله، وصرفها النظر عن العديد من احتياجاتها لتسهّل هذا الزواج، لتقابَل هذه التضحيّات كلّها عند أوّل طلبٍ بسيط تطلبه منه بجملة: “ما ينفعش تعوزي كلّ حاجة”. في إشارةٍ للتسخيف والإهمال الذي يطال حاجات النساء مهما كانت جديّتها. لتردّ “وردة”: “وما ينفعش ما عوز أي حاجة خالص يا عصام!”. لتوضح الكاتبة فكرة المثاليّة المفروضة اجتماعيًا على النساء في سبيل تفادي الوصم. فالمجتمع لا يفرض فقط مؤسسة الزواج، بل يفرض نمطًا محددًا لما يجب أن تكون عليه العروس؛ “مطيعة” لعائلتها أولًا، ثمّ لزوجها ثانيًا تحت راية الوصاية الذكوريّة، دون أن يستطعنَ تفادي النبذ العلني لهنّ إذا اخترنَ الاستقلال أو رفضنِ الانصياع لهذه المعايير.
أجساد النساء واستباحة القمع والتحرّش
اختزال أجساد النساء إلى مصدرٍ للعار والوصم الاجتماعي
يسلط الفيلم الضوء على آلية اختزال النساء إلى مجرد أجساد محمّلة بالعار والخطيئة.
في مشاهد متلاحقة، تتعرض النساء في الفيلم إلى سيل من التعليقات المُهينة عن أجسادهنّ، بدءًا بالأم التي تلوم “وردة” على اكتسابها الوزن وعدم ملاءمتها للفستان، مرورًا بالعريس الذي يقتحم صالون التجميل ويهدد بالطلاق إذا لم تغيّر عروسته فستانها الذي لم يعجبه.
ثم يأتي المشهد الذي تصل فيه ذروة الإدانة أوجها، إذ تتعرض “وردة” وصديقاتها لتحرّشٍ جماعيّ أثناء حملهنّ قطعة “لانجري” موجودة ضمن حقيبة؛ ليتهافت عليهنّ عشرات الشبان لمحاولة رؤية “اللانجري” أو حتى لمسها، دون أن يهرع أحد لمساعدتهنّ سوى بعضهنّ. هذا المشهد يعرّي الكبت الجنسي الممزوج بثقافة لوم الضحايا، حيث تُحمَّل النساء مسؤولية التحرش بهنّ بدل محاسبة الجناة.
فسؤال “وردة”: “هل كان حملنا لهذا “اللانجري” في الشارع هو السبب فيما حصل؟”. وردّ “بسمة” عليه بنبرة حاسمة: “سؤالك هذا هو السبب.” هو إشارة إلى منظومة اللوم الداخلي التي يغرسها النظام الأبوي في عقول النساء لإخضاعهنّ وتغييب التضامن النسوي بدلًا من محاسبة الجناة الحقيقيين، فمجتمعاتنا ما زالت تفتقر إلى القوانين التي تضمن حقّ النساء في مثل هذه المواقف، وما زالت تبرّئ المتحرّشين من أفعاله بلوم النساء على أفعالهن وأقوالهن ولباسهن وخياراتهن دون الإقرار بجرائم الرجال المعتدين أو تفعيل آلية محاسبة حقيقية بحقه، حيث أنّ أصل الجريمة يكمنُ في هيكلية النظام الأبوي، لا في ملابس النساء.
الرأسمالية وتأثيرها على النساء
ما بين الطبقيّة، واستغلال اليد العاملة
لا تكتفي الكاتبة في فيلمها بفضح آليات القمع الممارَس بحقّ النساء في المجتمعات الأبوية فحسب، بل تتعمّق في كشف التواطؤ البنيوي بين هذا القمع وهيمنة النظام الرأسمالي الذي يستغلّ أجساد النساء وأحلامهنّ بطريقة ممنهجة.
فالرأسمالية، وعبر صناعة الاستهلاك، تعيد إنتاج صورة النساء “المثاليات” المقبولات اجتماعيًا، وتبيعهن أوهام التحرر من حلال الانخراط في أنماط الحياة الفارغة. في هذا السياق، يأخذنا الفيلم إلى عوالم لا ننتبه لتفاصيلها نتيجة انغماسنا في واقعٍ مشوّه تصنعه لنا السوشال ميديا ومؤثريها، يظهر هذا بوضوح في شخصية “بسمة” التي نراها طيلة الفيلم متعلّقةً بهاتفها متخيّلةً نفسها نجمة مشهورة، ولا تجد إلى ذلك سبيل سوى الأوهام التي تروّج لها منصات التواصل الاجتماعيّ.
وفي سياقٍ متّصل، تواجه “وردة” و “بسمة” أثناء رحلتهما احتقارًا طبقيًا فجًّا، إذ عوملنَ بقلّة احترام بالحكم على ملابسهنّ، ومُنعنَ من لمس الفساتين الباهظة أو تجربتها، ووضعتا في قبوٍ للانتظار، لأن السكرتيرة رأت أنّ هذا هو مكانهنّ الصحيح حتى لا يلوّثا واجهة المحلّ. لننتقل إلى مشهد آخر، حيث تكشف “وردة” لزبونة سرّ القبو الذي يضمّ مجموعة من النساء المصريّات يصنعنَ فساتين تسوّق لهنّ صاحبة المحل على أنّها مصنوعة في فرنسا، لتباع بعدها بأسعار خيالية، في إشارة من الكاتبة هنا إلى استغلال المصانع المحليّة لليد العاملة المصريّة من جهة، وسذاجة “وهم الرقيّ” البرجوازيّ من جهة أخرى.
وعلى هذا النهج، يواصل الفيلم توجيه النقد للمنظومة الرأسمالية الطبقيّة، فالمرأة التي أحرقت ابنتها فستان “وردة”، لم تكترث بتعويضها أو الاهتمام بمشاعرها، والشخص الذي اتّهم “وردة” وحبيبها بقيامهم بأفعال فاحشة فعل ذلك مستنكرًا وجود أشخاص من طبقة اجتماعية أدنى في حيّه الفاخر. تكشف هذه المواقف كيف تُستخدم الطبقيّة كأداة رأسمالية تُعمّق الانقسامات المجتمعيّة، مختزلةً قيمة الفرد في مظهرهِ/ها ومكانتهِ/ها، كما حدث مع “وردة” التي لم تشفع لها شهادتها الجامعية أمام الأحكام المسبقة.
القاهرة بعدسةٍ سينمائية فريدة
إضافة إلى قوة الطرح الاجتماعي، أبدعت “جيلان عوف” إخراجيًا بنقل تفاصيل القاهرة اليومية دون تجميل أو تزييف، كما أبرزت ببراعة التناقضات الطبقية عبر التنقّل السلس بين الأحياء الراقية والشعبيّة المهمّشة، حيث ترسم الكاميرا الفجوات الطبقية، وتعمّق شعور الشخصيات بالاغتراب طوال الرحلة من خلال اعتمادها تكنيك الواقعية الجديدة، فكانت الكاميرا تتبع الشخصيات بشكلٍ شبه وثائقي، ما عزز الإحساس بالتوتر والضياع الداخلي، وخاطبت حواس المشاهد دون تصنّع.
رغمَ ذلك، افتقرَ الفيلم إلى العديد من الأفكار التي كان يجب تضمينها، إذ أنّ هناك العديد من الفجوات التي لم تُملأ، كـ”بسمة” التي كانت من الشخصيات الرئيسيّة، ومع ذلك لم توضَّح دوافع هذه الشخصيّة بشكلٍ مفهوم. حيث اهتمّت الكاتبة بإبراز الجوانب التي تخدم الحبكة الأساسية دون الخوض بالماضي والمواقف التي أودت بها إلى هنا، ما أضعفَ الفيلم الذي ناقشَ العديد من الأمور المهمّة، ولكن دون تقديم معالجة دقيقة للمفاهيم المحوريّة التي تمّ ترميزها بطرق شاعريّة، وهذا ما قد يفتح الباب أمام تحليل القضايا من وجهة نظرِ المتلقّي/ة عبر التعامل معها بسرديّة دراميّة بحتة، والتحيّز لوجهة نظر اخاصّة، ليست بالضرورة صحيحة.
في النهاية، لا نستطيع إلّا أن نعترف بجهود “جيلان” التي استطاعت طرحِ العديد من القضايا في سياق يومٍ واحد فقط من حياة “وردة”، وهو تحدًّ كبير لا يقدر الجميع على فعله.
“الفستان الأبيض” مرآة سحرية لانكساراتنا اليوميّة
“الفستان الأبيض” ليس مجرد رحلة بحث عن ثوب، بل هو رحلة اقتلاع من الأوهام، وتعرية لآليات قمع النساء في النظام الأبوي والرأسمالي.
إنه صرخة ضدّ التنميط الجندريّ، ضدّ الوعود الكاذبة التي تربط حريّة النساء بإتمام عقد الزواج، وضدّ نظام اقتصاديّ يحوّلهن إلى أدوات لتحقيق الأرباح عبر بيع أحلامٍ زائفة.
هذا الفيلم يفتح أعيننا على مسؤولية كلٍّ منّا تجاه مقاومة هذه المنظومات، سواءً من خلال كسر الصورة النمطيّة لـ”المرأة المثالية”، أو رفض الإغراءات الرأسماليّة التي تستهلك أجسادنا وعقولنا.
هو دعوة حقيقية إلى كسر الكراسي الهشّة التي جلسنا عليها طويلًا، والضحك على القيود بدلًا من الخضوع لها كما فعلت “وردة” في نهاية الفيلم. فلا يجب أن ننتظرَ عصا سحريّة لتحيكَ لنا “فساتيننا البيضاء”، حيث أنّ الحرية لا تُهدى، بل تُنتزع.