اعتراف قضائي بزواج مدني عن بُعد.. خطوة جريئة في وجه هيمنة الطوائف في لبنان

في خطوة تُعدّ سابقة قانونية في لبنان، أصدرت قاضية الأحوال الشخصية في بيروت، فاطمة ماجد، حكمًا يُقرّ بصحة عقد زواج مدني تم عن بُعد.

العقد المدني أجراه الزوجان أمام موظف رسمي في ولاية يوتاه الأميركية، رغم وجودهما في لبنان أثناء إتمامه.

صدر القرار بتاريخ في 22 أيار/ مايو 2025، وهو يُعدّ واحدًا من أبرز الأحكام القضائية في ما يخص الحق في الزواج المدني في بلد ما يزال يخضع نظامه الشخصي لهيمنة المحاكم الدينية والطائفية.

استند الحكم إلى المادة 25 من القرار 60 ل.ر، التي تقرّ بصحة الزواج المدني المعقود في الخارج، واعتبرت أن الزواج “عن بُعد” أمام موظف رسمي في ولاية يوتاه الأميركية، ووفق قانونها، يُعدّ زواجًا مُنعقدًا في الخارج، بغض النظر عن موقع الزوجين الفعلي.

ورغم أن القانون اللبناني لا يمنع تسجيل عقود الزواج المدني المعقودة خارج لبنان، إلا أن الواقع يُظهر عراقيل منهجية تضعها بعض الإدارات الرسمية، خصوصًا عندما يتعلّق الأمر بزواج لبنانيين/ات على الأراضي اللبنانية عبر منصّات عن بُعد. هذه العقود غالبًا ما تواجه بالرفض من قبل دوائر النفوس، في تعبيرٍ واضحٍ عن الصراع بين النصوص القانونية والذهنية الطائفية التي تتحكّم بمفاصل الدولة.

قراءة في الحكم: تعزيز دور القضاء وتحييد الإدارة العامة

تضمّن الحكم حججًا مهمة، شدّدت على ضرورة تفسير القوانين بطريقة توفّر أكبر حماية ممكنة للحقوق الفردية المكرّسة دستوريًا ودوليًا، ، لا سيما حرية المعتقد، والحق في الزواج، وتكوين أسرة، والمساواة أمام القانون، وبما يواكب تطور المجتمع والتكنولوجيا، ولا سيّما الوسائل الإلكترونية الحديثة.

وتهدف هذه الحجج إلى تعزيز حرية الأفراد في تقرير شؤونهم الشخصية، والحدّ من هيمنة الطوائف الدينية على قضايا الزواج

واعتبر أن الحق بالزواج لا يحتاج إلى قانون خاص لإقراره، بل إن الأصل هو الإباحة، مع حق المشرّع في تنظيم الشروط دون المسّ بجوهر الحق.

كما أكّد أن صلاحية المديرية العامة للأحوال الشخصية هي إدارية محضة، ولا تشمل تقدير صحة الزواج. وأن أي خلاف بشأن قانونية الزواج يجب أن يُفصل فيه قضائيًا، ما يعزّز مبدأ فصل السلطات.

وبالتالي، فإنه يتبنّى دورًا رياديًا للقضاء في تفسير وتطوير القوانين، لا سيما عند تغيّر الظروف الاجتماعية والتكنولوجية.

وعملًا برفض التفسير الحرفي لعبارة “الزواج المدني المعقود في الخارج”، اعتبر القرار أن العبرة لانعقاد الزواج وفق قانون أجنبي وليس لمكان وجود الزوجين.

ولا شك في أن هذا التوسيع ضروريًا لضمان المساواة وعدم التمييز، في ظل العوائق المادية والسياسية التي تمنع بعض المواطنين من السفر.

رد على وصاية المؤسسات الطائفية: هل ينتصر الحق الشخصي على سلطة الطوائف؟

الحكم الصادر عن القاضية فاطمة ماجد لا يعترف فقط بشرعية العقد المبرم، بل يكرّس مبدأ جوهريًا: أن الحرية الشخصية، بما فيها حرية اختيار شكل الزواج، حق دستوري لا يجوز مصادرته تحت أي ذريعة دينية أو تقليدية. من خلال هذا المنظور، يبدو الحكم بمثابة ردٍّ قانونيٍّ مباشر على وصاية المؤسسات الطائفية على حياة الأفراد، وخصوصًا النساء، اللواتي كثيرًا ما يدفعن الثمن الأعلى ضمن منظومة الأحوال الشخصية الطائفية.

تكمن أهمية هذا الحكم في نقطتين أساسيتين:

1. الاعتراف بزواج مدني مُبرم عن بُعد، من داخل لبنان، عبر ولاية يوتاه الأميركية، ما يُبطل حجة “ضرورة التواجد خارج الأراضي اللبنانية” التي تروّجها بعض الإدارات الرسمية لرفض تسجيل هذه العقود.

2. ترسيخ مبدأ أن الدولة ليست امتدادًا للمؤسسة الدينية، بل يجب أن تضمن الحريات المدنية، وعلى رأسها حرية الزواج، بوصفها حقًا أساسيًا منصوصًا عليه في الدستور.

ومن منظورٍ نسوي، يحمل هذا الحكم أبعادًا بالغة الأهمية. ففي بلد يُقنّن العنف المؤسساتي ضد النساء من خلال قوانين أحوال شخصية مجحفة وغير موحدة، يفتح هذا القرار نافذة قانونية جديدة تتيح للنساء والرجال الخروج من قبضة المحاكم الدينية، واللجوء إلى مؤسسة مدنية تعترف بمواطنيتهن/م لا بطوائفهن/م. ولعلّ هذا ما يجعل من هذا الحكم أكثر من مجرد إجراء قضائي؛ بل لحظة قانونية مشحونة بالدلالات السياسية والحقوقية.

في ظل هذه السابقة، يُطرح السؤال مجددًا: متى يُقرّ في لبنان قانونًا موحدًا للأحوال الشخصية، يحترم كرامة الأفراد، ويكفل للنساء تحديد مصيرهن خارج وصاية رجال الدين؟

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد