بيروت تخنق نساءها: نوع جديد من عنف غير مرئي

حنين (اسم مستعار)، وُلدت في منطقة الغبيري في بيروت، عملها في بيروت ولكن ماذا عن سكنها؟ “الله أعلم ما بعرف، عندي بيتين واحد ببيروت لأن قريب من شغلي وواحد تاني بمنطقة جبل لبنان لمن بدي إتنفس! كل الأسبوع خنقة وروايح وضجة وكركبة، شو بدي أعمل أخدنا بيت بمحل تاني لنضل عايشين”.

حنين محظوظة جدًّا، فوضعها المادي المستقر نوعًا ما ساعدها أن تضع خطة بديلة، الأمر الذي اختلف مع ياسمين (اسم مستعار)، الزوجة والأم التي تحلم بمغادرة بيروت، مدينة أحلامها التي خذلتها…

“طول عمري كنت إحلم إسكن ببيروت وسكنت، بس اليوم بقول يا ريتني بفل، ولادي التلاتة معن حساسية ربو، من ضغط المصانع والسيارات والموتورات، شو بدنا نعمل الله يحمي هالولاد ويخلصنا”.

شهادتان من نساء في موقعين مختلفين اجتماعيًا، لكنهما تتقاطعان في حال مشترك: بيروت لم تعد صالحة للعيش، لا سيما للنساء.

بين الضجيج والتلوّث، تتحوّل المدينة إلى مساحة عنف غير مرئي، عنف لا يُوثَّق، لكنه يخترق الجسد والنفس، ليبقى السؤال: كيف تحوّل التدهور البيئي الذي تشهده بيروت إلى شكل من أشكال العنف والتمييز الجندري على النساء؟

التلوث البيئي في بيروت

لم تكن بيروت في الآونة الأخيرة مدينة صديقة للبيئة، فالمشكلات البيئية تحاصرها من كل حدب وصوب، من ملوثات ناتجة بشكل رئيسي من المولدات الخاصة لتوليد الكهرباء، بحيث ارتفعت ساعات تشغيل المولدات من حوالي 3 ساعات يوميًا في 2010 إلى ما يقارب 20 ساعة منذ 2019 (الأزمة الاقتصادية)، بحسب تقرير لموقع “لوريان لوجور”.

وبحسب دراسة أعدتها الجامعة الأميركية في بيروت، تبيّن أن معظم ملوثات مدينة بيروت هي من الجسيمات الدقيقة، والناتجة بشكلٍ رئيسي من حركة المرور ومولدات الديزلتظهر تلك الدراسة أن هذه الجسيمات تُعد من الملوّثات الخطيرة التي تؤثر على الصحة العامة وتزيد من احتمالية الإصابة بأمراض القلب والجهاز التنفسي والسرطان.

وفي دراسةٍ حديثة أجرتها جامعة القديس يوسف في بيروت بالتعاون مع جامعة قبرص، تبيّن أن هواء بيروت ملوّث بشكل خطير بجسيمات دقيقة ناتجة عن المولدات الخاصة وزحمة السير، خصوصاً خلال فصلي الربيع والصيف. المستويات المسجّلة من هذا التلوّث تفوق بكثير ما يُعتبر آمنًا بحسب منظمة الصحة العالمية.

النساء، بسبب بقائهن لفترات أطول داخل المنازل وغياب التهوية الجيدة، يتعرّضن لهذه الملوّثات بشكلٍ أكبر، خصوصًا أثناء الطبخ والأعمال المنزلية. وهذا ما يجعل من النساء الفئة الأكثر تضررًا صحيًّا في هذا الواقع البيئي الخطر.

لا يقتصر التلوث البيئي في بيروت على مولدات الديزل، فيتبعه أيضًا أزمة النفايات، انتشار المصانع، وأزمة المرور، مما يجعل من تلك العاصمة بؤرة لقتل النساء بأشكال مختلفة. ففي دراسة نشرت عام 2011، تبيّن أن مستويات الضوضاء في بيروت زادت بنسبة 400٪ مقارنةً بمعايير منظمة الصحة العالمية؛ حيث شكلت زمامير السيارات، مولدات الكهرباء، وحفريات البناء اللا منتهية في الأحياء السكنية، مصادر مهمة لتلك الضوضاء، مما ساهم بشكاوى مستمرة من المواطنين، لا سيما من الصداع وفقدان السمع.

تفاقم الوضع مع الأزمة الاقتصادية التي اجتاحت لبنان، حيث لجأ/ت المواطنون/ات إلى قطع الأشجار للاستفادة منها كمصدر رئيسي لحطب التدفئة، في ظل شح الموارد وغلاء الأسعار. وإلى جانب ذلك، ساهمت الطبقة السياسية في تقليص الغطاء النباتي في بيروت عبر تحويله إلى أداة لخدمة مصالحها السياسية والتجارية المتعلقة بالتوسع العمراني. هذه العوامل أدت إلى تراجع عدد الأشجار في العاصمة، والتي تلعب دورًا حيويًا في امتصاص الملوثات الجسيمية وتنقية الهواء من خلال توفير الأكسجين اللازم للحياة.

ومع كل تلك الأزمات البيئية، يبقى السؤال واحدًا: هل بيروت آمنة بيئيًّا للنساء؟

لا مفرّ من الاختناق: حين تتحوّل الجغرافيا والسياسة إلى عنف صامت ضد النساء

كان لشريكة ولكن لقاء مع الدكتورة نجاة صليبا، النائبة في البرلمان اللبناني والأستاذة الجامعية التي تناولت لسنوات طويلة دراسة الملوثات في بيروت.

أكدت لنا أنها خلال الدراسة لاحظت وجود مناطق هشة بيئيًا في المدينة، تتقاطع فيها الجغرافيا مع النوع الاجتماعي، بحيث تكون النساء على مسافة قريبة جدًا من مصادر التلوث البيئي.

“بدي خبرك عن كتير نساء ببيروت، موتورات الكهرباء بشوفوها من شبابيكهن! من بنايات ما فيها منفس، يعني بحال صار في حريق ما فيه مجال للهروب، وبالتالي مصيرهن محتوم: الاختناق والموت”.

أخبرتنا النائبة عن قصة حقيقية لامرأة وحيدة تتكفل برعاية زوجها المقعد، تعاني من اكتئاب حاد بسبب سكنها في بناية قريبة من مولد كهرباء لا تحتوي على مدخل أو مخرج أو إنذار. بالإضافة إلى حالات أخرى لنساء لا يفكرن في الإنجاب أصلًا لأن بيروت “غير صالحة بيئيًا”.

وعن سؤالنا عن كيفية تعاملها مع الصلاحيات الممنوحة لها كنائبة في البرلمان، أكدت الدكتورة نجاة أنه في ظل وجود “بلطجية”، وتحديدًا أصحاب المولدات المدعومين من السلطة، لا مجال للحل سياسيًا، وحتى إذا توفر بيئيًا، فلن تُتاح السبل للتنفيذ.

العنف البيئي في بيروت: أضرار جسدية ونفسية

من خلال استمارة خاصة لشريكة ولكن، شاركت فيها 60 امرأة من مناطق مختلفة في بيروت (المتن، الأشرفية، عائشة بكار، النويري، الضاحية الجنوبية…)، تبين أن غالبية النساء المعرضات للتلوث في سن الإنجاب، ما يضيف إلى سجل الأضرار مشاكل محتملة للطفل القادم.

أظهرت نتائج الاستمارة ما يلي:

  • حوالي 77٪ من النساء في بيروت يعانين من الربو، التهاب القصبات والمشاكل التنفسية.

  • حوالي 62٪ منهن يعانين من أمراض القلب وانسداد الشرايين.

  • حوالي 64٪ يعانين من مشاكل جلدية.

  • حوالي 58٪ يعانين من مشاكل في الصحة الجنسية والإنجابية.

  • حوالي 87٪ يعانين من الإجهاد النفسي والقلق والاكتئاب.

وللتعمق أكثر في الجانب النفسي المُهمل في مجتمعنا، تواصلت شريكة ولكن مع الأخصائية النفسية جويل زعيتر ناصر الدين، التي أكدت أن “النساء اللواتي يعشن في مناطق مكتظة أو ذات بنية تحتية متدهورة يتعرضن بشكلٍ أكبر للإرهاق النفسي المزمن الناتج عن توتر وقلق دائم قد يؤدي إلى الاكتئاب”.

وأوضحت أنّ “شعورهن بالعجز عن تغيير بيئتهن يفاقم هذه المشاكل، خصوصًا مع تدهور الوضع الاقتصادي”. وأضافت أن “النساء اللاتي يرعين أطفالًا أو كبار السن يعشن دائمًا شعورًا بالذنب إذا كنّ في بيئة غير صالحة للسكن، خصوصًا حين يشعرن أن خطرًا محدقًا ولكن لا قدرة لديهن على مواجهته، ما يحول القلق إلى حالة مرضية مزمنة”.

بحسب الأخصائية، فإن “غياب المساحات الخضراء الآمنة يؤثر بشكلٍ كبير في التوازن النفسي للنساء، ويضعف قدرتهن على تنظيم المشاعر والهروب من ضغط الحياة اليومية. فأثناء المشي، يرتفع هرمون السعادة، بينما عند عدم وجود أماكن للمشي والتفريغ النفسي، يرتفع هرمون التوتر (الكورتيزول). ومع غياب المساحات الرياضية والترفيهية، تجد النساء أنفسهن محصورات داخل أربعة جدران، يعشن العزلة وسط المهام اليومية مثل التنظيف وتربية الأطفال”.

لا تقتصر التداعيات البيئية في بيروت على الأمراض النفسية والتنفسية بل تمتد لتطال صحة النساء الجنسية والإنجابية.

ففي دراسة نشرتها مجلة Environmental Health Perspective، تبيّن أن التعرض لجسيمات الهواء الدقيقة، أحد أخطر ملوثات الهواء، يساهم بانخفاض احتياطي المبيض، واضطرابات في الدورة الشهرية، وتراجع مستويات هرمون AMH، ما يُنذر بتدهور في الخصوبة لدى النساء.

تؤكد نورا، سكان منطقة الحدث-بيروت، أن التلوث التي عاشته لسنوات عدة في منطقتها، ساهم بإنتاج بويضات لا تعيش طويلًا، ما حرمها من الإنجاب سنوات عدة. قبل أن تضطر للخضوع للإخصاب خارج الجسم (IVF – In Vitro Fertilization) وعيش تعب المراحل الطبية كله، لترى طفلتها أخيرًا.

“بنتي أنا اشتريتها، صدقًا كل مصرياتي، كل الطرق، كل التعب النفسي، كل يلي سمعوني حكي إني عاقر، تحملتو لشفت هالبنت”.

في دراسة أخرى أجرتها جامعة فلوريدا الأميركية وجامعة فودان الصينية، أكدت الارتباط الواضح بين التعرّض الطويل الأمد لمجموعة من الملوّثات، مثل الجسيمات الدقيقة (PM₂.₅)، ثاني أكسيد النيتروجين (NO₂)، وثاني أكسيد الكبريت (SO₂) (الناتجين جميعًا عن تلوث الهواء)، وبين ارتفاع معدلات الولادة المبكرة، انخفاض وزن المولود، اضطرابات النمو داخل الرحم، وتشوّهات خلقية لدى الأجنة.

العدالة البيئية الجندرية… الغائب الأكبر عن القانون اللبناني

لمتابعة أبرز الثغرات القانونية في التشريعات البيئية الحالية في لبنان، التي تجعل من بيروت المنكوبة بيئيًّا، ساحةً لتهديد صحة وحيوات النساء، التقت شريكة ولكن بالمحامية بديعة معنية، التي أوضحت أن تداخل صلاحيات قانونية لعدة جهات رسمية -مثل الوزارات والبلديات- يجعل التنسيق شبه مستحيل.

وأشارت المحامية إلى أن الثغرات في التطبيق مردّها غياب التنسيق، مؤكدةٍ أن “القوانين موجودة فعليًا، أبرزها قانون حماية البيئة رقم 444/2002، لكنها لا تُطبيق فعليًا وليس هناك إطار عقابي رادع للمخالفات — لا قانونيًا ولا أخلاقيًا”.

وأضافت أن “النساء في لبنان غير قادرات على رفع دعاوى بيئية مشتركة كمجموعة للإبلاغ عن مشكلات بيئية، إذ لا يوجد قانون صريح يمنحهن هذا الحق، خلافًا لدول أخرى، ما يجعلهن صامتات أمام الضرر البيئي”. كما أشارت إلى “الضغوط السياسية والاجتماعية التي تمنعهن من الوصول إلى حقوقهن حتى لو وفرها القانون شكليًا”.

وعن سبل التغيير، شددت على ضرورة “إدخال مفهوم العدالة البيئية الجندرية ضمن التشريع اللبناني، من خلال منح فرص متساوية للنساء والرجال في صنع القرار البيئي وتعديل القوانين البيئية الحالية، وإدراج مفهوم العدالة الجندرية في الدراسات والأبحاث الجامعية والتي يعول على نتائجها”. وأشارت إلى أهمية “تدريب موظفي/ات المؤسسات الحكومية كالوزارات والبلديات على هذا المفهوم، ودعم المبادرات النسائية البيئية”.

بين القانون والمجتمع: شراكة ممكنة لإنقاذ بيروت من أزمتها البيئية

اقترحت المحامية بديعة معنية عدة حلول قانونية للحد من أزمة بيروت البيئية، جوهرها “إشراك المجتمع المدني في الإصلاحات”.

وأبرزت “أهمية تسهيل حق الوصول إلى المعلومات البيئية بشفافية، خصوصًا عبر وزارة البيئة، لضمان اطلاع المواطنين/ات على مجريات القضايا البيئية”. وأكدت أن “المواطنين/ات يمكن أن يكونوا/يكنّ موارد بشرية فعالة لتطبيق القوانين البيئية، من خلال مشاركتهم/ن في مبادرات مثل فرز النفايات من المصدر والتعاون مع الجمعيات البيئية كحلقة وصل مع الوزارات والبلديات”.

وأشارت إلى أن “غياب الإصلاح السياسي وتراخي الدولة في إصدار المراسيم التنفيذية جعل تطبيق القوانين محصورًا في حبر على ورق، ما أفقدها قيمتها الحقيقية وفعاليّتها في الحماية والتطبيق”.

ومن جهة أخرى، شددت المحامية على أن “التعاون بين جمعيات المجتمع المدني والمحاميات والمحامين ذوي المرجعية القانونية هو عنصر حاسم في مواجهة التحديات البيئية”. واستشهدت بتجربة قضية مطمر الكوستا برافا، “حيث توّج التعاون بين المجتمع المدني والمحامين/ات بتحريك الرأي العام ورفع دعاوى قضائية أمام القضاء بحق المتورطين”.

 

كتابة: سالي جابر، باحثة وصحافية بيئية

 

أُنتِج هذا التقرير بالتعاون مع المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية DRI، ضمن مشروع “أصوات من الميدان”، لدعم الصحافة المستقلة في لبنان.

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد