
التحرّش في أماكن العمل: ثقافة “تسكيت” النساء وقوانين بحاجة للتطوير
قبل نحو أربعة أعوام، وفي أيامي الأخيرة في العمل بعد أن قدّمت استقالتي، تلقيت اتصالًا مفاجئًا من زميلة، بصوت متردّد سألت: “هل سبب استقالتك هو نفسه ما حصل معي؟”. ثم قالت جملة لن تمحى من ذاكرتي: “المدير تحرّش بي حين كنت وحدي في المكتب”.
كان الذنب أول ما اجتاحني، لأنني وقتها لم أعرف كيف أتصرف، أو كيف يمكن أن أحميها، أو حتى إن كان عليّ سؤالها عن التفاصيل، أو عليّ أن أسمعها من دون أي سؤال لكي لا أزيد ألمها.
وفي اليوم التالي، وبعد عودتي للدوام بدأت أسمع الهمسات التي شكّكت بالناجية، حتى من زميلات يعرفن تمامًا أن “حركات” المدير ليست بريئة، فكنت شاهدة على بيئة عمل تسمح للجناة بالإفلات من العقاب وتبرر لأصحاب النفوذ والسلطة، وتجعل الناجيات يدفعن الثمن مرتين.
القصة لم تكن استثناءً، فـ 70% من الصحافيات في لبنان تعرّضن للتحرّش أو المضايقات في أماكن العمل، وفق دراسة لمؤسسة سمير قصير لعام 2024. وفي اقتصادٍ يربط الأمان المالي بسلطة ذكورية، تبقى الأرقام الحقيقية مخفية خلف جدران الخوف و”التسكيت”.
اليوم أعادتني شهادة فتاة عبر مواقع التواصل إلى تلك الحادثة، وأعادت معها السؤال عن غياب سياسات واضحة وآليات محاسبة داخل أماكن العمل، في ظل قانون التحرّش الصادر عام 2020 الذي بقي عاجزًا عن الردع بفعل ثغراته البنيوية. فما هي الإصلاحات القانونية والاجتماعية الضرورية لضمان حماية النساء في أماكن العمل؟
@serenachucrallahh♬ original sound – SERENA!
صاحب “النفوذ” سلطان
سمارا (اسم مستعار)، موظفة قصّتها مليئة بالخوف والشعور بالذنب، بعد أن كسر المدير مساحتها الشخصية، روت لـ”شريكة ولكن” ما حدث معها قائلةً: كنت أعمل في شركة مكاتبها مفتوحة، وفي أحد الأيام، بينما كنت منشغلة بالعمل شعرت بيدين تلامس كتفيّ، بدأ بتدليكها، لألحظ بعد ثوانٍ أنه مديري، وذلك بعد أن اقترب من أذني وهمس: “بدي ريّحك”. تجمّدت، وقلبي خفق بشدة. بعد لحظات دفعت كتفي للخلف وقلت: “هذا يكفي، رجاءً”، ليرد وهو يقبّل رأسي: “أنت مثل أختي الصغيرة”، لم أقم بأي ردّ فعل ولكن في داخلي كنت أصرخ: “لا، أنا مش أختك”.
يتحصّن المعتدون بامتيازات قانونية وبنية أبوية تحميهم، بينما تُترك النساء بلا حماية فعلية، فتتحوّل العدالة إلى امتياز محصور بمن يملك “النفوذ”.
في هذا السياق، أكّدت المحامية مريانا برو، لـ”شريكة ولكن”، أنّ “حماية النساء في بيئة العمل لا تزال محدودة بفعل ثغرات قانونية ومؤسساتية واضحة”، مشيرةً إلى أن “تعريف التحرّش ضمن قانون مكافحة التحرّش الجنسي الصادر عام 2020، يعتمد على عبارة “السلوك السيّئ”، هو فضفاض يترك مساحة واسعة للتأويل، ما قد يصبّ في مصلحة المعتدي”.
View this post on Instagram
تابعت سمارا كلامها ذاكرةً أنها هذه المرة الأولى التي تتحدث فيها عن الموضوع أمام أحد: “أصابتني الحيرة: هل أشتكي؟ أستقيل؟ أخبر زملائي؟ خفت أن لا يصدقني أحد، أو ربما يعتبرونني “عم كبّر الموضوع”، فقررت نقل مكتبي بحجة قربه من المكيّف، ليكون خلفي جدار يحمي ظهري، لكي لا تتكرر الحادثة. وحين وجدت فرصة عمل جديدة، تركت الشركة بلا تردد”.
من أبرز العوائق التي تواجه الناجيات، بحسب برو، صعوبة إثبات النية الجرمية المطلوبة لتوصيف الفعل كتحرّش، ما يضع عبء الإثبات كله على عاتقهن.
وهذا الشرط القانوني يمنع الكثير من النساء عن التبليغ، خصوصًا في ظل غياب أدلّة مباشرة أو شهود، لتبقين بذلك رهينات الشعور بالذنب والخوف.
تكشف هيمنة العقلية الذكورية داخل المنظومة التشريعية عن غياب حماية حقيقية، إذ تتحوّل بيئة العمل غير المنظّمة إلى مساحة لإعادة إنتاج العنف، وتجد الضحايا/الناجيات أنفسهن متهمات بدل أن يكنَّ محميّات. في هذا السياق، لفتت برو إلى “غياب أي نص يُلزم المؤسّسات أو الشركات بإقرار سياسات واضحة لمكافحة التحرّش، أو بإنشاء آلية رقابة داخلية، ما يُفرغ القانون من أدوات الوقاية والحماية الفعلية”، مضيفةً أن “القانون لا يأخذ في الاعتبار علاقة التبعية المهنية بين الموظفة وربّ العمل”.
“الإبلاغ يبقى خطوة ضرورية لمساءلة المعتدين، وتعزيز الوعي القانوني والعدالة الجندرية داخل بيئة العمل”.
المحامية ماريانا برو
بدورها انتقدت “هيومن رايتس ووتش” قانون تجريم التحرّش الجنسي في لبنان لقصوره عن المعايير الدولية، إذ يحصر المسألة في إطار العقوبة الجزائية، متجاهلًا التدابير الوقائية وإصلاحات قانون العمل وآليات الرصد والانتصاف المدني.
أما من الناحية الإجرائية، فتنصح المحامية مريانا برو، الضحايا/الناجيات بـ”الاحتفاظ بأي شكل من أشكال التوثيق: رسائل، تسجيلات، أو شهادات، مع التقدّم بطلب رسمي لضمان سرّية التحقيق أمام القاضي”. فحتى إن بدا المسار صعبًا، اعتبرت برو أن “الإبلاغ يبقى خطوة ضرورية لمساءلة المعتدين، وتعزيز الوعي القانوني والعدالة الجندرية داخل بيئة العمل”.
الحماية الفعلية تستدعي مقاربة شاملة للتحرّش في أماكن العمل، تبدأ بمصادقة لبنان على اتفاقية منظمة العمل الدولية بشأن القضاء على العنف والتحرّش، وتطبيقها لضمان بيئة عمل آمنة وعادلة.
وحماية الموظفات من التحرّش الجنسي تتطلب أكثر من مجرد إلزام المؤسسات بوضع سياسات واضحة للتبليغ والتحقيق الداخلي، على الرغم من أهمية هذه السياسات. لكن الخطر يتضاعف عندما يكون المعتدي المدير نفسه، إذ يُفرض الصمت على الضحايا خوفًا من فقدان مصدر الدخل، خصوصًا في منظومة يسيطر عليها النفوذ والمال. في هذه البيئة، يتحصّن المعتدون بامتيازات قانونية وبنية أبوية تحميهم، بينما تُترك النساء بلا حماية فعلية، فتتحوّل العدالة إلى امتياز محصور بمن يملك “النفوذ”.
كيف يمنع الخوف النساء من التبليغ؟
ريم (اسم مستعار)، عاشت تجربة شبيهة بقصة الشابة سيرينا، التي انتشرت عبر وسائل التواصل. لكن ريم كانت “محظوظة بمدير يحترم النساء”.
“رواق، عم يمزح”، “بيكون مش بقصدو”، و”حرام تقطعي برزقته”!
فبعد أن تعرضت لمحاولة تحرش متكررة من زميل جديد، قررت مشاركة زملاءها بما حدث، لتُصدم بتبريرات ذكورية على الرغم من أنها كانت صادرة من نساء: “رواق، عم يمزح”، “بيكون مش بقصدو”، و”حرام تقطعي برزقته”. لم تتحمل ريم هذا التجاهل، فقررت مصارحة المدير.
رد فعله كان مفاجئًا ومن دون أي أدلة أو تحقيق رسمي، صدّق كلامها وأقال الموظف الجديد، قائلًا: “هذا الشاب كان تحت التجربة وسقط”، مؤكدًا أن سلامة النساء في بيئة العمل أولوية بالنسبة للشركة.
“63% من الضحايا/الناجيات لم يبلّغن عن الاعتداء خوفًا على ما يُعرف بـ”العرض والشرف”، و53.5% مُنعن من أسرهن للسبب نفسه”.
وعلى الرغم من تجربة ريم الايجابية، أكّدت عبير شبارو، الخبيرة في قضايا الجندر، لـ “شريكة ولكن”، أن معظم المؤسسات في لبنان لا تتعامل مع التحرّش الجنسي باعتباره جريمة عنف مبني على النوع الاجتماعي تستدعي إجراءات قانونية صارمة، بل غالبًا ما يُختزل إلى “مشكلة إدارية” تُعالج داخليًا، ما يفتح المجال أمام إفلات المرتكبين من المساءلة، ويكرّس ثقافة الإفلات من العقاب.
وأظهرت دراسة لمنظمة أبعاد أن “63% من الضحايا/الناجيات لم يبلّغن عن الاعتداء خوفًا على ما يُعرف بـ”العرض والشرف”، و53.5% مُنعن من أسرهن للسبب نفسه”، ما يعكس دور العائلة في إعادة إنتاج الصمت بدل الحماية. كما أفادت “42% أنهن لا يتوقعن تصديقهن. هذه النسب تكشف منظومة متكاملة تعمل على “تسكيت” النساء عبر الوصمة، والتبعية الاقتصادية، وضعف القانون”.
“تضطر كثيرات إلى ترك وظائفهن هربًا من بيئة عمل سيئة، ما يعمّق الفجوة الجندرية في سوق العمل”.
من هنا، لفتت شبارو إلى أنّ” غياب الضمانات الحقيقية والسرية أثناء مسار التبليغ، والخوف من تسريب المعلومات أو استغلالها ضد الناجية، يزيد من إحجام النساء عن المطالبة بحقوقهن”، معتبرةً أن “تفكيك هذه الثقافة يتطلب استراتيجيات متوازية أولها إصلاح ثقافة التنشئة الاجتماعية عبر تعليم الفتيات والفتيان منذ الصغر معنى الموافقة، والحدود الشخصية، ورفض إلقاء اللوم على الضحية/الناجية، وتحمّل المرتكب وحده تبعات الفعل”.
ورفضت شبارو الاكتفاء بالتوعية كحل وحيد، مؤكدة أن “تغيير ثقافة السلطة داخل بيئة العمل يتطلب تطبيقًا صارمًا للقوانين، ومساءلةً فعلية للجناة، وتدريبًا موسعًا يشمل أرباب العمل، وأعضاء السلطة القضائية، والمحامين/ات، لضمان فهمهم/ن لخطورة التحرّش كعائق أمام المساواة في العمل، وكأداة قد تُستخدم للابتزاز الجنسي أو لمنع النساء من الترقّي”.
وربطت شبارو بين التحرّش وتراجع المسيرة المهنية للنساء، إذ “تضطر كثيرات إلى ترك وظائفهن هربًا من بيئة عمل سيئة، ما يؤدي إلى فقدان الدخل وفرص التطور، ويعمّق الفجوة الجندرية في سوق العمل”.
للنساء الحق في العمل بأمان وكرامة من دون التعرض للتحرّش الجنسي والعنف، لذا يجب على الدولة والجهات المسؤولة وضع سياسات تبنى على منظور نسوي بنيوي تواجه جذور المشكلة في السلطة الأبوية والتمييز الجندري، بدل الاكتفاء بإجراءات سطحية، إلى جانب سنّ قانون خاص بالتحرّش في أماكن العمل يأخذ في الاعتبار التبعية المهنية والمالية للنساء في الاقتصاد النيوليبرالي، لضمان بيئة عمل آمنة وعادلة ماليًا وجندريًا تحميهن من العنف والتحرّش.
كتابة: مريم دحدوح