
“كيف ما بدنا نخاف؟”.. هل يمرّ ملف اختفاء النساء في لبنان كـ”حالات فردية”؟
“كيف ما بدنا نخاف؟” هذا هو السؤال الذي يتبادر إلى أذهان المواطنات/ين في كل مرة تُصدر فيها القوى الأمنية بيانًا عن “اختفاء فتاة”. لكن المفارقة أن الأمر غالبًا ما يُربط تلقائيًا بـ”خلافات عائلية” أو “أسباب شخصية”، رغم تكرارها حوادث الاختفاء اللافت، لتُعاد بذلك صياغة سردية تُفرّغ الحدث من أبعاده البنيوية، من دون أن تخفف، في المقابل، من القلق المتراكم لدى الناس نتيجة هشاشة العلاقة بينهن/م وبين مؤسسات الدولة.
وكأنّ اختفاء النساء مجرد حادث عرضي، لا صلة له بالعنف القائم على النوع الاجتماعي أو بغياب حماية قانونية ومجتمعية فعّالة لهن. وهكذا، تتحوّل قصص النساء المفقودات إلى مجرد أرقام في نشرات الأخبار: اسم، عمر، تاريخ اختفاء، وربما صورة باهتة. لا مساءلة، لا تتبّع جدي، ولا طرح للسؤال الأعمق: ما الذي يجعل النساء في موقع أكثر هشاشة في ملفات “الاختفاء”؟
تتفاقم المشكلة منذ مرحلة التبليغ الأولى، إذ غالبًا ما يتردد الأهل في رفع بلاغ رسمي خوفًا من “الفضيحة” أو بسبب انعدام الثقة بقدرة المؤسسات الأمنية والقضائية على تقديم إجابات سريعة أو جدية. ويعكس هذا التردد أزمة أوسع في ثقة المجتمع بالدولة، التي لا تتعامل مع قضايا العنف ضد النساء بوصفها شأنًا عامًا، بل تصنّفها “شأنًا خاصًّا” ضمن “المشاكل العائلية”.
الرواية الرسمية مقابل الروايات المتناقضة
منذ بداية عام 2025 وحتى نهاية أيار/ مايو، سُجّلت رسميًا 21 حالة اختفاء لنساء. ثم، بين 1 تموز/يوليو و13 آب/ أغسطس، أعلنت قوى الأمن الداخلي عن اختفاء 16 فتاة إضافية، مشيرة في بيانها إلى أن معظم الحالات “مرتبطة بخلافات عائلية”، وأنه “لا وجود لعصابات خطف منظّمة”.
لكن البيان لم يُقنع الكثيرين/ات. فقد اجتاحت وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي أخبار متضاربة، تحدثت عن عصابات منظمة، وربطت بعضها بما وُصف بـ”عصابات متطرّفة انتشرت مع تأزم الوضع في سوريا”. فقد نشرت يورونيوز تقريرًا أفاد باختفاء ما لا يقل عن 40 فتاة وامرأة في ظروف غامضة، وسط شبهات بنقلهن إلى سوريا على يد “عصابات سورية متطرّفة”. في المقابل، وثّق موقع المسمار أكثر من 19 حالة اختفاء لفتيات ونساء وأطفال بين حزيران/ يونيو ومنتصف آب/ أغسطس. كما انتشر على المنصات الاجتماعية مقطع فيديو يدّعي وجود عشرات الحالات المرتبطة بجهات مماثلة.
من جهته، أشار موقع المدن إلى أن روايات الأهالي تعكس مزيجًا من الخوف الحقيقي على مصير بناتهن/م ومن هاجس “الفضيحة” الاجتماعية، ما يدفع كثيرين/ات إلى التكتم على حالات الاختفاء لتجنّب وصمة العار أو القيل والقال.
إذ أكّد، نقلًا عن والد إحدى المفقودات، أن الرواية الرسمية لا تعكس خطورة الواقع. فوالد المفقودة نتالي سكرية (٢٢ عامًا) أكد ورود اتصال من شخص قال له: “بنتك عندي، وفي بنتين غيرها كمان”. وفي حين لم يقدّم الخاطف المحتمل أي دليل إذا كانت على قيد الحياة، اشترط: “ادفعوا 8 آلاف دولار، وإلا انسوا ابنتكم”.
في المقابل، كرّست الرواية الرسمية فجوة الثقة بين المواطنات/ين والقوى الأمنية، إذ عكست تعليقات المواطنين/ات على الصفحة الرسمية لقوى الأمن الداخلي ارتفاعًا في منسوب القلق والشك، في ظل واقع أمني غير مستقر، وظروف تتّسم بالتضارب والغموض.
كتب أحدهم:
“بنت صاحبي نخطفت من الجامعة من منطقة الحدت وبعدها مخطوفة، حضرتكن شو عم تعملوا؟”
وتساءل آخر:
“حضرتكن كل كم يوم بتنزلوا فتاة مفقودة، كيف يعني ما بدنا نخاف؟”
فيما أبدت إحدى السيدات شكوكًا حيال الروايات الرسمية قائلة:
“ما تآخذني، بس شو قصة اللي عم بصير بالبقاع؟ وشو وضع نتالي سكرية يلي اختفت هيي وثلاثة غيرها؟ لما لجأنا لحضراتكم بأول يوم، رفضتوا تعمّموا البلاغ أو تحققوا إلا بعد يومين!”
يشير التعليق السابق إلى قضية الطفلة اللبنانية ز.د. في جرد بلدة القصر في الهرمل، التي انتشرت أخبار عن تحريرها بعد أن أقدم أحدهم على خطفها من منطقة خلدة، وسلمت الطفلة إلى ذويها. فيما أكدت القوى الأمنية أنها تواصل ملاحقة المتورطين.
وتكررت أيضًا تعليقات تشكيكية أخرى:
“في أكثر من 40 حالة ببيروت بس، كيف يعني ما في حالات خطف؟ في أهل عم يتقدّموا ببلاغ عن بناتهم، وحضرتكم ما عم توضّحوا شو صار معهم.”
هذه الأصوات تكشف جانبًا مسكوتًا عنه من المشهد: اتساع الفجوة بين ما تؤكده القوى الأمنية وما يعيشه الناس يوميًا من قلق وشكّ وخوف. وتُعيد طرح السؤال الأهم: من يحمي النساء اليوم في لبنان؟
هل اختزال الظاهرة في “أحداث فردية” يحلّ المشكلة؟
التعامل مع اختفاء النساء كحوادث فردية يُجنّب الدولة مسؤولية تطبيق القوانين، ويُضعف قدرتها على بناء الثقة مع المجتمع، سواء كأفراد ومؤسسات. فكلما تقاعست الدولة عن إنفاذ القوانين أو تساهلت في المساءلة، ازدادت الهشاشة الأمنية للنساء، واستمر غياب الحماية الفعّالة لهن.
هذه الهشاشة ليست فقط قانونية أو أمنية، بل متجذّرة أيضًا في الأزمات الاقتصادية، والبطالة، والفقر، وكلها عوامل تجعل من النساء الحلقة الأضعف في منظومة العنف.
وعلى المستوى الدولي، يواجه لبنان انتقادات متكررة من منظمات حقوقية وأممية، بسبب تراخيه في الوفاء بالتزاماته في مجال حماية النساء من العنف والتمييز. إن ربط هذه القضية بالبنية السياسية والخيارات الرسمية يُحوّلها من “حادث عابر” إلى ملف وطني يتطلب إصلاحًا جذريًا. فإبراز الطابع البنيوي للعنف ضد النساء لا يقتصر على تشخيص المشكلة، بل يفتح الباب أمام مساءلة حقيقية، تضع سلامة النساء في صلب الأولويات الوطنية.
ما العمل؟
يستوجب هذا الواقع تبنّي سياسات شاملة لمكافحة العنف القائم على النوع الاجتماعي، تبدأ بالتوعية المجتمعية، وتمرّ عبر تعديل المناهج التعليمية، وتصل إلى تطوير أداء الأجهزة الأمنية في التعامل مع بلاغات الاختفاء بجدية وسرعة. كما أن إصلاح المنظومة التشريعية بات ضرورة، من خلال إلغاء القوانين التمييزية وتشديد العقوبات على جرائم العنف الأسري وما يُعرف بـ”جرائم الشرف”.
إلى جانب ذلك، لا بد من إقرار آليات حماية مباشرة للنساء، تشمل مراكز الإيواء الآمن، وخطوطًا ساخنة فاعلة، ودعمًا نفسيًا واجتماعيًا مخصصًا للحالات المهددة. أما الإعلام، فعليه التخلي عن مقاربة تختزل القضايا في “خلافات عائلية”، وأن يتحمل مسؤوليته في تسليط الضوء على السياق البنيوي للعنف ضد النساء.
عندها فقط، يمكن تحويل قضايا الاختفاء من مجرد أرقام عابرة في نشرات الأخبار، إلى ناقوس خطر يفرض التغيير، ويُلزم الدولة بتحمّل مسؤولياتها كاملة، بعيدًا عن التبريرات الجاهزة.